فادي عزام روائي سوري متميز، هذه الرواية الأولى التي أقرأها له، بيت حُدُد رواية تتحدث عن الثورة السورية، ما قبلها وما بعدها بكل شفافية وعمق وتشعب، عبر أشخاص ابطالها الذين سيكونون جزء من الثورة والتفاعلات التي واكبتها، تطوراتها ومساراتها، فعل كل الأطراف ومآلاتها أخيرا، في الزمن الروائي بعد سنوات من الثورة السورية المنطلقة في ٢٠١١م.
الرواية تكاد تكون روايتين في نص واحد، كقطار يسير على سكتين متوازيتين كل الوقت، يصل بين السكتين خطوط تقاطع عرضي بين سكتي القطار، في الرواية هنا تتقاطع اخيرا أقدار شخصيات المسارين في النهايات المأساوية لإبطال الرواية.
الدكتور أنس الاغواني الطبيب السوري الدمشقي المستقر في انكلترا منذ أكثر من ربع قرن، كان قد درس الطب في سورية وتقاطعت أقداره مع “حنّة” الطبيبة الإنجليزية التي جاءت لدمشق و تعارفا واحبا بعض وتزوجا، وساعدته للذهاب إلى إنجلترا ليكمل دراسته وتخصصه في الجراحة، و لينجب ابنه الوحيد سامي، وليعيش حياة مستقرة في انكلترا، حيث لم يبقى من ذاكرته السورية الدمشقية الا القليل الذي يحّن إليه. لم يبق من أهل د. أنس في دمشق من الاحياء الا خالا له، جاءه اتصال من دمشق يخبره أن خاله توفي وانه اوصى له بتملك بيته في افخم احياء دمشق، البيت المسمى بيت حُدد، سأل المحامي الذي أخبره عن البيت وقيمته، أخبره بأنه يشكل ثروة وله قيمة تاريخية، وأن هناك راغبين بشرائه بسعر مغري. فكّر د.أنس بالماضي الذي عاد حيا بعد عقود، وان الموضوع يحتاج لحلّ، أخذ إجازة من عمله في المشفى، أخبر ابنه سامي الذي بدأ يدخل سن النضج، وكذلك زوجته وغادر الى دمشق. كان ذلك في أواخر ٢٠١٠م . بدأ د.أنس بعد وصوله الى دمشق يبحث عن اصدقائه القدامى من أيام الجامعة. وصل الى صديقه عباس والى صديقته ليل، وأصدقاء آخرين تعددت طرق هؤلاء الأصدقاء، وبعضها تناقض. سورية التي كان قد سيطر عليها النظام وفق تركيبة عسكرية أمنية محكمة، تستخدم البنية الطائفية لأغلب العلويين ليكونوا رصيدها البشري في التحكم بالشعب وحكمه بالقوة والقهر والاستبداد والفساد. اصدقاؤه من كل مكونات الشعب السوري، فمع النظام انتهازيين ومتكسبين من كل الطوائف، وضد النظام ضحايا ومظلومين من كل الطوائف، صديقه الدكتور السابق صار رئيسا لفرع أمني، وآخر رغم انه من الطائفة العلوية لكنه معارض للنظام، اعتقل لسنوات، خرج من المعتقل أكثر جذرية اتجاه النظام، الدكتور الضابط أخبره عندما التقى به، أن سورية محكومة بهذه الطبقة الحاكمة داخليا بالقمع والحديد والنار، وأنه مدعوم وفق توافقات دولية وتبادل مصالح، وأنه لا يمكن اقتلاعه ابدا من سورية، دون تدميرها كلها. كان يخبر صديقه أنس القادم من انجلترا عن المعارضين السوريين الذين لم يستفيدوا من الفرصة التي قدمها لهم النظام بعد وفاة الأب واستلام الابن للحكم، كان يجب أن يستفيدوا مما قدم لهم، خير من أن يخسروا كل شيء. لاحظ د.أنس التغيرات التي أصابت البلد، وكيف بدأت تتحول الى بلد منفتح اقتصاديا، وظهرت الحيتان التي تبتلع البلد من عائلة الرئيس ومن المقربين حوله. في موضوع البيت اكتشف أنه أصبح مالكا تحفة أثرية؛ البيت الذي عمره آلاف السنين، والذي يحوي تاريخ دمشق بدأ من (الإله حُدد) الى اليوم، البيت الذي فتحه الخال ليكون بيت دمشق وقياداته الوطنية عبر عقود. وجد د.أنس نفسه ضائع بين من يريد ان يشتري البيت من بعض متنفذي النظام، بالترغيب والترهيب، وبين من يشجعه على تسجيله في منظمة اليونسكو الدولية. وكيف باشر هو واصدقائه وكثير من الخبراء بدراسة وارشفة محتويات البيت الأثري المهم. من شبكة علاقاته الجديدة احب المحامية سامية التي بادلته المشاعر، ارتبط هذا بجفاء نفسي مع زوجته حنة. اقترن وجود د.أنس في دمشق مع بداية حراك الربيع العربي ومن ثم الحراك السوري الذي بدأ في الحريقة ومن ثم في الجامع الاموي وسوق الحميدية، وأطفال درعا والكتابة على الجدران واعتقالهم وقتلهم وبدايات التظاهر الذي أصبح بعد ذلك ممتدا على مستوى سورية كاملا. يتابع د.أنس ما يحصل في سورية اول بأول وسرعان ما يكتشف انه منغمس في كل ما يحصل وبدأ يشارك مع اطباء آخرين في مشافي ميدانية لمعالجة المصابين من المتظاهرين وناشطي الثورة، فيما يتعلق بالبيت قرر أن يسوّف مع من يرغب في شرائه إلى أن يستطيع أرشفة كل ما فيه وأنه يسجله في اليونسكو للتراث العالمي، لكن الثورة السورية وتسارع أحداثها و انغماسه بها مع سامية وكثير من الناشطين جعلها مؤجلة إلى إشعار آخر. كان قد طلب سامي من والده د.أنس أن يحضر لسورية ويرى بيت العائلة ويتعرف على الأجواء، جاء وتعرف على البيت الأثري وعلى نشاط والده وعلى سامية التي تكاد تكون زوجة لوالده، تفهم ذلك وعاد لإنجلترا وساهم بانفصال والده عن والدته مع قليل من الجروح النفسية. انخرط د.أنس وسامية في مناشط الثورة ومشافيها الميدانية، حتى جاء يوم واعتقل هو وسامية. دخلا في عالم من الجحيم. اطلع على واقع الاعتقال؛ التعذيب الذي يزهق أرواح الناس دون أي حساب، غرف الاعتقال الأقرب للجحيم، الموت البطيء، البشر المكتظين فوق بعضهم، البشر المجهزين للموت، الميتين المحولين إلى أرقام، المعتقلين الذين يجنّون، المعتقلون المحولون الى مشفى المجانين ليصبحوا بشرا متوحشين ينتظرون موتهم البطيء. عاشر د.أنس كل ذلك. عايش اعتقال وقتل الناشطين، عايش تحويل سورية كاملة الى منطقة صراع إقليمي ودولي والناس كل الناس هم الضحايا. بعد فترة من الاعتقال وما بين الموت والحياة يستدعي مسؤول أمني ويخيّره بين أن يتعاون معهم أو يموت كغيره في المعتقل. العرض كان بأن يشارك كطبيب جراح في عمليات نزع أعضاء من المعتقلين وبيعها واستخدامها من قبل النظام، وتركهم للموت بعدها. عاش صراعا نفسيا انتهى بقبوله بالعمل على أمل أن يكون له هناك مخرج من الموت المؤجل الذي يعيش به. بدأ يقوم بعمليات نزع أعضاء مختلفة من أجساد شباب وصبايا وصغار وكبار، تأذى نفسيا كثيرا ولكنه أصبح مع الوقت شبه معتاد. حاول التقرب من المسؤول عن المنشأة وحدثه عن صفقة رابحة على أن يساعده على الخروج من الجحيم الذي هو فيه، ومساعدة حبيبته سامية للخروج من المعتقل ايضا. كانت الصفقة أن يعطيهم بيت حدد مقابل ان يطلق سراح سامية وسراحه أيضا ويخرج الى انكلترا. يتم التوافق على بيع البيت لرجل إيراني بشكل صوري وهو لا يستلم شيئا من المال، ممثلي النظام هم الذين يقبضون وهو يوقع. يعمل على اخراج سامية من المعتقل، أما هو فلا والسبب انه اصبح مطلوب دوليا على انه الطبيب المسؤول عن قتل الالاف من الشباب في عمليات سرق اعضائهم الداخلية، وانه سيسلم لداعش التي ستقتله انتقاما مما فعل. رضي بموته مقابل خروج سامية من المعتقل. خرجت سامية وسُلمت للثوار في المناطق المحررة في الشمال، أما هو فقد سلم لداعش التي شاهد فيها كل ما يتناقض مع الإسلام ومع انسانية الانسان. كان يجهّز ليكون رسالة عبر قتله للغرب: انجلترا وامريكا عبر فيلم يخرج بطريقة سينمائية متقنة ليذبح ويصور للعالم كله بصفته مجرما يستحق القتل بحكم شرعي من شرعيي داعش.
الذي أنتج فيلم ذبح د.أنس هو المخرج الاعلامي فيدل عبد الله. ستكون حياة (فيدل- فضل) عبد الله هي المسار الآخر في الرواية. فيدل عبد الله شاب من ريف دمشق ترعرع في وسط عائلة متناقضة عقائديا، اب شيوعي مدمن على الكحول واخوال متدينون جدا، الاب يحاول أن يزرع في ابنه أفكاره الشيوعية ونظرته الخاصة للحياة وأخواله الذين يزرعون فيه التدين وحفظ القرآن وتعلم الإسلام والتاريخ الإسلامي. توفي والده مبكرا شبه منتحر، هو دخل الجامعة ليدرس الحقوق كما وعد والده، في الجامعة تعرف على فتاة يسارية متحررة، أخرجته من تدينه واعتزاله، وجعلته يرى الحياة بمنظار مختلف. اكتشف انه لم يخلق للمحاماة بل للعمل الاعلامي، تقدم بطلب للمركز الثقافي الانجليزي في دمشق ووافقوا له على حضور دورة في انجلترا. اعتقلت صديقته اليسارية. وأصبح هو ملاحقا، هرب بمساعدة رفاق صديقته الى لبنان ومن هناك إلى إنجلترا حيث بدأ في دورته الإعلامية. في انجلترا احتاج إلى السند المادي والمعنوي ليستطيع الاستمرار بالعيش، وتعرف على إحداهن انكليزية كانت قد فقدت زوجها بعد تجربة حب فريدة، أصبحت مع فيدل في علاقة تطورت، ساعدته في اكمال دراسته الإعلامية، وحصوله على الاقامة والاستقرار. ومن ثم مرضت وماتت، استفاد من بيتها التي تركته له لسنتين، مع مبلغ كبير من المال صرفه مع صديقة أخرى في سياحة عالمية عاد منها مفلسا دون اي امكانية. توجه إلى دبي وأسس هناك مؤسسة اعلانية ستكون لها شهرتها و مواردها الكبيرة. يعيش فيدل حياة عزوبية مزمنة، لايؤمن بالزواج، له مئات العشيقات والعلاقات، يحصل على الكثير من المال، ويصرف الكثير منه. سيصبح فيدل عبد الله واحدا من اباطرة الاعلان في العالم العربي. سيأتي له من يطلب منه المساهمة في تزييف ما يحصل في سورية بلده الذي تركه منذ عقود و بمردود كبير جدا. يذهب في رحلته الأولى ويتعرف على الوجه الاخر لسورية؛ الطبقة الحاكمة ونخبتها، المستفيدة من كل ما يحصل في سورية، من القتل والتدمير، واعادة الاستفادة من الخراب الاجتماعي والاقتصادي لسورية. يتعرف على الدكتورة ليل من الطائفة العلوية متزوجة ولديها طفلان، احبها واحبته، وبدأ واياها نسج علاقة حب مجنونة، من خلال تهتكها وتحديها للمحيط الاجتماعي. زوجها طبيب ايضا، يعيش في احلام ان يستثمر مع آخرين من مقربي النظام وعصبته و طائفته في مشفى يريد الزوج المشاركة بها، والثمن كان أن تقدم ليل جسدها ثمنا لمدير المشروع، أصبح الزوج يغري زوجته ببيع نفسها للصفقة وهي احتقرته ورفضت، وكانت قد التقت فيديل واحبته وبدأت تلتقي به وتخبره عن ما يحصل معها، وهو يعاشرها ويحميها، لكنه كان سببا بفضيحتها معه، الأب أخبر أولادها وأصبحت حياتها جحيم. تركها وغادر الى دبي مجددا، وسرعان ما التجأت إليه لم تعد قادرة على العيش بعيدا عنه. أمّن لها عقد عمل في مشفى في دبي احضرها الى هناك ومن ثم حضر زوجها واولادها، دبي والخليج الذي أصبح مأوى لكل متمولي واذناب النظام وناهبي سورية عبر عقود. وعادت علاقتهم لجنونها، واثرت على العائلة واستقرارها واحترام الاولاد لامهم، والزوج الذي يأكل ذاته ندامة على ما فعل سابقا وما يعيش الان. وقرر فيدل وليل الابتعاد عن بعضهما مجددا. قرر فيدل العودة إلى سورية مجددا ليقوم بتصوير فيلم وثائقي يصور به المأساة السورية بكل تبعاتها على الناس العاديين بما يعيشوا. وبالفعل عاد وبدأ التصوير في مناطق سيطرة القوى الثورية المتنوعة، ويظهر المأساة التي دفعتهم للثورة، ثم ماانعكس ذلك عليهم، ثم كيف أصبحوا وقود المقتلة السورية وضحاياها، كشعب سوري بالكامل. بعض هذه القوى تابع للجيش الحر. بعض المناطق بدأت تسيطر عليه مجموعات داعش والقاعدة. وبدأ يقترب من هؤلاء الاجانب والعرب القادمين الى سورية للقيام بدور في الجهاد العالمي. جاء اليه من اقترح عليه أن يتعاون مع داعش بإخراج بعض عملياتها فنيا و بمردود مجزي، وافق على ذلك، تواصل معهم والتقى بأميرهم ليتعرف عليه، أنه شيخه السابق ايام لندن أصبح اميره الجديد، تحاورا كثيرا، برر الشيخ عمل داعش لبناء دولة إسلامية، و برّر القتل الوحشي، وظلم الثوار السوريين لأنهم مشروع صادق منافس لهم ويهدم شرعيتهم لذلك وقفوا ضد الثورة والثوار السوريين، وصمتهم عن النظام، الذين يرون به عدوا لا يصطدم معهم بل هادنهم ويتبادلون الخدمات، لكل سؤال جواب لديهم. اغلب المنتسبين لم هم اما مخابرات دولية او مهمشين او حالمين يريدون بناء مجتمع مثالي أو أناس يهربون من حياة قاسية لموت مقنع ويؤدي للجنة. انغمس معهم في التفنن في تصوير القتل وإخراج اعمالهم الارهابية للعالم، التي أدت لولادة للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب وخاصة داعش، وادت لتزايد الملتحقين بهم من كل أنحاء العالم. في هذا الجو المتشعب والمعقد والغريب والغير إنساني لداعش يصور فيدل فيلم عن ذبح الطبيب الإنجليزي ذو الأصل السوري د.أنس وهنا يتقاطع مساري الرواية في خاتمتها. ستعود ليل مجددا باحثة عن فيدل؛ اكتشفت انها لن تستطيع أن تعيش بعيدة عنه. تركت عائلتها تعود الى دمشق وهي غادرت الى الشمال السوري وسلمت نفسها لداعش ووصلت إلى فيديل الذي كان قد تورط مع داعش أكثر. حاول الهرب معها لكن تم القبض عليه من قبل داعش واعدم برصاصة في رأسه. كان كل ما جمعه هو وسامي ابن د.أنس قد وصل لسامي وجمعه وجهّزه ليكون وثيقة عن ما حصل في سورية بعنوان: بيت حدد. إنها الرواية التي بين يدينا.
هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول:
أننا أمام عمل روائي كامل فنيا بامتياز، وعمل توثيقي للثورة السورية بسنواتها الاولى بكل شفافية ومصداقية، الرواية تغوص عميقا في كل ما يمت للموضوع بصلة. في التاريخ لدمشق وسورية عموما. الشخصيات ومشاعرها وسلوكياتها. تفهم ذلك وفهمه . سورية ومأساتها، النظام المستبد المجرم وطبقة الحكم ومصالحها التي تجعلها اولوية على حساب حياة الناس والبلاد والعباد. الناس الضحايا، الثوار وبطولاتهم واستشهادهم. التدخل والتداخل بين كل الأطراف الاقليمية والدولية في سورية، خلق بعبع الإرهاب وتضخمه ثم العمل على إنهائه حين تمّ انتهاء دوره. كل ذلك حاضر في الرواية هذا غير الحقائق المسرودة والتشويق والتداخل في مسارات الرواية وتكاملها حتى نهايتها المفتوحة على التوثيق للثورة وعلى انها معركة لم تنتهي بعد. نحن أمام رواية رائعة. شكرًا فادي عزام.