الحديث عن الدكتور جمال الأتاسي في الذكرى العشرين لرحيله هو حديث عن تاريخ سورية، في نصف قرن عاصف بالتحولات والأحداث الكبرى، على مستوى المنطقة بأكملها، وليس على مستوى سورية وحسب، شهد صعود تيارات في الفكر السياسي صبغت بطبيعتها الحياة السياسية العربية وما تزال حتى اليوم.
الراحل الكبير لم يكن فقط معاصرًا للأحداث، بل ساهم من موقعه كمثقف ومفكر في صناعتها، وأثر فيها كسياسي من طراز رفيع، ومناضل قضى جل حياته مدافعًا عن قضايا وطنه وأمته، بلا هوادة، متنقلًا بين فضاءات المعرفة والفكر والثقافة، وميادين العمل بين الجماهير و”الهجرة” الدائمة إليها.
والدكتور جمال الأتاسي ( 1922_ 2000) عاش نكبة فلسطين، وكان أحد مؤسسي حزب البعث مع (صلاح الدين البيطار) و(ميشيل عفلق)، وعاصر مرحلة الانقلابات العسكرية المتكررة في سورية، وشارك في مباحثات الوحدة مع مصر، ثم انسحب من البعث، غير آسف، ليلتحق بالناصرية كمشروع نهضوي تحرري، يرتكز على العدالة والديمقراطية والاستقلال والتجدد الحضاري، وصولاً إلى التجربة المرة بعد انقلاب حافظ الأسد ، واستيلائه على السلطة، بدخول حزبه الاتحاد الاشتراكي العربي، في الشراكة مع النظام، من خلال ما سمي (الجبهة الوطنية التقدمية)، ولكنه سرعان ما انسحب منها، على خلفية كتابة الدستور الدائم للبلاد، الذي نص في المادة الثامنة منه على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، متحملاً تبعات ذلك القرار الذي كلفه وكلف حزبه الكثير، وصولاً إلى تأسيس (التجمع الوطني الديمقراطي) الذي تشكل من ائتلاف بين خمسة أحزاب عام 1979 بقيادته، في مرحلة قاتمة من تاريخ سورية الحديث، الذي أرخى فيها الاستبداد بظلاله على المجتمع بأكمله، وحرَّم السياسة عليه، في مشاهد من العنف الدموي المنفلت من كل عقال بين الاخوان المسلمين والنظام بأجهزته الأمنية وميليشياته وجيشه، حيث رأى فيها النظام فرصة للبطش بكافة القوى الوطنية والديمقراطية.
في كل ذلك كان الدكتور جمال الأتاسي يمثل بحق، وجدارة ” المثقف العضوي” الذي لا يخشى نقد دولة عبد الناصر، وإعطاء الناصرية مضامين فكرية متميزة، والانتقال لأكثر من مرة، من المعارضة إلى السلطة، ومن السلطة إلى المعارضة، ومن الوزارة إلى السجن، وقبل ذلك وبعده المراجعة الدائمة والمستمرة لمسيرته الفكرية والسياسية، ومواقفه بكل شجاعة وجرأة، بعقل نقدي علمي دائم البحث والسؤال، وهو مالا يملك القدرة عليه، والتكيف معه، إلا شخص بحجم الراحل الكبير، همه الأوحد وشاغله الأكبر أمته، ووطنه، وقضايا شعبه.
في ذكراه العشرين والثورة السورية تدخل عامها العاشر تفتقد سورية رجلًا بحجم الراحل، كما تفتقد آخرين، في نظرته التحليلية الثاقبة لمجريات الحدث العظيم، وفي فهم أبعاد القضية السورية وتشابكاتها وتعقيداتها، وحاجتها لرؤية وطنية خالصة مدخلها “علم السياسة” بعيدًا عن المراهقة الثورية، والطفولة السياسية، أو التطرف والانفعال، أو المزاودة والشعبوية، كما لرافعة وطنية تجمع ولا تفرق، تصون ولا تبدد، كما كان دأبه ومسعاه دائمًا.
في هذا السياق يحسب للفقيد وعيه المبكر، والمتقدم، للقضية الوطنية، وأولوية النضال الوطني، على ما عداه، وهو ما جسده في سلوكه السياسي والنضالي من خلال حزبه، وتكريسه نهجًا ثابتًا ودائمًا في البحث عن أفضل الصيغ لتجاوز المأزق الوطني، في الوقت الذي كانت معظم تيارات الفكر السياسي؟ وأحزابها، مشغولة في مشاريع ورؤى عابرة للحدود الوطنية، وتقفز فوقها، أو تضعها في المرتبة الثانية من أولويات نضالها، يتساوى في ذلك القوميون والإسلاميون واليساريون.
لا يتسع هذا الحيز المحدود للإحاطة بمسيرة الراحل في مفاصلها الكبيرة والمعطاءة، أو مواقفه المشرفة والصلبة في مواجهة الاستبداد والقطيعة التامة معه نهجًا وسلوكًا، فذلك ما يجب أن يعمل عليه رفاق دربه، والمتطلعون إلى متابعة مسيرته، التي تمثل بالنتيجة مشروع وطن وشعب يتوقان للخلاص من أسر العبودية والاحتلالات المتعددة، والتصدي لمواجهة كافة المشاريع المعادية التي تعيق خلاصنا ونهضتنا وتحررنا، وإن كنا نحن جزءاً من ذلك فما مسعانا وعملنا إلا جزءُ صغير من الوفاء للراحل، وجهد متواضع في متابعة مشواره، وتقديمه للأجيال القادمة التي تكتب مستقبلها بدماء طاهرة تبذلها رخيصة لعزة أوطانها وكرامة أبنائها في أكثر من مكان، وأكثر من بقعة عربية طاهرة.
أخيرًا: من مصادفات القدر أن يرحل الدكتور جمال الأتاسي في يوم 30 آذار/ مارس وهو اليوم نفسه الذي رحل فيه الدكتور عصمت سيف الدولة (1996) “من الإقليم الجنوبي للجمهورية العربية المتحدة” المفكر القومي، والمناضل، من الطراز والمستوى نفسه، الذي قدم هو الآخر اجتهادًا مهمًا في “نظرية الثورة العربية” غير بعيد عن الناصرية، وقدم كلاهما انتقادات جدية ورصينة للتجربة الناصرية، تغنيها وتخصبها.
أيضًا وليعطي التاريخ رمزية لهذا اليوم، في مفكرة القوميين العرب، يتوافق الرحيل مع يوم الأرض الفلسطيني (1976) بكل ما يحمل هذا اليوم من قيم ومعان سامية نضالية، ستبقى حافزًا للأجيال القادمة على مواصلة الكفاح في سبيل استقلال الوطن وحرية الشعوب والإنسان، وهو اليوم الذي قدم فيه جمال عبد الناصر بيان 30 مارس/آذار 1968 برؤية نقدية ومراجعة جذرية أملتها نكسة حزيران؟ واكتشاف أماكن الخلل والقصور؟ وهو ما كرس له الراحلان الكبيران الأتاسي وسيف الدولة حياتهما. رحم الله الدكتور جمال الأتاسي الذي أصاب وأخطأ، ولكنه كان دائمًا ممسكًا بقضية الإنسان والوطن والأمة، حاملاً قيمًا رفيعة ونبيلة، أساسها وأصلها الأخلاق.