ماذا تفعل إن كنت مسؤولاً في بلدٍ تمزّقه أزمة اقتصاديّة لا تستطيع حلّها قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، ومعجباً بالديكتاتوريّات؟ ببساطة، تمنع الحديث عنها. وماذا إن كنت وزيراً في حكومة أغنى رجلٍ في العالم العربي، بينما يرزح بلدك تحت الفقر؟ ببساطة، تمنع الحديث عنه. أم ماذا تفعل إن كنت خفيراً في ظلّ فترةٍ من الأسوأ على صعيد حريّة الصحافة؟ ببساطة، تطالب باحترام حريات السياسيين، وتنادي بقمع الإعلاميين، تمنياً أولاً، ثم إسكاتاً مباشراً. تبدو هذه الوصفة التي تعتمدها الحكومة اللبنانيّة الجديدة كمدخلٍ إلى الوصاية على الصحافة. وصايةٌ ليست بغريبةً عن هذا الإعلام أو هذا البلد الذي كان يخضع لرقابة ومحظورات النظام السوري إبان احتلاله للبنان، ويبدو أنّ البلد يخطو نحوها بخطىً ثابتة يومياً، في مشهدٍ يتزعّمه وزير الإعلام جورج قرداحي.
قرداحي الواصل إلى وزارة كان لبنان يتّجه نحو إلغائها قبل ثلاث حكومات، يتّخذ من ماضيه الإعلامي درعاً في وجه من يسلّط الضوء على رغبته بالوصاية، والتي لا يخفيها هو في أي مناسبة. فـ”ابن المهنة” الذي يتقن اللغة العربيّة الفصحى ويعرفه قطاعٌ واسع من الجمهور العربيّ يتلطّى خلف “تمنّيات” و”ميثاقات شرف” و”لبنان الرحابنة وفيروز” (يبدو أنّه يغفل أنّ البلد كان في حربٍ أهليّة لم يخفها نجم فيروز الساطع أو أنّ الرحابنة ركّزوا في كثير من أعمالهم على الحرب وتأثيراتها). هكذا، عاد الوزير ليرفع سبّابته على الإعلام بعد أقل من شهر على توليه منصبه، بحجّة أنّ “السواد الأعظم من اللبنانيين يشكون من تفلّت الإعلام”. لا يشرح لنا الوزير ماذا يعني بالتفلّت، ولا من أين وصلته الشكاوى، لكنه لا يترك مجالاً للتحليل حين يردف بالأسف على “تضعضع ومصادرة القيم التي تربينا عليها” (لا يشرح ما هي أيضاً)، ويقول إنّ “المبدأ الأساسي للإعلام هو الحرية التي نقدسها لكن حرية المرء تقف عند حدود حرية الآخرين. وهذا مبدأ عالمي فلا يجوز انتهاك حريات وحرمات الناس والاعتداء عليهم بالإشاعات المغرضة وبالشتائم أحيانا”، مضيفاً: “لا يوجد إعلام في العالم يسمح بهذا الأمر فهناك قوانين تضع ضوابط كفرنسا مثلاً التي هي أم الحريات حيث لا يمكن الاعتداء على كرامة السياسيين”. وفرنسا التي يريد الوزير الاقتداء بها، هي نفسها التي قام رئيسها إيمانويل ماكرون بتعويم الطبقة السياسيّة اللبنانيّة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، ما أدى إلى تدمير العاصمة، قبل أن تدمّر السلطة السياسية مسار التحقيق بعد أكثر من عام على عرقلته.
كلام قرداحي جاء أمام وفد من نقابة محرري الصحافة اللبنانية، يوم الإثنين الماضي، والتي لا يبدو أنّ أحداً من أعضائها اعترض على انتهاك الوزير لحريّة الصحافة عبر تصريحين حتى الآن. كان الأول يوم عودته إلى بيروت منتصف سبتمبر/أيلول الماضي لتسلّم منصبه الوزاري، حيث “تمنى” من المطار على الإعلام التوقف عن استقبال “من يقولون إنّ البلد ذاهب نحو جهنّم”. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون هو من أدلى بهذا التصريح قبل عام، وأنّ التقارير والدراسات حول الانهيار اللبناني تؤكد أن البلاد ستحتاج ما لا يقل عن 26 عاماً حتى تخرج من أزمتها، هذا إن بدأت السلطات بالعمل على الحلّ اليوم. تابع قرداحي كلامه للمحررين، قائلاً: “أريد إعلاماً على صورة لبنان الذي نعرفه، لبنان الرحابنة وفيروز. فهذا هو لبنان الجميل وليس لبنان الذي يشهد نوعاً من التفلت بسبب الظروف التي مر بها بلدنا من كورونا والتحركات الشعبية”. لا يعترف الوزير إذن بالأزمة الاقتصاديّة، بل يرى إنّ جائحة كورونا والتظاهرات المطالبة بالحريّة والعدالة والحقوق هي السبب، وهو لا يخجل في التعبير عن “الإعلام الذي يريده”، وكأنّه مخولٌ أصلاً فرض نوعٍ ما من الإعلام والعمل الصحافي، وحظر نوعٍ آخر.
لكنّ قرداحي ليس الوزير الوحيد المفتون بتزييف الحقيقة ومنعها من التداول، بل إنّ لنهج الوصاية هذا خطة حكوميّة يبدو أنّ العمل عليها قد بدأ قبل نيلها الثقة حتى. إذ وجّه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، من عين التينة وهي مقرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري، يوم الثلاثاء الماضي، من خارج السياق ودونما أن يسأله أحد، رسالةً للإعلام قال فيها إنّه “يتابع ما يقال ويكتب ويشعر بأنّ هناك إصراراً على الحديث عن مشكلات”، داعياً إلى “إراحة اللبنانيين”، ومضيفاً “عليكم بالدعاء وعلينا بالعمل”. عملٌ يبدو أنّه يرتكز على التضليل والوصاية وقمع الإعلام، ودعاءٌ يُشبه رثاء الحريّات في لبنان.
المصدر: العربي الجديد