أظهرت تجربة الربيع العربي بمآلاتها الحزينة هشاشة تعويل أصحاب الرؤى والمشاريع الإصلاحية على الدولة الوطنية الحديثة بمؤسساتها المختلفة كإطار ووعاء صالح لإنجاز مشاريعهم الإصلاحية، نظرا لطبيعة الدولة التي تحولت عند النخب الحاكمة في العالم العربي من “أداة للتحرر والانعتاق إلى غول ابتلع الحداثة والمجتمع في الوقت نفسه، وأخضعهما لمصالح خاصة غير إنسانية، وأدى في النهاية إلى تفجير المجتمعات وتشظيها وتشتيتها” وفق المفكر السوري، الدكتور برهان غليون.
برهان غليون.. أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون
في كتابه “المحنة العربية.. الدولة ضد الأمة” الصادر في طبعته الأولى في تسعينيات القرن الماضي، تناول غليون بالتحليل السياسي والمعرفي “السياقات التاريخية والسياسات” التي حولت الدولة الحديثة في فكرتها وتجسيدها المادي في العالم العربي إلى سلطة استبدادية غاشمة، وهو ما يفسر ظهور ما بات يُعرف بعد الربيع العربي بـ”الدولة العميقة” التي أجهضت حراكات الشعوب العربية، ووأدت أحلامها بالتحرر من قبضة الاستبداد وبراثن الفساد.
تحويل الدولة في الفضاء العربي إلى سلطة استبدادية معادية لشعوبها، وقامعة لكل مطالبها الإصلاحية، يثير التساؤل حول مدى اتساع إطار النظام السياسي العربي بمواصفاته القائمة لأي مشاريع إصلاحية، وهل ثمة فرص حقيقية لإنجازها في ظل السلطوية القائمة، والتي كشرت عن أنيابها لتهاجم الربيع العربي بكل شراسة، وهذا هو المعطى القلق الذي يلح على الإصلاحيين من مختلف الاتجاهات ليضعهم وجها لوجه أمام طبيعة الدولة المتوحشة في العالم العربي، التي لا تتوانى عن الانقضاض على الشعوب لقمع حراكاتها ووأد أحلامها.
في هذا الإطار رأى أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة صنعاء، الدكتور عبد الباقي شمسان، أن “المشكل لا يتمثل في الدولة الوطنية، بل في النخب الحاكمة التي احتكرت السلطة، واحتكرت الفضاء العام، وأفضت بحكوماتها وإداراتها المتعاقبة إلى أزمات سياسية وتنموية واقتصادية واجتماعية مستعصية”.
عبد الباقي شمسان.. أستاذ علم الاجتماع السياسي جامعة صنعاء
وأكدّ في حواره مع“عربي21” أن “الدولة الوطنية الحديثة شرط مسبق لإنجاز المشاريع الوطنية السياسية الإصلاحية والتنموية، وإيجاد مشاريع قومية مشتركة سياسية واقتصادية، لذا فلا أرى أن الدولة الوطنية تحولت إلى غول ابتلع الحداثة والمجتمع، بل إن النخب التي صعدت إلى السلطة هي التي ابتلعت الدولة الوطنية، وابتعلت كذلك المشروع الحداثي لمصالحها الضيقة، واحتكرت ذلك كله بتحالفها وعلاقاتها مع أباطرة المال وأصحاب الثروة”.
وأضاف: “ويتجلى ذلك بوضوح تام إذا ما نظرنا إلى النخب العسكرية الحاكمة في كثير من الدول العربية، أو غير العسكرية كحكم العائلات في منطقة الخليج وغيرها التي لم تستطع بمجموعها أن تؤسس لدولة المواطنة، بل ظلت تدير البلاد بنهجها المعروف، وتقايض من خلاله بين الحريات والمنافع المالية والاقتصادية”.
وتابع: “وللأسف فإن الدولة الوطنية في العالم العربي لم تستطع القيام بعملية التحديث والتنمية، بحيث تصهر الهويات ما قبل الوطنية، في هوية وطنية، ومن ثم تفسح المجال للمؤسسة التشريعية لتؤدي وظائفها، ولتوسع مساحات مشاركة الأحزاب السياسية، وإشاعة العدالة الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع بعيدا عن المناطقية”.
ولفت شمسان إلى أن “المنطقة العربية مستهدفة، وفي غمرة ذلك غابت المشاريع العربية والإسلامية، وظهرت المشاريع الطائفية كما في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهو ما يدفع المنطقة للعودة إلى ما قبل الدولة الوطنية، وإعادة ما يسمى تقاسم السلطة، وإعادة إنتاج الجماعات دون استكمال الدولة الوطنية في المنطقة، لذا فإن المطلوب هو إعادة بناء الدولة الوطنية، وتوحيد الكيانات الطائفية في دولة وطنية واحدة”.
من جهته لفت الكاتب والباحث السياسي السوري، أحمد الرمح إلى أن “تعثر المشاريع الإصلاحية في العالم العربي لا يزال سببه الأساسي الاستبداد، سواء أكان الاستبداد الحاكم الرافض للتغيير أم الاستبداد الديني في تشكلاته البشرية الذي يريد تشكيل المجتمع والدولة بحسب رؤيته التاريخية، مستخدما أدوات الحداثة لكنه في الوقت نفسه رافض لها كمنهج للتغيير”.
وواصل حديثه لـ“عربي21” بالقول إن “النظم السياسية المستبدة في العالم العربي غير قابلة للإصلاح، لأن أي عملية إصلاح حقيقية ستنهي تلك النظم” مضيفا أن “المخرج من هذه الأزمة يتمثل من وحهة نظري في اللاهوت الوطني، وأقصد به تخلي الإسلام السياسي عن نظرياته في التغيير، التي تعتمد أدوات عتيقة لا تتناسب مع مؤسسات وهيكلية الدولة الحديثة، وتخلو من البعد الإنساني تجاه الآخر في البلاد غير المسلمة”.
وتابع: “تشكيل تحالف وطني أسميه “اللاهوت الوطني” مع التيار العلماني، بحيث يكون ذلك التحالف استراتيجيا، وليس تكتيكيا، يجعل المواطن مهما كان انتماؤه هو الهدف والرسالة، دون ذلك سنظل ندخل معارك مع الاستبداد ننهزم فيها في كل مرة كما أكدت تجاربنا خلال القرن الماضي”.
وأبدى اختلافه مع أطروحة برهان غليون، خاصة في توصيفه السلبي للدولة الحديثة، وولادة الدولة العميقة التي هي موجودة في كل دول العالم، وليس في مشرقنا البائس فقط، لذا فإن التيار التنويري لا يرى أن الدولة الحديثة عقبة، إنما العقبة الحقيقية تكمن في النخب المستبدة الحاكمة من جهة، وفي الوعي الإسلاموي في التكيف مع الدولة الحديثة من جهة أخرى، والذي كان – وما زال – بطيئا، لأنه يستبطن فكرة الخلافة ويريد إسقاطها على الواقع السياسي الراهن، وهو ما أرى أن الزمن قد تجاوزه بمراحل”، على حد قوله.
بدوره، قال أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الأردنية، الدكتور أحمد البرصان: “الدولة القطرية في العالم العربي مصطنعة وهجينة، ولم تأت بشكل طبيعي في كثير من الدول العربية، بل صنعها الاستعمار، وكذلك فإن غالب النخب العربية الحاكمة هي كذلك من صنع الاستعمار، فهي لا تخدم إلا مصالحها، ومصالح تلك الدول الغربية”.
أحمد البرصان.. أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية
وأردف بالقول: “نحن في العالم العربي نعيش أزمة الدولة، وهذه الدولة مختلف على هويتها، هل هي عربية أم إسلامية أم قطرية، كما أنه يوجد في الدولة العربية مشكل الطائفية، لذا فلدينا في العالم العربي إشكالية وجود الدولة، فهل بالفعل يوجد لدينا دولة بالمعنى الحقيقي لذلك أم إن الأمر على خلاف ذلك”.
وتساءل الأكاديمي البرصان في حديثه لـ“عربي21”: “هل يعقل أن تكون دولة مستقلة في عالمنا العربي تستخدم لغة دولة كانت تستعمرها، وتتداول في بيعها وشرائها ومعاملاتها عملة تلك الدولة المستعمرة؟”.
وعن تعويل الحركات الإصلاحية بمختلف اتجاهاتها الفكرية على الدولة الوطنية لإنجاز مشاريعها الإصلاحية، انتقد “مشاركة بعض تلك الحركات، خاصة الإسلامية منها في العمل السياسي الذي تتحكم بمفاصله مؤسسات الدولة العميقة، مع عدم امتلاك تلك الحركات برامج واضحة تسير على ضوئها”.
وتابع: “ألا تعي تلك الحركات أنها بمشاركتها في مؤسسات الدولة العميقة تقدم لها الشرعية، إضافة إلى أنها في ظل المعادلات القائمة لن تستطيع إنجاز أي شيء مما ترغب فيه وتتطلع إليه، لأنها لا تملك أية صلاحيات حقيقية تخولها من فعل ذلك، وهو ما اكتشفته عمليا من خلال تجربتها في المشاركة، وباتت تدرك أن كل الصلاحيات بيد مؤسسات الدولة العميقة؟”.
وعلى الرغم من سوداوية المشهد السياسي في العالم العربي، إلا أن أستاذ العلوم السياسية البرصان لم يستبعد إمكانية الإصلاح والتغيير، لافتا إلى أن “الأمل يتولد من رحم المعاناة الشديدة التي يعيشها عامة المواطنين العرب في بلادهم، وهو ما يهيئ المناخات والأجواء للمطالب الإصلاحية، بعد ظهور أجيال شبابية جديدة، راكمت من وعيها ومعرفتها بإفادتها من التجارب السابقة، وهو ما يؤهلها لمواجهة تحدي الدولة العميقة ومغالبتها” على حد قوله.
المصدر: عربي 21