الكتاب: أكذوبة أرض إسرائيل
الكاتب: د. محمد البحيصي
الناشر: دار سين للثقافة والنشر والإعلام، دمشق، طبعة أولى 2020
(280 صفحة من الحجم الوسط)
على الرغم من مرور ثلاث وسبعين سنة على قيامها، لم تعد “إسرائيل” المكان الآمن لليهود. فقد كان هرتزل يعتقد أن قيام الدولة اليهودية هو محصلة لفشل اليهود في الذوبان في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، وليس بسبب توارث حلم العودة. وكان يعتقد أن العداء تجاه اليهود سينتهي في حال مغادرتهم للدول التي يعيشون فيها.
وكان الاعتقاد السائد لدى رواد الحركة الصهيونية العالمية أن العرب سوف ينصهرون في اليهود ذوي الثقافة الأوروبية، والذين يمتلكون أدوات الإنتاج لكن أحداً لم يكن يتوقع ظهور مشاعر قومية لدى عرب فلسطين. وكان اسحق إبستين (1862 – 1943) أحد قادة الصهاينة الأوائل الذين اعترفوا بأن مسألة السكان العرب كانت قضية مركزية تواجه الحركة الصهيونية، ولذلك فقد دعا إلى التحالف معهم حيث قال: “إن فلسطين ملك لهذين الشعبين الساميين العريقين”.
ولم تدرك الحركة الصهيونية الخطر الحقيقي للحركة الوطنية الفلسطينية إلا بعد مرور ثلاثين سنة، فقد اكتشفت أنه من المستحيل إنشاء دولة يهودية وسط كثافة سكانية عربية في المنطقة الغربية من فلسطين، كما أن مشاعر الكراهية ضد المستوطنين استفحلت بين السكان العرب الذين أخذوا يستعدون لمقاومة الهجرة الصهيونية وشراء الأراضي.
وفي عام 1917 أصدرت بريطانيا وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن المشكلة التي واجهت الحركة الصهيونية كانت في كيفية بناء قاعدة اقتصادية لاستيعاب المهاجرين من أوروبا. ومع حلول 1936 بدت قضية الصراع العربي ـ الصهيوني في أوضح صورة. وفي عام 1947 تأكدت الحركة الصهيونية من أن إنشاء دولة يتطلب حرباً غير مضمونة النتائج مع الدول العربية.
ومما لا شك فيه أن اعتقاد الحركة الصهيونية بأنهم كانوا ذاهبين إلى أرض غير مأهولة، كان اعتقاداً خاطئاً وسطحياً وتضليلياً. ومثله الاعتقاد أن السكان العرب كانوا مهتمين بتحسين وضعهم الاقتصادي فقط. وقد أثبت مقتل المستوطنين الصهاينة في القسطل بالقرب من القدس خطأ رواية “الأرض القديمة الجديدة” في تصوير فلسطين كملجأ شاعري للصهاينة.
وكانت استراتيجية الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1948 تنفيذا للخطة التي وضعها دافيد بن غوريون و18 من كبار مساعديه السياسيين والعسكريين وقد كتب بن غوريون الوثيقة بيده في 10/3/1948 قبل بدء الحرب وشملت الخطة توزيع فلسطين إلى مناطق جغرافية وأوكل لقادة الهاغاناه مهمة تنفيذها عندما تبدأ الحرب، ولخص بن غوريون الخطة بكل صراحة عندما قال: يجب استحواذ الجيش اليهودي على أكبر مساحة من أرض فلسطين مع أقل ما يمكن من الفلسطينيين، وكان واضحا أن الاحتلال يجب أن يرافقه الطرد الجماعي للفلسطينيين المحليين مع أعمال قتل لدفع الناس للرحيل خوفا على حياتهم.
وتمتد جذور فكرة التطهير العرقي في فلسطين إلى ولادة الحركة الصهيونية التي ظهرت في ثمانينيات القرن التاسع عشر في أوروبا الوسطى والشرقية كحركة إحياء قومي أثارها الضغظ المتنامي على اليهود في تلك المناطق وفي بداية القرن العشرين ربط معظم زعماء الحركة الصهيونية بين الإحياء القومي استعمار فلسطين وكان آخرون ولاسيما مؤسس الحركة تيودور هيرتزل أكثر تأرجحا، ولكن بعد موته سنة 1904 كان التوجه نحو فلسطين ثابتا ويحظى بقبول زعماء الحركة.
إن المفكرين الصهاينة، لكي يجعلوا مشروعهم يؤتي أكله ادعوا ملكية المناطق التوراتية بل اخترعوها كمهد لحركتهم القومية الجديدة وكانوا يعتبرون فلسطين محتلة من قبل الغرباء وأنه يجب إعادة امتلاكها. ومعنى الغرباء هنا كل من ليس يهوديا وكان يعيش في فلسطين منذ العهد الروماني، بل إن فلسطين في نظر العديد من الصهاينة لم تكن حتى أرضا محتلة عندما جاؤوا إليها أول مرة سنة 1882 بل أرض خالية.. وكان الفلسطينيون المحليون الذين يقطنونها غير مرئيين بالنسبة إليهم. وإن رأوهم فما هم إلا جزء من العقبات الطبيعية التي يجب التغلب عليها وإزالتها ولم يكن شيء لا الصخور ولا الفلسطينيون ليقف في طريق استرداد الأرض التي تشتهيها الحركة الصهيونية.
لم تدرك الحركة الصهيونية الخطر الحقيقي للحركة الوطنية الفلسطينية إلا بعد مرور ثلاثين سنة، فقد اكتشفت أنه من المستحيل إنشاء دولة يهودية وسط كثافة سكانية عربية في المنطقة الغربية من فلسطين، كما أن مشاعر الكراهية ضد المستوطنين استفحلت بين السكان العرب الذين أخذوا يستعدون لمقاومة الهجرة الصهيونية وشراء الأراضي.
وكانت نيات الصهاينة قبل الاحتلال البريطاني أواخر سنة 1917 مبهمة لا بسبب عدم وضوح الرؤية والهدف لديهم بل لخشيتهم من أن تقوم الحكومة في أسطنبول بطردهم من البلاد، ولكن عندما كانت ثمة حاجة إلى نشر صورة أوضح للمستقبل لم يكن هنالك أي إبهام. فما كان الصهاينة يفكرون به ويخططون له هو إقامة دولة لهم في فلسطين للهروب من تاريخ من الاضطهاد في الغرب وكان السبيل إلى ذلك هو الاستناد إلى مزاعم توراتية.
إن اللحظة التي منح فيها وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور الحركة الصهيونية وعده سنة 1917 بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين قد فتحت الباب على مصراعيه لصراع لا ينتهي سرعان ما عصف بالبلاد وأهلها.. ولم يكن بالإمكان تحقيق المشروع الصهيوني إلا من خلال خلق دولة لهم خالصة في فلسطين كملاذ آمن لهم من الاضطهاد. كما لابد لمثل تلك الدولة أن تكون يهودية حصراً لا في تركيبها الاجتماعي السياسي وحسب بل في تركيبها العرقي كذلك.
بعد صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي “فلسطين أرض الميعاد ” في باريس عام إ1982، والذي يفند فيه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، التي تقول أن “فلسطين أرض إسرائيلية”، ها نحن أمام كتاب جديد يحمل العنوان التالي: “أكذوبة إسرائيل” لمؤلفه الدكتور محمد البحيصي، حيث يتكون الكتاب من مقدمة، و24 عنوانًا فرعيًا غير مبوبة في فصول محددة، ومن خاتمة، ويتضمن 280 صفحة من القطع الوسط، يفند فيه الباحث الدكتور محمد البحيصي ما يسمى بـ “الحق التاريخي” للإسرائيليين في فلسطين.
إذ يقول الباحث البحيصي : “لا تحتاج لإثبات هذه المسألة سوى أن نقرأ سفر التكوين الذي يتحدث عن رحلة أبو الآباء سيدنا إبراهيم عليه السلام من أور الكلدانية جنوب العراق إلى أرض كنعان، حيث يتكفل هذا السفر بالحديث عن أرض غربة إبراهيم في أرض الكنعانيين، وعلاقة هذا الرجل المبارك مع أهل تلك الأرض طيلة حياته التي قضاها فيها وإلى حين موته، وهي كلها تثبت أن تلك الأرض كانت وظلّت عامرة بسكانها الأصليين، وبأن إبراهيم عليه السلام لم يكن حريصاً على امتلاك شيء فيها ولا موطئ قدم، باستثناء أرض تكون مدفناً لأهله، وهذا ما سيمر معنا في الكتاب من خلال نصوص العهد القديم نفسه، ولا يبقى بعد ذلك سوى الحديث عن الحق الإلهي وهو ما ستتكفل هذه الدراسة ببيان حقيقته” (ص5 من المقدمة)..
المنهج الذي اتبعه الكاتب
تُعَدُّ مهمة استنطاق “الكتاب المقدس” جغرافياً من المهمات الصعبة التي لا تخلو من تكلّف يصبح معه الكتاب تابعاً لا متبوعاً، وتزيد المسألة صعوبة حين لا تجد في الواقع ما يتفق ونص الكتاب مما يدعو غير المنصف إما إلى: 1 ـ تحريف النص ليوافق الواقع، أو 2 ـ تزييف الواقع ليوافق أو يجاور النص.
وإذا لم يتحقق لا هذا ولا ذاك فإنه يذهب أكثر في طريق الخطأ أو الخطيئة فيتم اختلاق نص جديد قابل للتأويل بتمرير مهمة التدليس أو إنشاء واقع يقترب من النص لدرجة إمكانية الإشارة إلى اتفاقهما مع التبرير الاختلاف بتقادم الزمن، أو تداول الأيام بين الناس، وما يخلفه ذلك من تغيرات تطرأ على الإسم وعلى المسمى.
وهذا الأمر أكثر ما وقع كان في المحاولات التي لم تتوقف لحشر النص “العهد القديم” في أحشاء جغرافيا فلسطين، بعد حشره في تاريخها وحين اكتشف الباحثون أنَّ النصوص لا تواتي الواقع ولا التاريخ انكبوا على تفسيرات بعيدة طالت كلاً من النص والمكان، لدرجة ذهب فيها بعضهم إلى أنَّ فلسطين وجوارها لم تكن يوماً مسرحاً لأحداث الجزء الأكبر من “العهد القديم” وشط فكرهم إلى بلاد أخرى ليست فلسطين واحدة منها، ومن تلك البلاد اليمن واليمامة والسودان… وحجَّتهم أنَّ أسماء الأماكن “الكتابية” في هذه البلاد أكثر مشابهة لما وردت به النصوص الكتابية عن تلك التي في فلسطين وجوارها “، وهذا غير صحيح” ـ إضافة إلى مسائل أخرى منها وجود “اليهود” التاريخي في تلك البلاد بشكل أهم مما كانت عليه في فلسطين، ناهيك أن البعض أنكر بالجملة صحة النصوص الكتابية وخاصَة تلك المتعلقة بالمكان مبرراً ذلك بعدم وجودها لا في الواقع ولا في نتائج البحث الآثاري، وهذا كلام فضلاً عن خطئه فإنه يدل على أن قائله لم يقرأ الكتاب جيداً أو أنَه قرأه من خلال حكم مسبق .
الباحث محمد البحيصي لم يمل إلى هذا المنهج “أقصد: منهج تكذيب مجمل الرواية الكتابية” في التعامل مع “النص والمكان” ورأى بأنه المنهج الأسهل لكنه بالتأكيد ليس الأصوب، فالأسهل أن ننكر ثبوت أو صحة نص أو واقعة أو مكان ما، لكن أن تتعاطى مع منهج “ثبوت النص” في نفس الوقت الذي تبحث عن مدى صحته من خلال أدوات البحث فهو الأصعب لكنَه الأصوب، حيث أنه منهج المواجهة والحوار مع الغير وليس منهج إعطاء الظهر والهروب.
ومنهج القرآن في حديث الله سبحانه مع خلقه “فلله الحجة البالغة “. وهذا هو المنهج الذي اتبعه الباحث في التعاطي مع “النص الكتابي” في القضيَتين موضوع الكتاب: “الهيكل” و”أرض إسرائيل”، وهما العنوانان اللذان لعبا دوراً مركزياً ومحورياً في حياة اليهود، وظلَا يؤديان دوراً يزيد وينقص وفق الظروف التي مرت بها الجماعات اليهودية فيزيد في “المزامير وارميا وغيرهما”، وينقص في حال القرب من الأرض إلى حد التجاهل وإعطاء الظهر والرفض والتدنيس كما في “سفر الملوك الثاني وغيره من الأسفار؟”، وكأن القضية لا تعدو كونها أداة لتحريك المشاعر وتحريضها باتجاه لزوم ما لا يلزم في البعد الديني مما يخدم أغراض السياسة وأطماع الملك ومصالح المعتدين القدامى والجدد، تماماً مثلما فعل “الفرنجة” في حملاتهم على نفس الأرض “فلسطين” حيث رفعوا الصليب وشعار “تحرير الأرض المقدسة”، وهم في حقيقتهم لا يقيمون لهذه الأرض أية قيمة على مستوى الديني كما نرى الآن وأكثر، ولكنها سياسة المستكبرين التي تستخدم الدين لتحقيق أغراضها الدنيئة، حيث يدرك الساسة بأن أكثر ما يحرك الإنسان هو أن تجعل له هدفاً مقدساً يستحق أن يضحىَ لأجله بالمال والنفس .
أرض إسرائيل أم أرض لإسرائيل؟
يقول عبد الوهاب المسيري “رحمه الله”: “أما الأرض اليهودية “ارتس إسرائيل” أي أرض إسرائيل حسب الفكر اليهودي فهي الطرف الثالث في الثالوث الحلولي “الإله والشعب والأرض” فهناك وحدة مقدسة بين الأرض والشعب لحلول الإله فيهما وتوحده معهما.
لذا ترتبط الديانات والعبادات الحلولية بأرض محدودة، أو بمكان محدد وبشعب يقيم على هذه الأرض، أو يكون على علاقة ما بها. والحلولية مسألة فكرية مهمة تراكمت داخل التركيب العقلي اليهودي، تتبدى في إضفاء القداسة على الأرض نتيجة الحلول الإلهي فيها ولذا فـ “ارتس إسرائيل” تسمى “أرض الرب” يوشع9/3.
وبالتالي فهي الأرض التي يرعاها الإله، “التثنية 11/12” ثم هي الأرض المختارة، وصهيون التي يسكنها الرب، والأرض المقدسة “زكريا2/12” التي تفوق في قدسيتها أي أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار.
والواقع أن تعاليم التوراة لا يمكن أن تتنفذ كاملة “بزعم اليهود” إلا في الأرض المقدسة فقد جاء في سفر أشعياء “33/24”: “لا يقول ساكن في الأرض أنا مرضت، الشعب الساكن فيها مغفور الإثم” وهو أمر عبَر عنه الرمز الصهيوني “بن غوريون” في أحد تصريحاته بقوله “فإن السكنى في الأرض بمنزلة الإيمان”.
لقد تعمَق التيار الحلولي، وتعمَق الارتباط اليهودي بالأرض مع تدهور اليهودية، ولكنه مع هذا ظلَ ارتباطاً عاطفياً مجرَداً بسبب وجود اليهود كجماعات منتشرة في العالم، ذات جنسيات وأعراق وأصول وثقافات مختلفة، وقد عبَر التراث التلمودي عن هذه الازدواجية بأن شجع على حب “صهيون” والارتباط بها، وحذَر في الوقت نفسه من العودة الفعلية لها، وطالب الحاخامات اليهود بوجوب انتظار “الماشيح” والإذعان لإرادة الإله، وظلَت العودة أمراً محرَماً إلى أن وصل الأمر إلى العصر الحديث مع الحركة الصهيونية”.
جاء في كتاب “منفى” لاسحاق باعر “1980 ـ 1888” وهو يهودي ألماني ويعد من أهم الباحثين في التاريخ اليهودي، والكتاب صدر سنة 1936 في برلين: “أعد الله لكلَ أمةٍ حصَة من الأرض، وحصَة شعب إسرائيل هي “أرض إسرائيل” وهي مكانه الطبيعي، والنفي يعني الاقتلاع من المكان الطبيعي إلا أن يعود إلى مكانه، فتشتت اليهود بين الأغيار يعتبر إذن معاكساً للنظام الطبيعي”.
تُعَدُّ مهمة استنطاق “الكتاب المقدس” جغرافياً من المهمات الصعبة التي لا تخلو من تكلّف يصبح معه الكتاب تابعاً لا متبوعاً، وتزيد المسألة صعوبة حين لا تجد في الواقع ما يتفق ونص الكتاب مما يدعو غير المنصف إما إلى: 1 ـ تحريف النص ليوافق الواقع، أو 2 ـ تزييف الواقع ليوافق أو يجاور النص.
وهنا، يقول الباحث محمد البحيصي.. “أود أن ألفت النظر إلى مسألة في غاية الأهمية غفل عنها الباحثون في هذه القضية الكبرى وهي: أنَ تسمية “أرض إسرائيل” للأرض التي تقع غرب نهر الأردن لم تكن موجودة ولا معروفة ولا متداولة على الإطلاق بين أي من الأقوام التي سكنت تلك المنطقة بما في ذلك الإسرائيليون أنفسهم، ونصوص “العهد القديم” أو “التورتة اليهودية البابلية” تخلو تماماً من هذه التسمية، وسفر التكوين الذي هو أقدم الأسفار وهو الذي تحدَث عن حياة إبراهيم واسحاق ويعقوب “عليهم السلام” في تلك الأرض، ذكر هذه الأرض باسم “أرض كنعان” و”أرض إسرائيل” وهكذا بقية الأسفار. وعليه فإن هذه التسمية محدثة ولم يبتكرها اليهود إلَا بعد قرون من كتابة “العهد القديم”.
وأمَا تسمية “أرض إسرائيل” فقد خلا منها النص الكتابي فلم ترد فيه أبداً وأنا شخصياً أفضل تسميتها بـ “أرض لإسرائيل” بإضافة اللام لإسرائيل وليس “أرض إسرائيل”، وأَرى أن هذه هي التسمية الأدق تاريخياً، لتعبيرها عن محاولات “اليهود” في البحث عن أرض يدعونها وينسبونها إلى “إسرائيل” ويزعمون أنها كانت في زمان ما لهم على الرغم من مخالفة نصوص “العهد القديم وحقائق التاريخ لهذا الزعم، ومع هذا فإلى أي أرض تشير هذه التسمية “أرض إسرائيل”؟(ص ص 16 ـ 17).
هجرة إبراهيم عليه السلام إلى أرض الكنعانيين
في كتاب “القدس في العهد القديم والقرآن الكريم” عاش سيدنا إبراهيم “عليه السلام” حياته الطويلة في أرض كنعان التي ظلَت تسمَى أرض غربته لا يملك فيها شبر أرض إلى أن ماتت زوجته سارة وحزن عليها ولم يكن يملك مساحة قبر يدفنها فيه.
وكما جاء في سفر التكوين “2/4”: على لسان إبراهيم “عليه السلام” وهو يخاطب أهل الأرض بخطاب يثير العطف والشفقة: “أنا غريب ونزيل عندكم أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي” وهذه الحادثة وقعت بعد عشرات السنين قضاها إبراهيم “عليه السلام” في أرض كنعان أو أرض الفلسطينيين
.
وكما جاء في “21/34”: “وتغرَب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة” وبالتالي بعد عشرات السنين من “الوعد” وسارة ماتت في قرية أربع التي هي “خبرون” في أرض كنعان وكان عمرها آن ذاك مئة وسبع وعشرين سنة. وقد ردَ عليه بنو حثّ وهم أصحاب الأرض ردّاً جميلاً يدلّ على تقديرهم وحبهم له.
كما جاء في (23/5): “فأجاب بنو حثّ إبراهيم قائلين له: اسمعنا يا سيدي أنت رئيسٌ من الله بيننا في أفضل قبورنا ادفن ميتك، لا يمنع أحد منا قبره عنك حتى لا تدفن ميتك”.وبعد إصرار إبراهيم “عليه السلام” على أن لا يأخذ الحقل الذي عُرض عليه كهبة من القوم وإلحاحه على شراء قطعة الأرض قبل صاحب الأرض وأخذ قيمتها من إبراهيم “عليه السلام” لتكون أول أرض يمتلكها إبراهيم في أرض كنعان عن طريق الشراء لا عن طريق التغلّب والقهر.
كما جاء في “23/14 ـ 19”: “فأجاب عفرون “صاحب الحقل” إبراهيم قائلاً له: يا سيدي اسمعني: أرض بأربع مئة شاقل فضة ما هي بيني وبينك فادفن ميتك، فسمع إبراهيم لعفرون ووزن إبراهيم لعفرون الفضة التي ذكرها في مسامع بني حث، أربع مئة شاقل فضة جائزة عند التجار فوجب حقل عفرون الذي في المكفيلة التي أمام ممرا الحقل والمغارة التي فيه وجميع الشجر الذي في الحقل الذي في جميع حدوده حواليه لإبراهيم ملكاً لدى عيون بني حث بين جميع الداخلين باب مدينته. وبعد ذلك دفن إبراهيم سارة امرأته في مغارة حقل المكفيلة أمام ممرا التي هي حبرون في أرض كنعان، فوجب الحقل والمغارة التي فيه لإبراهيم ملك قبر من عند بني حث”.
يقول الباحث البحيصي: “كانت هذه الأرض بمثابة مقبرة لإبراهيم “عليه السلام” وأهله ليس أكثر، وهذا النوع من التملّك مختلف تماماً عن ذلك التملّك الذي ركّز عليه النص الكتابي فيما بعد من خلال الطريقة التي تعامل بها يشوع بن نون ومن بعده مع أصحاب الأرض، حيث قصد النص الكتابي التملك بحد السيف وعن طريق الدم للتخلص من أصحاب الأرض، وبمعنى آخر التملّك عن طريق الاغتصاب وليس على طريقة إبراهيم “عليه السلام” وهو صاحب الوعد الإلهي الأول له واستمدّت شرعيتها منه، وكانت مجرّد تكرار له فأيّ نوعين من التملّك هو الشرعي؟!
فإبراهيم “عليه السلام” رفض الهبة مخافة شبهة الحرام بالحياء والحرج، فلماذا قبل الذين جاؤوا من بعده ويدعون الانتساب إليه أخذ الأرض أم هم كما وصفهم المسيح “عليه السلام” “من أب هو إبليس وبأعماله يعملون” بالدم والنار والحديد والمكر والخديعة وهل هم إبراهيميون بفعلهم هذا ؟ وهل كان إبراهيم يقبل مثل هذا الأمر وهو الذي رفض الهبة؟! (ص 24).
والنصوص لم تكتفِ بالتناقض في صيغة الوعد بل تعدَّت إلى التناقض في تطبيقات هذا الوعد ما بين إبراهيم صاحب الوعد وأدعياء وراثته. إضافة إلى ذلك فإن الوعد الذي أعطى لنسل إبراهيم في بعض صيغه تقلص لينحصر في جزء من هذا النسل وبشكل انتقائي.
وجاء في نفس السفر “18/19”: “وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهداً أبديّاً لنسله من بعده..” وهذا النص يعتبر أول محاولة عملية لاختطاف أرض الوعد الإلهي رغم أن النص يشير بوضوح إلى رغبة إبراهيم في أن يكون إسماعيل بكره حاضراً لينال البركة، وليأخذ نصيبه من الوعد لا سيّما وأن إسحاق لم يكن قد وُلد بعد. كما أن العهود السابقة تشير إلى النسل كل النسل وليس بعضه. ومع كل هذا تظل الأرض الموعودة أرضاً غامضة مبهمة لا يعلم لها حدود ولا تخوم. ويموت إبراهيم “عليه السلام” دون أن يتحقق الوعد كما جاء في أعمال الرسل “7/5” ولم يعطه فيها ميراثاً ولا وطأة قدم يعني إبراهيم “عليه السلام”. ودون أن تتضح معالم الأرض الموعودة.. ويأتي إسحاق “عليه السلام” ويعطى وعداً بأرض مجهولة ومحدودة.
كما جاء في سفر التكوين “26/1 ـ 3”: “وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم فذهب إسحاق إلى أبي مالك ملك الفلسطينيين إلى جرار، وظهر له الرب وقال: لا تنزل مصر اسكن في الأرض التي أقول لك، وتغرَّب في هذه الأرض فأكون معك وأباركك لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد وأفي بالقسم الذي قسمت لإبراهيم أبيك”.
ومن النص نعلم أن إسحاق لم يكن يملك من أرض الفلسطينيين شيئاً إلى ذلك الوقت وأنه من المجاعة لجأ إلى أبي مالك ملك الفلسطينيين إلى جرار “شمال غرب بئر السبع” تماماً كما فعل أبوه إبراهيم “عليه السلام”.. من قبل حيث استقبله أبو مالك وأكرمه وأفسح له ليعيش بجواره، وكانت نية إسحاق أن يرتحل إلى مصر فنهاه الله عن ذلك، ووعده بأن يفي له بقسمه الذي أقسمه لأبيه إبراهيم “عليه السلام” ما يؤكد أن الوعد إلى ذلك الوقت لم يكن قد تحقق بعد .
ومات إسحاق “عليه السلام” ولم يتحقق شيء من الوعد.
ويأتي يعقوب “عليه السلام” ويعيش مع أبنائه في منطقة محدودة في الجنوب “ما بين الخليل وبئر السبع” متنقلاً وراء الكلأ مثلما هم أهل البادية، ويظلّ على هذا الحال “الرعوي” إلى أن يغادر مع أبنائه إلى مصر بسبب القحط والمجاعة ومستجيباً لدعوة يوسف “عليه السلام” للالتحاق به ويموت هناك ويبقى أبناؤه وذرياتهم في مصر إلى حين خروجهم مع موسى “عليه السلام”، حيث دامت مدة إقامتهم هناك أربعمئة وثلاثين سنة بنص الكتاب، كانوا فيها يعيشون حياة العبيد تحت نير فرعون.. فأين هذا الوعد والعهد الخاص مع الله؟ ومتى تحقق؟ وإذا لم يشهده المخاطبون به “وهو المعهود في الوعد” ولا ذرياتهم من بعدهم لمئات السنين فلمن هو إذن؟!
المصدر: عربي21