من بين المفاهيم أو المصطلحات الكثيرة التي حازت اهتماماً كبيراً لدى السوريات والسوريين، خلال السنوات التي تلت الثورة، ولا تزال، تحتل “الوطنية السورية” موقعاً بارزاً، سواء في الكتابة، أو المناقشات والندوات والمؤتمرات التي تتناولها. وللمفارقة، لم يقتصر هذا الاهتمام بها على المعارضة وأوساطها الثقافية والسياسية المختلفة، بل حتى أهل النظام ومريدوه، عقدوا لقاءات ومؤتمرات تحت هذه اليافطة، ولكن على طريقة وطنيتهم التي تُماهي “الوطن” بـ”سيّد الوطن”، سيّدهم، فلا يكون “وطنيّاً”، في عرفهم، سوى الموالين للنظام وجيشه، وهذا ليس موضوع المقالة.
الاهتمام النظري الكثيف، بحثاً ونقداً وتحليلاً، في مسألة “الوطنية السورية”، واستطراداً “الهوية السورية”، والسعي إلى وضع تصوّرات وتحديدات لها، يعني ويؤكّد أنّها شيءٌ مفقود، غائب، والبحث عنه مستمر، سواء كان المنطلق استعادة وطنية أو هويّة سورية كانت موجودة قبل أن تمزّقها عقود الاستبداد المديد ثم سنوات الصراع الدامي، أو من باب محاولة بلوَرة ما لم يكن متبلوراً أصلاً، ولم يعرفه السوريون من قبل، بفعل سيادة الانتماءات والهويات الأيديولوجية الكبرى، كالانتماء إلى العروبة (القومية العربية) أو الإسلام (الأمة الإسلامية) أو الأممية (الاشتراكية والشيوعية)، وهيمنتها على الوعي السياسي العام طويلاً.
لكنّ سقوط مشاريع السرديات الكبرى وأحلامها أسقط معه انتماءات كثيرين من المؤمنين بها، وهوياتهم المرتبطة المستمدّة منها. ومما زاد “الوطنية السورية” غياباً أنّ البديل كان ازدهار الانتماءات والهويات ما قبل الوطنية، من تنويعات العشيرة والقبيلة، والطائفة والمذهب، والجماعة العرقية، وحتى النزعات المناطقية، والتعصّب لها، وهو أكثر ما يعبّر عن تمزّق الهوية الوطنية، أو عدم تبلورها. اللجوء إلى انتماءاتٍ كهذه ناجمٌ من فقدان شعور الانتماء إلى دولة وطنية ملموسة وتكريسٌ لهذا الفقدان أيضاً، وهو من ثمار تغوّل النظام القمعي الفاسد، وابتلاعه مختلفَ مفاصل الدولة والمجتمع، فضلاً عن اعتماد طغمة الحكم نهجاً يقوم على تكريس مستويات الانتماء والولاء تلك، لتغدو تدريجياً هوياتٍ نهائية في وعي الأفراد، وبديلاً واقعياً لهم عن انتماء وطني متوهّم، لا وجود حقيقياً له.
على صعيد آخر، من شأن العودة إلى تاريخ نشأة الكيان السوري الحديث، بحدوده الدولية الرسمية، أن تساعد في فهم هشاشة “الوطنية السورية”، وربما تفسّر السهولة النسبية التي استطاع من خلالها نظام الأسد تطبيق وصفة “فرّق تَسُد” الشهيرة. ذلك أنّ سورية، وإن استقلّت عن الانتداب الفرنسي موحّدة، نتيجة فشل مشاريع التقسيم والدويلات الطائفية التي حاول الفرنسيون إنشاءها، باستثناء “لبنان الكبير”، لكنّها لم تكن قد شفيت تماماً من سياسات فرنسا الانتدابيّة التي عزّزت لدى مختلف المجموعات السوريّة تمايز كياناتها الجماعية عن بعضها بعضا، مكرّسةً هويّات فرعيّة، جزئية، في مجتمع ذي تركيبة معقّدة أصلاً، قومياً، ودينيّاً، ومذهبيّاً، فعندما اضطرّت سلطات الانتداب تحت ضغط الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، إلى تلبية مطالب الثائرين، بتشكيل حكومةٍ وطنيةٍ وإجراء انتخابات مجلس تأسيسي يعدّ دستوراً للبلاد، حرصت على توزيع نسب نوّاب المناطق الانتخابية تبعاً للطوائف والمذاهب التي ينتمون إليها، وهو ما استمرّ العمل عليه لاحقاً، في ما يشبه التواطؤ الضمني بين نخبة الحكم الوطني الناشئ.
بعد الاستقلال، لم يُتح للوطنية السورية أن تتفوّق على الانتماءات المختلفة تلك، لأن السعي إلى تفتيت المجتمع لتسهيل السيطرة عليه استمرّ في ظلّ الاستبداد، فباستثناء سنواتٍ محدودة ومتفرّقة من تجربة النظام الديمقراطي البرلماني، في خمسينيات القرن العشرين، رزحت البلاد خلال الشطر الأعظم من تاريخها (ولا تزال) تحت استبداد ديكتاتورياتٍ عسكريةٍ تسلّطية، ومعلومٌ أنه لا مواطنة ولا وطنية حقيقية، في ظل الاستبداد.
أدّت البنية الشموليّة التسلّطيّة التي حكمت سورية دوراً حاسماً في إعاقة الاندماج الوطني للسكان، في هويّة وطنيّة جامعة. لذا لم يكن مستغرباً أن تفعل الحرب فعلها، وتدفع بالصدوع والانقسامات العمودية في المجتمع السوري إلى السطح، فالعصبيّة، عموماً، تشتدّ عند شعور الجماعة بخطر يتهدّد وجودها أو ثقافتها، وهو ما عايشته مختلف الجماعات التي تقطن سورية، وإنْ بأشكال ونسب متفاوتة، ما عزّز وعي أفراد كل جماعة بانتمائهم لها، وزاد من تعصّبهم لهذا الانتماء، ومن نمو مشاعر التناقض بين ما يعتقدونه مصالحهم/ مصالحها ومصالح بقية الجماعات. على هذا النحو، انتعشت مشاريع تقسيم البلاد إلى دويلاتٍ وكياناتٍ إثنية ومذهبيّة، تقوم على العصبيات المُشار إليها، ويبدو أنّ أعداداً متزايدة من السوريين باتت أكثر تقبّلاً لمناقشة أفكار كهذه.
لا تختلف سورية عن غيرها من البلدان التي تتوفر على تنوّع إثني وديني ومذهبي. بقدر ما يمثّل هذا التنوّع عامل غنى للهويّة الوطنيّة في حالات الاندماج الاجتماعي، سيجعل غياب الاندماج من التنوّع نفسه قنبلة شقاق وانقسام في أوقات النزاعات. والشعار الذي تغنّى به شبّان سورية وشابّاتها في ساحات التظاهر: “واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، تبيّن أنّه هدفٌ برسم العمل لتحقيقه، وليس توصيفاً لواقع حال السوريين، بعدما فعلت الحقبة الأسدية فعلها في تفخيخ اجتماعهم الوطني، ونسفت احتمالات اندماجهم.
كان تنوّع البنية الاجتماعية السورية من أهم العناصر التي استغلّها نظام الأسد لتأبيد حكمه، ثم في استراتيجيته لمواجهة الثورة، عبر دفع جماعاتٍ مختلفة في انتماءاتها الدينيّة والمذهبيّة إلى التصارع والاقتتال فيما بينها، وبذلك استطاع القضاء على أي شكل من العمل السياسي الوطني المنظّم الذي يوحّد الفئات المحرومة، اقتصادياً وسياسيّاً، في السعي نحو أهداف مشتركة، أهمّها الخلاص من سبب بلائهم الأول، ممثلاً بنظام الاستبداد. وبتحويل الثورة إلى صراعاتٍ دينيةٍ وعرقية، قُطِع طريق التحوّل الديمقراطي الذي كانت تنشده، ونأت “الوطنية السورية” عن السوريين أكثر فأكثر، من دون أن يلوح في الأفق المنظور أي مؤشّر على أملٍ ما بغدٍ أقلّ سوءاً.
المصدر: العربي الجديد