في كتاب “الصدع الكبير” يحاول ماجد كيالي أن يتلمس أسباب استعصاء عمليات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلدان العربية وما آل إليه نموذج الربيع العربي من إحباط وانكسارات، ذلك النموذج الشجاع الذي هدف لتجاوز هذا الاستعصاء والدخول إلى أفق دولة المواطنة الحرة والديمقراطية، وهي محاولة، كما يقول كيالي، ليست أكاديمية، بل محاولة في التفكير السياسي.
وجاء الكتاب بأربعة أقسام: الأول، في اختبارات الدولة والمواطنة والديمقراطية في العالم العربي؛ والثاني، مصادر الصراعات الطائفية وأبعادها ومصائرها؛ والثالث، إشكالية الديني والدنيوي في السياسة والدولة؛ والرابع، كان لنقاش إشكاليات الحالة السورية وهو ما سأركز الإضاءة عليه.
بعد إهدائه كتاب الصدع الكبير إلى علي الشهابي ورزان زيتون وميشيل كيلو وسلامة كيلة لا عجب أن يخصص الكاتب ماجد كيالي فصلا كاملا في كتابه عن سوريا تحت عنوان “نقاش في إشكاليات الحالة السورية”، وذلك لقناعته أن الحالة السورية شكلت حالة خاصة وذلك من خلال طبيعة الصراع وتحوله إلى كارثة مع استعصاء الحل بكل الطرق السلمية والسياسية والعسكرية ومع زيادة التدخلات الخارجية وانعكاس ذلك على مستقبل الحل في سوريا في أي مرحلة قادمة..
بالتأكيد لا يرى الكاتب ما حصل في سوريا من تحطيم للمجتمع وخراب البنى التحتية والفوقية كان بسبب قيام الثورة، وهو ما يوحي من خلال الإجابة على السؤال الأول الذي يتعلق بمعنى الانتصار والهزيمة حيث يقول: “إذ لا يمكن القول إن الثورة انتصرت في حين أنها انكسرت، بل إن المجتمع السوري الذي قامت تلك الثورة من أجله تعرض هو ذاته للتحطيم أو التفكيك.” بل يعيد كيالي ذلك الخراب والدمار أساساً وفي البداية إلى ردة فعل النظام التدميرية لكل مقومات الحياة في المناطق التي قالت “لا” ومن ثم إلى ما آلت إليه الثورة وقواها المعارضة من تشتت وضياع في الرؤية والرؤى.
أما سبب هذا الانكسار أو التكسير فيفسره على أنه يعود لأسباب خارجية وداخلية ويرى الكاتب أن أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الانكسار كانت بالأساس داخلية وهو طبيعة المعارضة نفسها التي تصدرت الثورة، وخاصة بعد السنة الأولى لهبة الشعب السوري، لأنها لم تستطع على مدار عشرة أعوام أن “تخلق كيان سياسي جامع للسوريين ولم تقم بدورها حتى على صعيد صوغ إجماعات وطنية جديدة، توحد السوريين نتيجة سكوتها أو مجاملتها للخطابات الطائفية أو الدينية على حساب الخطاب الوطني الديمقراطي.”
ويضع الكاتب اللوم الأكبر على الفصائل العسكرية “التي تغطت بالإسلام، والتي ادعت إسقاط النظام بالعمل المسلح، فقد شهدنا مآلاتها، فمعظمها سلم مواقعه وحتى أسلحته للنظام أو للطرف الروسي… بعد تدمير المناطق التي سيطر عليها وتم تهجير أهاليها”
وبرغم هذا المآل المأساوي الذي يصوره الكاتب للثورة السورية إلا أنه يفتح كوة إيجابية ينظر من خلالها للثورة السورية حيث يقول: “والفكرة أن الثورة السورية حققت، فعلاً، مهمتها التاريخية في كسر الخوف في قلوب السوريين، وإبقاء شعلة التمرد على النظام وإخراج الشعب إلى الشوارع، أو إلى مسرح التاريخ”
وبرغم هذا الإنجاز للثورة وقوة أثره المعنوي في إمكانية استمرارية الفعل المستقبلي إلا أن الثورة لم تستكمل مهمتها التاريخية والذي بدأتها بكسر الخوف وشحن الشارع بقيم الثورة من حرية وكرامة وديمقراطية لعدة أسباب أهمها حسب الكاتب العسكرة التي ارتبطت بشكل وثيق مع الأسلمة، وارتباط الفصائل المسلحة بأجندات خارجية بحكم المصادر والموارد ومصالح الدول الممولة. وبرغم أن العسكرة أضرت بثورة السوريين وبكفاحهم من أجل حقوقهم في الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية إلا أن الكاتب يؤكد بعد النقد الكبير للفصائل العسكرية وأجنداتها أن الحديث عن العسكرة لا علاقة له بحق السوريين بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة العنف الوحشي للنظام لكن نقد العسكرة من وجهة نظره يأتي من باب أنها كانت مطية لدول شكلتها بمواصفات معينة تخدم مصالحها بغض النظر عن مصلحة الشعب السوري ومآلات ثورته.
ومن الأسباب التي يبينها الكاتب والتي أدت إلى عدم قدرة الثورة استكمال مهمتها التاريخية هو طبيعة التحالفات والمراهنة على الخارج بالتغيير وخاصة وهم معسكر “أصدقاء الشعب السوري” الذي أثبت عدم مصداقيته وانكسار جميع الخطوط الحمراء التي حددها أمام همجية النظام مما انعكس وبالاً على ثورة السوريين ومستقبل بلادهم.
ويذهب كيالي إلى أن فكرة الثورة أو بالأحرى كيف ستكون الثورة وما هي أدواتها للتغيير عند من ساهموا بها كانت تمتزج بالمتخيل والرؤية غير الواقعية لكثير من مفرداتها وعند كثيرين من روادها وأهم هذه المتخيلات من وجهة نظر الكاتب كانت التسليم بفكرة أن “الشعب السوري واحد” التي طرحتها الثورة في البداية كشعار رئيسي حيث إن “مسار الثورة بالشكل الذي تمت عليه، ولا سيما بعد تحولها إلى الصراع المسلح… لم ينسجم مع هذه المقولة شعارا، ولم يؤسس لها هدفاً” وهذا تحليل يمكن أن يختلف معه كثيرون ممن يعتقدون أن وحدة الشعب ليس لها علاقة باختلاف مواقف هذا الشعب السياسية والإيديولوجية وهذا الاختلاف في الرؤى والتوجهات لا يلغي من حيث المبدأ وحدة أي شعب المبنية أصلاً على محددات ليس لها علاقة بسياسات لحظية أو توجهات فكرية فرضتها لحظة محددة بتاريخ هذا الشعب أو ذاك.
والمتخيل الثاني الذي يبني عليه كيالي سبباً آخر من أسباب وصول الثورة إلى ما وصلت إليه هو مقولة حتمية انتصار الثورة وبالضربة القاضية لذلك كانت الانقسامات والخيبات والإحباطات تتضخم وتكبر عند كل تراجع دون نظرة نقدية تقوم بها كيانات سياسية مجربة صاحبة تراث ثوري سابق تعرف متى يمكن أن تتقدم ومتى يمكن أن تتراجع بناء على الموازين المحلية والإقليمية والدولية.
أما المتخيل الثالث وهو الحالة الإرادوية أو الرغبوية التي “تعاملت مع الحالة السائدة بوصفها ثورة، في حين أن الواقع لا يتطابق مع ذلك، فهذه التجربة، لم تستطع أن توجد طبقة سياسية متماسكة، وذات طبيعة تمثيلية، قادرة على إدارة مجتمعات السوريين في المناطق الخارجية عن سيطرة النظام… ولم تستطع أن تفتح مكاتب لها في تلك المناطق التي باتت بمنزلة إمارات عسكرية تتبع هذا الفصيل أو ذاك.” وربما يؤخذ على هذا المتخيل الذي يورده الكاتب أن الثورة هي ثورة بغض النظر عما آلت إليه وما هو الواقع الذي وجدت نفسها فيه، ويجب التعامل معها على أنها ثورة مجهضة أو ثورة لم تحقق أهدافها ويجب تصحيح مسارها وليس نفي صفة الثورة عنها.
وتكاد تكون عسكرة الثورة وارتباطاتها بالداعمين ومصالحهم السبب الرئيسي لما آلت إليه الثورة السورية من وجهة نظر الكاتب حيث يشير إلى متخيل رابع ووهم جديد كان له دور في وقوع الثورة في مشكلات كثيرة وهو تعظيم دور الثورة المسلحة والاتكاء عليها وإمكانية إنجازها ونجاحها في الوصول للأهداف المرجوة من حرية وكرامة ودولة مواطنين “إذ إن الثورة السورية، ولأسباب ذاتية وموضوعية أي خارجة عن إرادتها،… لم تستطع أن تطلق ثورة وطنية مسلحة،… لأنها أصلاً عفوية، وتفتقر إلى التنظيم وللخبرة وللقيادة” وهذا ما سهل من وجهة نظر الكاتب “وقوعها رهينة الدول الداعمة، ورهينة توصيفاتها وأولوياتها وتلاعباتها بثورة السوريين”
وإذا كانت المتخيلات السابقة طغى عليها البعد العسكري فإن المتخيل الخامس الذي ساهم في إيصال ثورة السوريين إلى ما وصلت إليه فهو سياسي بامتياز “ويتمثل في أن الثورة السورية ينبغي أن تحقق أهدافها كاملة، بحساب أنه لا يمكن قبول أقل من ذلك، بعد كل هذه التضحيات والمعاناة” وهو ما يتنافى مع التعامل الواقعي والتكتيكات اللازمة في إدارة الصراعات السياسية، “إذ تخضع لموازين القوى، ولمعطيات القوة الكامنة والظاهرة، وللأوضاع المحيطة أو للمداخلات الدولية والإقليمية.”
في كتابه الصدع الكبير يطرح كيالي كثيرا من الأسئلة ويحاول الإجابة عن بعضها من وجهة نظره، التي قد نختلف معها أو نؤيدها لكنها أسئلة كبيرة يجب على المعنيين التنبه لها كي نصل إلى أسباب الاستعصاء في الحالة العربية وإيجاد الحلول والإجابات لتجاوزها للوصول إلى دولة المواطنة والحرية والديمقراطية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا