بعد أشهر طويلة من قيادة روسيا حملة واضحة تعارض تمديد آلية إدخال المساعدات الدولية إلى سورية، لم يشهد مجلس الأمن الدولي أول من أمس الجمعة سجالاً سياسياً كان متوقعاً بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، بعدما توصلت موسكو وواشنطن، عبر قنوات اتصال مشتركة، إلى صيغة توافقية لم تُعرف تفاصيلها بعد، ما سمح بتمرير القرار الذي ثار جدل واسع حوله خلال الشهرين الأخيرين.
ومدد مجلس الأمن الدولي، الجمعة الماضي، آلية معمولاً بها منذ عام 2014 لإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية لستة أشهر، من خلال معبر باب الهوى مع الجانب التركي، أي حتى العاشر من يناير/ كانون الثاني 2022، قابلة للتجديد لستة أشهر بشكل فوري، بعد تقرير يقدمه الأمين العام للأمم المتحدة حول الموضوع. وتوصلت الولايات المتحدة وروسيا إلى صيغة توافقية سمحت بتمرير القرار، بعد سحب مشروعَي قرار آخرين وُضعا للتصويت باللون الأزرق، ليل الخميس الماضي. الأول كان مشروعاً نرويجياً ــ إيرلندياً يجدد للآلية لسنة عبر معبر باب الهوى مع تركيا. وكانت روسيا قد قدمت مشروع قرار خاصاً بها يمدد تقديم تلك المساعدات، ولكن لستة أشهر فقط، ويطالب بتغييرات في عمل الآلية ومراقبة أوسع عليها.
وأثار التوافق الأميركي الروسي تساؤلات حول طبيعة الصفقة التي تمت بين الطرفين، والتي أتاحت تمديد آلية المساعدات، من دون أن تصدر تصريحات في موسكو أو واشنطن تشير إلى طبيعتها. لكن الاتصال الذي جرى بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والذي أوضح البيت الأبيض في بيان أنه تخلله بحث الجانبين “جهود العمل المشترك التي أدت إلى الوصول لاتفاق حول نقل المساعدات الإنسانية عبر الحدود لسورية”، كان التعبير الأوضح عن حجم الاتصالات التي سبقت تمرير القرار في مجلس الأمن. كما أن تصريحات المندوبين الروسي والأميركي خلال الجلسة حملت مؤشرات تظهر حجم التوافق.
وبعد التصويت على القرار قالت السفيرة الأميركية، ليندا توماس – غرينفيلد، إنه “يمكن لملايين السوريين تنفس الصعداء، إذ يدركون أن تقديم المساعدات الإنسانية العابرة للحدود ستستمر للسنة القادمة. هذا الاتفاق الذي توصلنا إليه سينقذ الأرواح، ويسمح بتدفق المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية”. واعتبرت أنها “لحظة مهمة، حيث تمكنت روسيا والولايات المتحدة من التوصل لاتفاق حول مبادرة إنسانية تدعم مصالح السوريين. وهذه لحظة مهمة لمجلس الأمن والأمم المتحدة، أظهرنا فيها أنه يمكننا أن نفعل ما هو أكثر من مجرد الحديث. يمكن أن نعمل سوياً وأن نجد حلولاً لأمور عالقة وصعبة”. وشددت على أن تبني القرار يؤمن تقديم المساعدات للمدنيين في سورية. وقالت: “القرار الذي تم تبنيه لن يسد جميع الاحتياجات على الأرض، ولكن يقدم مساعدات ضرورية، وسنقوم بتوسيع طرق المساعدات”.
من جهته، قال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبنزيا إن “المجلس تمكن من التوصل لنقطة تقارب مهمة بشأن موضوع صعب، هي آلية إيصال المساعدات العابرة للحدود. ونعبر عن امتناننا لجميع أعضاء المجلس، ولزملائنا الأميركيين الذين سعوا إلى تحقيق روح الوفاق، كما كان الأمر في قمة جنيف بين بوتين وبايدن. إن نص القرار الذي اعتمد خطوة مهمة في طريق حل الأزمة السورية وتجاوز تداعياتها”. وأضاف: “في هذا القرار نجد للمرة الأولى إلحاحاً على كيفية تحسين إيصال المساعدات عبر خطوط التماس. وهذا ينسجم مع مبادئ إيصال المساعدات الإنسانية في الأمم المتحدة”. وشدد نيبنزيا على أن “أعضاء المجلس متحدون بشأن الفكرة القائلة إن المساعدات الإنسانية يجب أن تستجيب للاحتياجات العاجلة، ولا سيما الصحة والمياه والأغذية والأدوية، ولذلك منحوا الضوء الأخضر لكي يتم الاستمرار بالآلية عبر الحدود، وتبديلها بآلية المساعدة عبر خطوط المواجهة (التماس)”. وأضاف “سنتابع العملية في الأشهر الستة المقبلة، ويطلب من الأمين العام أن يقدم تقريراً مفصلاً حول كيفية عمل معبر باب الهوى، مع التركيز على شفافية العمليات وإجراءات إيصال المساعدات عبر خطوط التماس. وسيقدم الأمين العام بانتظام تقارير بشأن تطور الأوضاع في ما يخص تحسين ترتيبات المساعدات الإنسانية وتفعيل مشاريع التعافي والإنعاش”. ووصف الاتفاق بالتاريخي منذ سنوات، إذ قدمت واشنطن وموسكو نصاً مشتركاً، معبراً عن أمله في أن تكون هذه نقطة تحول بين البلدين.
وسارع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى الترحيب بقرار مجلس الأمن الدولي. وقال المتحدث باسمه ستيفان دوجاريك، في مؤتمر صحافي عقده بمقر المنظمة الدولية في نيويورك: “تظل المساعدة الإنسانية عبر الحدود شريان حياة لملايين الأشخاص في المنطقة وخارجها، والأمين العام يرحب بقرار المجلس الذي يضمن إعادة التفويض باستمرار المساعدة الإنسانية لأكثر من 3.4 ملايين شخص محتاج، بما في ذلك مليون طفل”. بدورها رحبت وزارة الخارجية التركية، في بيان أول من أمس، “باستمرار آلية إيصال المساعدات الإنسانية العابرة للحدود، التابعة للأمم المتحدة، الفاعلة من أجل تلبية احتياجات الشعب السوري عبر تركيا”. ولفت البيان إلى أن تركيا تنتظر من مجلس الأمن والجهات الدولية الفاعلة، اتخاذ خطوات بناءة ومواقف توافقية لإيجاد حل دائم للأزمة السورية. وأكد أن أنقرة ستواصل دعمها القوي لمحاربة الأزمة الإنسانية في سورية، وستستمر في المساهمة الفاعلة في الحفاظ على وقف إطلاق النار ودفع العملية السياسية إلى الأمام.
وكانت روسيا قد لوّحت باستخدام حقها في النقض لإجهاض المساعي الدولية لدوام تدفق المساعدات إلى الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام. وترى موسكو أن هذه الآلية، المعتمدة منذ سنوات، تعد انتهاكاً لسيادة النظام، وأن المعطيات على الأرض تجاوزت هذه الآلية التي وُضعت إبان صعود تنظيم “داعش” الدراماتيكي في 2014، وسيطرته على نحو نصف مساحة سورية. وكان من الواضح أن موسكو كانت بصدد ابتزاز المجتمع الدولي من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية لها وللنظام السوري، قبل أن “تليّن” موقفها، خصوصاً بعد أن اصطدمت بالإصرار الأميركي على تمديد القرار. في المقابل، لم تحصل واشنطن على كل ما كانت تسعى إليه من وراء القرار، إذ فشلت في إقناع الروس بفتح أكثر من معبر لسهولة تدفق المساعدات الدولية، إذ كان الأميركيون يريدون فتح معبر باب السلامة في ريف حلب الشمالي، ومعبر اليعربية في ريف الحسكة. وكانت الآلية المتبعة منذ 2014، تسمح بدخول المساعدات عبر أربعة معابر حدودية، هي باب الهوى وباب السلامة من الجانب التركي، والرمثا مع الأردن، واليعربية مع العراق. واضطر مجلس الأمن إلى إغلاق ثلاثة معابر العام الماضي بعد اعتراض روسي- صيني، ما أدى إلى اقتصار دخول المساعدات على باب الهوى. وطالبت “الإدارة الذاتية”، ذات الطابع الكردي في شمال شرق سورية، بفتح معبر اليعربية أمام المساعدات الدولية، إلا أن الاعتراض الروسي، المدعوم بموقف تركي رافض، حال دون ذلك.
وفيما لا تزال تفاصيل الصفقة الأميركية – الروسية غامضة، فإنه لا يمكن إغفال أن “التسوية” أتت بعد مباحثات جمعت الأسبوع الماضي مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، مع مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك في جنيف الأسبوع الماضي. ولذلك ستتجه الأنظار خلال الفترة المقبلة إلى طبيعة الخطوات والسياسات الأميركية المتعلقة بالملف السوري، لمعرفة ما إذا كانت ستشهد تغييرات جوهرية، بما في ذلك تشديد “قانون قيصر” من عدمه، وإمكانية تخفيف القيود على بعض أنواع المساعدات، والسماح ربما لبعض الأطراف بالانخراط بإعادة بناء البنية التحتية في مجالات محددة، مثل الصحة والكهرباء ومياه الشرب. ومن الملفات التي يمكن رصدها التطورات في المفاوضات بين “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) والنظام، خصوصاً في ظل العلاقة الأميركية المتينة مع الأكراد. كذلك يبرز ملف إمدادات النفط من شمال شرق سورية نحو مناطق النظام، أو دخول شركات روسية إلى هذه المنطقة للعمل على رفع الإنتاج. كما لا يزال من غير الواضح إذا تلقى الروس وعوداً بفتح أكثر من معبر داخلي بين مناطق النظام والمعارضة، وهو مطلب روسي ملح بهدف إنعاش اقتصاد النظام المتهالك.
ورأى الباحث السياسي في مركز “عمران” للدراسات نوار شعبان، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “لا يمكن القول إنه جرى تمرير القرار بيسر وسهولة”، مشيراً إلى أن “روسيا قادت، قبل أشهر، حملة إعلامية ضده، بالإضافة إلى التصعيد العسكري في محافظة إدلب، والذي كان ورقة ضغط، سواء في جولة أستانة 16 أو في مجلس الأمن”، مشيراً إلى أنه “لم يصلنا ما حدث في أستانة وساعد على تمرير القرار”. ورجّح أن يكون الروس حصلوا على تطمينات لفتح معابر داخلية بين مناطق النظام والمعارضة، مضيفاً: لم يكن مفاجئاً أن يكون القرار لمدة ستة أشهر. وأوضح أنه لا يعتقد أن الجانب الأميركي قدم تنازلات للجانب الروسي، مضيفاً: أعتقد أن هناك تطمينات قدمها الأميركيون للروس للسماح للنظام بالعمل أكثر في منطقة شرقي نهر الفرات، وحول فتح المعابر الداخلية مع النظام بصيغة معينة.
في المقابل، أعرب المحلل السياسي رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده بأن “صفقة روسية أميركية جرت خلال اجتماع بايدن وبوتين في جنيف الشهر الماضي”. وقال: بعد القمة قال بايدن إننا نتوقع من موسكو ألا تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد قرار بشأن المساعدات في سورية، وإلا فإن الأمور ستتعقد بيننا في الملف السوري. وأضاف: لذلك أشار المندوب الروسي في مجلس الأمن إلى أن الإجماع الذي حصل عليه القرار كان ثمرة اللقاء، واتصل الرئيس الأميركي بنظيره الروسي ليشكره على عدم استخدام “الفيتو”. واعتبر زيادة أن الولايات المتحدة فهمت الرسالة الروسية، ولن تقوم بفرض عقوبات على شخصيات أو أفراد روس من خلال “قانون قيصر”.
إلى ذلك، ثمّن فريق “منسقو الاستجابة” الإنساني في شمال غرب سورية قرار مجلس الأمن. واعتبر، في بيان، أنه “سيساهم إلى حد كبير في الحد من الكوارث الإنسانية أو دخول المنطقة في حالة مجاعة حقيقية”. ودعا المنظمات الدولية إلى “إيجاد حلول بديلة إضافية خلال المرحلة المقبلة لغياب أي حلول سياسية للملف السوري”، محذراً الجانب الروسي من “أي عملية ابتزاز سياسي للملف الإنساني لتعويم النظام السوري”. وبحسب فريق “منسقو الاستجابة” فإن المساعدات الدولية عبر آلية التفويض “تشكل 60 في المائة من مقومات الحياة للمدنيين في شمال غرب سورية”.
من جانبه، أشار مدير فريق “منسقو الاستجابة” محمد الحلاج إلى أنه “للمرة الأولى يحدث توافق روسي أميركي في مجلس الأمن في القضية السورية”، معتبراً القرار “نصف نصر”. وقال، في حديث مع “العربي الجديد”، إن المجتمع الدولي رضخ لضغوط موسكو، إذ تأجلت جلسة مجلس الأمن خوفاً من “الفيتو” الروسي. وبيّن أن الآلية هي لمدة ستة أشهر، قابلة للتجديد بناء على تقرير الأمين العام للأمم المتحدة. وقال: سيحدث تفعيل لمكاتب الأمم المتحدة في العاصمة دمشق، وربما هذا الأمر سيمهد لروسيا، بعد ستة أشهر، للترويج لخطوط الإمداد الداخلية، ما يُدخلنا مرة أخرى في متاهات مجلس الأمن. واعتبر أنه “من المعيب تسييس قضية إنسانية، مثل إدخال المساعدات إلى المدنيين في مجلس الأمن وفق أهواء دول”، مشيراً إلى أن مصير نحو أربعة ملايين مدني في الشمال الغربي من سورية معلق بيد المندوب الروسي في مجلس الأمن.
ويسود اعتقاد في أوساط المعارضة السورية أن القرار الجديد “خطوة إلى الوراء”، وأن روسيا ستحاول فرض مرور المساعدات عبر خطوط التماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة إلى شمال غربي سورية، وإنهاء الآلية الحالية التي تتيح إيصال المساعدات عبر الحدود، بعيداً عن سلطة النظام الساعي إلى الاستحواذ على هذه المساعدات، واتخاذها ورقة ضغط لإخضاع المناطق الخارجة عن سيطرته. وانتقدت منظمات حقوقية، بينها أوكسفام ولجنة الإنقاذ الدولية، وهيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية، وأطباء من أجل حقوق الإنسان، مجلس الأمن لموافقته روسيا على السماح بمرور المساعدات عبر معبر واحد فقط لمدة ستة أشهر، ثم تمديدها لستة أشهر أخرى وفق شروط.
وجمعت الدول المانحة، خلال اجتماعات النسخة الخامسة من “مؤتمر بروكسل من أجل سورية”، التي عقدت أواخر مارس/آذار الماضي، نحو 6.6 مليارات دولار أميركي لعامي 2021 و2022، لمساعدة اللاجئين والنازحين السوريين في قطاعات مختلفة، في مقدمتها الصحة والتعليم والإغاثة الإنسانية. وسيكون جزء كبير من هذه المخصصات، ضمن المساعدات الإنسانية الأممية عبر الحدود.
المصدر: العربي الجديد