في الأيام الأخيرة هناك حدثان في بلادنا أثارا نقاشًا جدليًا حولهما وما فيهما من دلالات وما يستدعيانه من مراجعات. الأول إنعقاد المؤتمر العام لإتحاد المحامين العرب في دمشق.
والثاني وفاة الصحافي الفلسطيني نزار بنات في سجون السلطة الفلسطينية. أثار الحدثان مسألة في غاية الأهمية تتعلق بموقع الموقف الأخلاقي في المسألة السياسية.
جميعنا يعرف أن ليس للبعد الأخلاقي – الإنساني أية إعتبارات في سياسة الغرب الإستعماري في جميع تعاملاته مع كل ما عداه هو نفسه من بشر ودول ومجتمعات وأمم وشعوب.
وليس هذا مجال بحثنا هنا.
نتحدث عن حدثين في قلب المنطقة العربية التي تشكل القيم الأخلاقية فيها إحدى ثوابتها التكوينية والتاريخية والتراثية وبالتالي يفترض أن تبقى كذلك في مستقبلها الآتي من الزمن.
بعيدًا عن السياسة والمواقف السياسية التي لا شك أنها تخضع لاعتبارات كثيرة متنوعة قليلها موضوعي وكثيرها ذاتي مصلحي أو خاضع لما يتوفر من معطيات ومعلومات وتحليلات بات الإعلام هو مصدرها الوحيد في هذا الزمن. والإعلام مملوك لأصحاب المشاريع السياسية من قوى النفوذ العالمية ذات الإمكانيات الضخمة المرعبة وأدواتها الإقليمية والمحلية. فهو يقدم من المعلومات ويتوسع في التحليلات والتعميمات التي تخدم مصالحه وأهدافه الخبيثة في بلادنا العربية.
ليس هذا بجديد أو مجهول. وهو لا شك أحد أهم أسباب كثير من الإلتباس في مواقف كثير من العرب غير الرسميين أشخاصًا وتجمعات وتنظيمات. حول كثير من القضايا الساخنة والتي تأتي المسألة السورية وثورة الشعب السوري في طليعتها.
١ – إتحاد المحامين العرب مؤسسة غير حكومية نظريًا كان لها في زمن غابر دورًا وطنيًا واضحًا شجاعًا يوم أن كان في الأمة قيادات حرة شريفة تقود مشروعًا للنهضة والتحرر والتقدم.
مع تدهور الحال العربي إلى ما هو فيه من ذل وهوان وتبعية وانقسام تراجعت حال الإتحاد وعاد إلى حظيرة الأنظمة الرسمية التي باتت تحدد له مساراته وصار يتخذ من المواقف ما يناسبها وينافقها فتبقى راضية مرضية عنه وعن أسمائه اللامعة الملمعة.
هذا الإتحاد الحقوقي القانوني الدستوري لم يتخذ موقفًا وطنيًا واضحًا – ولو واحدًا – منذ اندلاع فوران شعب عربي في سورية يعاني كافة أنواع الإضطهاد والعسف والإستبداد والتنكيل من نظام مفروض عليه فرضًا بالحماية الدولية التي تحميه وترعاه وتبقيه في مكانه دون أية محاسبة من أي نوع.
فإذا تركنا المطالبة بموقف سياسي مما يسمى الأزمة السورية أو لاحقًا القضية السورية؛ أليس فيما جرى في سورية من أحداث طيلة عقد كامل من الزمن ما يستدعي موقفًا قانونيًا حقوقيًا على الأقل؟
ألم يحدث ما يستوجب موقفًا أخلاقيًا أو حتى إنسانيًا من قبل اتحاد المحامين العرب؟؟
حتى لو قلنا إن قيادات سابقة لم تكن على مستوى المسؤولية الحقوقية؛ فكيف ينعقد المؤتمر العام للإتحاد حاليًا في دمشق دون اتخاذ أي موقف يتعلق بصلب عمل المحاماة والحقوق والقانون؟؟
أليس واجبًا مهنيًا قبل كل شيء على اتحاد المحامين أن يطالب مثلًا بإطلاق سراح المعتقلين من سجون النظام؟؟
وفي أقل القليل أن يطلب الإتحاد توفير محاكمة عادلة للمعتقلين والسماح لهم باتخاذ محامين للدفاع عنهم؟؟
أوليس ممكنًا مثلًا المطالبة بتحسين ظروف الإعتقال والتوقف عن تعذيب المعتقلين؟؟
هل هذا كثير أو مجحف أو منحاز إلى ” المؤامرة الكونية ” ؟؟
فإذا تخلى الإتحاد هذا عن مسؤولياته القانونية والحقوقية، أفلا يتوجب عليه اتخاذ موقف أخلاقي – إنساني يعترض على تعذيب المعتقلين بوحشية وإجرام فظيعين جدًا؟؟
إذا كان هذا كثيرًا أو صعبًا أو غير ممكن، فإن اتحاد المحامين العرب يكون قد فقد كل مشروعية وكل مبرر لوجوده ودوره وأعلن صراحة وقوفه إلى جانب نظام مجرم فاسد مأجور.
وإذا سلمنا جدلاً أن لديه مبررات سياسية تجعله يؤيد بعضًا من مواقف النظام؛ إلا أن سكوته عن موضوع المعتقلين وتعذيبهم وغياب أية محاكمة لهم؛ وعن كل الإنتهاكات التي تطال المواطن السوري في كل أنحاء سورية؛ إنما هو دليل على انهيار أخلاقي متقدم أصاب تلك المؤسسة الهامة. وحينما يصبح المحامي الحقوقي القانوني غطاء للحاكم الفاسد المجرم، يكون الإنهيار الأخلاقي قد بلغ حدًا مخيفًا.
كيف سيقف هذا المحامي بعدئذ، مدافعًا عن أية قضية شخصية توكل إليه مطالبًا بتطبيق القانون وإعطاء موكله ما يتوجب له من حقوق وضمانات؟؟
مما لا شك فيه أن تخلي تلك المؤسسات العربية عن كل مسؤولياتها المهنية والأخلاقية ساهم في تعميق معاناة الشعب السوري وتشعبها حتى باتت تنذر بانهيار الوضع العربي برمته تمكينًا لعصر التسيد الصهيوني على المنطقة كلها.
إن انعقاد المؤتمر العام لإتحاد المحامين العرب في دمشق دون المطالبة بإطلاق المعتقلين فورًا؛ ليس إلا تأييدًا لكل ممارسات النظام الإجرامية في سورية.
٢ – أما وفاة الإعلامي الفلسطيني نزار بنات في سجون السلطة الفلسطينية فقد أثارت موجة رفض واستنكار على قاعدتين:
الأولى رفض الإعتقال السياسي لمجرد المخالفة بالرأي.
الثانية رفض تعذيب المعتقلين حتى الموت أو حتى ما قبل الموت بقليل.
ليس هذا محط خلاف أو جدال بين أحد من المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة. ونحن في ملتقى العروبيين نقف في طليعة المدافعين عن هذه الحقوق البديهية والمطالبين باحترامها أينما كانت وكانت السلطات المعنية أو الأشخاص المعتقلون.
الإشكالية التي أثارت الإستغراب هي أن نزار بنات كان قبل وفاته من مؤيدي النظام السوري والمباركين لكل ممارساته بحق الشعب السوري وبحق المعتقلين أيضًا. مؤيدًا مباركًا لما يجري في سجون النظام – وما أكثرها – من وسائل تعذيب لم ترق أسوأ سجون الأنظمة الوحشية المجرمة إلى مستواها.
كان بنات يتصدى لفساد السلطة الفلسطينية. جميل هذا. لكن كيف يستنكر رفض السوريين لفساد سلطتهم ؟؟ بأية حجة وأي مبرر ؟؟
وحتى بعيدًا عن الموقف السياسي أيًا كان؛ كيف يتسنى لناشط فلسطيني يواجه الإحتلال وفساد سلطته ” الوطنية ” أن يؤيد نظامًا فاسدًا يعتقل شعبًا بكامله ومتواطئًا مع دولة الإحتلال ذاتها؟؟
ألا يفقده تأييده لنظام آل الأسد كل مبررات معارضته للسلطة الفلسطينية وحتى للإحتلال؟؟
أليس رفض التعذيب والإعتقال التعسفي موقفًا أخلاقيًا – إنسانيًا قبل أي شيء آخر؟؟ وهو ذاته ما تعرض له هو نفسه المعتقل المتوفى تحت تعذيب السلطة؟؟
وهو ما كان يبرره ويتغاضى عنه فيما يتعلق بالمعتقلين السوريين في سجون السلطة السورية!
أليس في هذا ما يثير الإشمئزاز والقرف ويدعو للإستهجان الشديد؟؟ ولا نقول الشماتة لأننا نرفض الاعتقال التعسفي والتعذيب بحق أي إنسان ومن قبل أية سلطة. لكنه من حقنا أن نطالب من ما يزال يتخذ موقفًا مماثلًا من الأخوة الفلسطينيين والعرب ” القوميين ” تحديدًا؛ مراجعة مواقفه وإتخاذ موقف أخلاقي – إنساني من آلام ومعاناة شعب سورية العربي الذي وقف دائمًا مع كل قضية عربية وأولها قضية شعب فلسطين.
٣ – المؤسف أن كثيرين من الأخوة العرب وتحديدًا القوميين والناصريين في لبنان ومصر وتونس وفلسطين يتخذون مثل هذا الموقف الذي كان يقفه السيد بنات بما فيه من دلالات مخيفة سلبية. نعرف ويعرف الجميع أن بعضًا من هؤلاء صارت لهم ولاءات رسمية أو إقليمية هنا أو هناك بفعل ارتباطات مصلحية فئوية أو شخصية مالية أو أمنية أو سواها؛ إلا أن الغالبية يعانون من نقص في المعرفة أدى بهم إلى سوء تقدير للموقف وذلك لا شك بسبب التركيز الإعلامي العام على تسويق الرواية الرسمية للنظام السوري ومن يقف معه ويحميه.
في الموقف السياسي ربما نجد عذرًا تخفيفيًا لهؤلاء بسبب نقص المعرفة وضغط الإعلام فلا نقلل من وطنيتهم وحماستهم؛ إلا أن عدم إتخاذ موقف أخلاقي رافض أقله للإعتقال التعسفي والتعذيب والقتل العشوائي والتنكيل بالمدنيين وتدمير المدن والقرى وتهجير أهلها؛ لا يمكن تبريره بأي شكل وبأية مبررات كانت. وهذا هو المطلوب من كل عربي وطني حر غيور وليتخذ بعد ذلك ما يشاء من مواقف سياسية.
فالأساس الأخلاقي الإنساني يتقدم على كل الإعتبارات الأخرى في كل الظروف..أما رفض التعذيب هنا وتبريره هناك فهذا موقف المنافقين الذين لا يعتد بهم ولا يعتمد عليهم في أي تصحيح أو مواجهة للباطل.
٤ – في مواجهة الراهن ماذا علينا أن نفعل؟؟
إننا نتفهم كثيرًا من تلك المواقف السلبية أو المتحفظة بسبب ما تتعرض له ثورة الشعب السوري من تشويه وتنكيل وتواطؤ متشعب الأذرع والأضلاع وفقدانها للإعلام الذي يتبناها ويشرح أبعادها ودخول تشكيلات ميليشيوية مشبوة بهدف تدمير الثورة وقوتها الشعبية من الداخل؛ إلا أن خطوات كثيرة مطلوبة لرأب الصدع بين القوى الحرة الشريفة. أولها إطلاق حوار حر مباشر بين القوى الشعبية المعنية وصولاً إلى تقريب الرؤية والرواية للمسألة السورية وكل القضايا العربية وما تتعرض له الأمة من أخطار وتحديات.
في مقدمة المطلوب وضع ثوابت وطنية وأخلاقية تكون ثوابت في أساسات إتخاذ المواقف السياسية المتحركة في أي شأن. وتكون معيارًا يطبق على الجميع منعًا للإزدواجية والتناقض الذي يضع أطرافه في مواقف غير لائقة وغير مقبولة.
كل هذا يجدد الإلحاح على تشكيل هيكل وطني سوري يجمع قوى الثورة والتغيير على قاعدة المشتركات والثوابت الوطنية والعمل عبر برنامج وطني مرحلي يحدد الأهداف المتدرجة ويعمل لتحقيقها حتى لا تبقى الوشايات شائعة ويبقى التواصل والحوار شائكًا متعثرًا مبعثرًا.
إننا كعروبيين في سورية نستنكر كل الممارسات الإجرامية التعسفية بحق أي إنسان في أي مكان. ونطالب الجميع باحترام الموقف الأخلاقي قبل أية اعتبارات مصلحية أخرى. وإذا افتقدنا هذا الإلتزام الأخلاقي فلن نستطيع التقدم على أي صعيد.
نطالب جميع العرب أولًا بموقف أخلاقي – إنساني مع شعب سورية المنكوب.