عباس بيضون روائي لبناني غزير الإنتاج. وخريف البراءة أول رواية قرأتها له. وهي تعتمد لغة المتكلم في سردها على لسان الشخصية المحورية فيها؛ غسان وكذلك بعض أفراد عائلته وخاصة ابنة خاله سامية في الجزء الأخير من الرواية. الحدث في الرواية يوضح عبر السرد أول بأول، ونحن هنا نعيد طرحها كما تبلورت بعد قراءتها.
غسان يبعث برسالة لابن خاله فؤاد يتحدث بها عن نفسه وحياته. غسان الذي وعى نفسه ابن لام “عايدة” قتلها والده “مسعود” خنقا، ومن ثم هرب، وهو وحيد والديه. تُرك يحمل معاناة قتل امه وغياب والده، وملاحقة الوصم الاجتماعي له. لماذا خنق والده أمّه؟ . لكل من يحيط به جواب؛ جواب عمته بشرى التي تبرر فعل والده وأنه لا بد رأى منها ما يجعله يرى ان قتلها مبررا. كمثل غسل عار الخيانة الجنسية مثلا. اما عائلة خاله جواد فيرون أن الام كانت حرة ولا تستكين لزوجها و تواجهه، لذلك خنقها في موجة غضب. أما الحقيقة ان مسعود الاب كان من رجال البلدة المحاذية لبيروت الأشداء والموسرين، احب الام عائدة ابنة الدكنجي وهذا يعني انها ذات اصول متواضعة. وأنها تحدته دوما ولم تقبل به الا اخيرا. وبعد زواجهم تبين انه كان عنّينا جنسيا وعجز ان يدخل بها في ليلة زواجه وهذا يعني احساسه بالعار الاجتماعي. واستطاع أخيرا الوصال الجنسي معها لكن بصعوبة ولمرات محدودة. هي صمتت عن ذلك لكنها لم تصمت عن رفضها وعدم حبها له. عقدة مسعود لعجزه الجنسي، و لرفضها وتحديها اياه. جعله يشك بعلاقة محرمة بينها وبين اخوه الاصغر عمر. رغم أنّ لا دليل على ذلك. كل ذلك اجتمع على ذات مسعود حتى خنق زوجته عائدة، وكان سبق ذلك تعنيف وضرب واساءة كثيرا. حضر خنقها له أخته بشرى، التي كرهت تحدي عائدة له ورضيت عن معاقبته لها. وهذا بقي في نفسها أثرا تعتبره مبررا لعقاب من الله حيث ستكبر ابنتها يسرى وتقع ويصاب رأسها وتموت على أثر ذلك. يسرى التي ارادتها ان تكون زوجة غسان صاحبنا اليتيم. الذي قتلت امه وهرب ابوه. لكنها ماتت. غسان الصغير وجد نفسه وحيدا اخذته عمته وضمته إلى اولادها. لكنه لم يستطع التكيف. وسرعان ما أخذه خاله جواد وضمه الى أولاده فؤاد وسامية واصبح اخا لهم. سامية وغسان لهم العمر نفسه وفؤاد يصغرها قليلا. دفنت والدة غسان في حديقة منزلهم. وأصبح يزورها بأوقات متباعدة. كان يحس بحضور روحها تخاطبه عبر اشيائها المتواجدة في البيت. كبر وكبرت في نفسه تساؤلات حول مقتل امه وهرب أبيه واحساس عالي بالغبن والمهانة والعار. انكفأ غسان على نفسه وكان فؤاد وسامية اولاد خاله واحته الصغيرة في عالم يحس انه يعاديه. كبر غسان وتفوق في دراسته وأصبح شابا وسيما متميز. كان سامي صديق غسان في البلدة وايام الدراسة. سامي عمل في تجارة الكتب المستعملة. ومنها تدرج في العمل التجاري وكبرت تجارته. احب سامية ابنة خال غسان، وهي لم تستجب له بداية. لكن مع اصراره وكبر سنها استجابت له وأصبح خطيبها. سامي يمتلك حسا انتهازيا عاليا. تقرب من جماعة ابو ثائر التابعة لحركة “فتح” حيث كانوا القوة الفعلية في البلدة. وهو حريص على التقرب منهم ليحمي مصالحه وينميها ايضا. كذلك كبرت يسرى ابنة عمة غسان التي احبت غسان وهو تجاوب معها وعقدت عمته بشرى ام يسرى خطوبتهما. لكن يسرى ستقع على رأسها و تصاب بنزيف تموت على أثره. تعتبر امها بشرى هذا عقاب لها من الله على صمتها عن خنق اخوها مسعود لزوجة عائدة قبل سنين بعيدة. مضت الحياة على حالها في البلدى لسنين طويلة، ونسيت حكاية عائدة المقتولة وزوجها الهارب. لكن وبعد مضي ما يزيد عن العقدين من السنين. عاد مسعود والد غسان مختلفا عما سبق. عاد متدينا يواظب على الصلاة والذهاب للمسجد، طرح إسلاما مختلفا عما اعتاده الناس، كان متشددا. اجتمع بأهل القرية. اعترف بقتل زوجته وطلب منهم الغفران. وأنه ندم على ذلك. وأنها كانت شريفة وأنه ظلمها. أهل البلدة توزعوا بين مستنكر لعودته ومتفهم لها. لكن تقبلوا ذلك. خاصة أن عودة مسعود اقترنت بدعوة دينية بدأت تنتشر بين شباب البلدة. اقترن معها حضور اسلحة ودعم له من خارج البلدة. لقد كان هروب مسعود إلى سورية حيث حط رحاله في درعا. حيث تزوج هناك بدوية. وانجب منها ولدين وعندما بدأ التظاهر هناك شاركهم قليلا ثم اكتشف ان معركته ليست في سورية بل في بلدته في لبنان. طلق زوجته وترك ولديه هناك وعاد الى بلدته يحمل عقيدة دينية جهادية عنيفة، وارتباط تنظيمي مع آخرين. لم يتقبل غسان مجيء والده بل استنكره. رفض اللقاء به اولا، لكنه واجهه بعد ذلك واكد له رفضه له ولابوّته وان دم أمه ما زال في رقبته ولن يسامحه. تحمل الأب ابنه واستمر في تمدده الديني وتجنيد الشباب وتسليحهم. واطلق على جماعته رايات الهدى، وبدأت البلدة تختلف حوله وحول عمله. بعضهم معه وبعضهم ضده. ولكنهم يهابونه. كما بدأت المناوشات بين جماعته الجديدة وجماعة أبو ثائر. كمراكز قوى متصارعة. تمادى ابو ثائر بالتهديد والوعيد. ولكنه اختطف هو بعض عناصره في ليلة. ووجدوا بعد ذلك في القرية معلقين على أعواد المشانق مصحوبين بلافتة كتب عليها كفار. وهكذا أصبح مسعود وجماعته رايات الهدى القوة الاولى المهابة والمسيطرة على البلدة. ولم يكتف مسعود بذلك فقط بل جمع بعض اليساريين والليبراليين من البلدة وقتلهم عبر الصعق الكهربائي. كما قتل المرأة المتهمة وبناتها بأنها تدير بيت دعارة بالإغراق بالماء. وآخرين بالحرق داخل أقفاص. كل ذلك جعل أهل البلدة يخافون على حياتهم وبدؤوا يهربون من البلدة الى بيروت او بلدات لبنانية اخرى. في هذه الأثناء زادت معاناة غسان من أفعال والده. وانها كلها جرائم لا مبرر لها من دين او شرع. وأنها ظلم للناس. ولا يعرف ماذا يتصرف؟ . خاله وعائلته خافوا على أنفسهم من والده لعدم قبول غسان التقرب من والده وهربوا الى بيروت. سامي صديقه وبحسه الانتهازي التحق بجماعة الهدى وتقرب من والده. سامية اكتشفت انها لا تحب سامي وتخلت عنه. وانها تحب غسان واعترفت له. بقي غسان ضائعا ولا يعرف ماذا يفعل تجاه والده. وذهب اليه بصحبة سامي صديقه. اعتقله وعامله بقسوة. لكن التقاه اخيرا. واخبره انه ارتاح الان لانه يشبهه فقد كان يشك أن يكون ابن غير شرعي له حيث كان يشك أبوه بعلاقة حرام بين أمه وعمه. وفهم ان شبهه الشديد من والده قد أنقذ حياته. ثم طلب منه أن يغادر ولا يعادي والده وإلا سيعاقب عقابا شديدا. أعدم والده سامي صديقه واعتبره خائنا و انتهازيا. غادر غسان الى بيروت والتحق بعائلة خاله. أكدت سامية حبها له وطلبت منه عدم العودة للبلدة لأن والده سيقتله هذه المرة. لكن غسان أحس بأن مسؤولية ردع والده ومحاسبته عن قتل أمه سابقا والجرائم التي قام بها بعد عودته تستوجب مواجهته. تواصل مع بقايا مجموعات ابو ثائر واتفقوا على اغتيال والده في مناسبة قادمة. أعدوا الأسلحة والخطط وهاجموه لكنه لم يُصب. هرب الآخرون وقبض على غسان الذي حاكمه والده وحكم عليه بالاعدام لكونه كافرا وتعاون مع الكفار وقتله.
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها نقول:
أولا: تتعدد مستويات التعبير في الرواية، بدء من الحضور النفسي المشاعري متجاورا مع عوالم متخيلة مقترنا مع الحدث الحياتي المعاش وهو قتل الأم وهرب الأب وتداعيات ذلك. لقد قاربت الرواية حالة العيش الانساني باقتدار لما يعيشه داخله وما يعيشه في الحياة ضمن معادلة نفسية اجتماعية تحاول تبرير وفهم وتفهم ما تعيش.
ثانيا: لم تستطع الرواية أن تبتعد عن مقاربة الحدث السوري بكل تداعياته. فهي منشورة عام ٢٠١٦م. واحداثها بعد عودة الأب من سورية درعا، الذي شارك بالتظاهر ثم شكل جماعة مسلحة نموذجا عن داعش وافعالها. لكنه لم يقل أي شيء عن حقيقة ما حصل في سورية بدء من ثورتها التي اندلعت عام ٢٠١١م. وعنف النظام السوري وقمعه للشعب وجرائمه و اعتقاله وقتله للناس وتهجيره لهم وهم بالملايين وتدمير أغلب سورية. وان الوقوف عند داعش كأحد نتائج حرب النظام على الشعب السوري. كذلك الصمت عن الدور اللبناني عبر حزب الله في الحرب على الشعب السوري. وكأن رايات حزب الله لم تكن مغمسة بدم الشعب السوري في كثير من المدن السورية. هذا غير الصمت عن الدور الإيراني والروسي والمرتزقة الطائفيين في القتل للشعب السوري. قتل عشرات من قبل داعش لا يصل لقتل أكثر من مليون سوري من قبل النظام ونحن ندين كل من يسفك قطرة دم سورية من غير حق. بما فيها فعل داعش والنصرة وغيرهم. لكن الصمت عن فعل النظام هنا يبدوا تزييف للواقع. والأدب عندما لا يعبر عن الواقع يصبح خائنا لرسالته. قد يطرح البعض أن الكاتب لبناني ويخاف من سطوة النظام السوري وحزب الله في لبنان. والجواب كان أولى أن يصمت وليس أن يتحول لشاهد زور يسيء لحقيقة ما حصل في سورية.
ثالثا: اين الدولة في العمل الروائي الذي بين يدينا في تلك البلدة اللبنانية التي كتب عنها؟!!. يحصل فيها جريمة قتل ويهرب القاتل ويعود بعد أكثر من عشرين عاما. ثم يحول نفسه قاتل جماعي اعدام وحرق وتغريق وصعق كهربائي ولا حضور للدولة!!. هل لبنان سائب الى هذه الدرجة؟ !!. هل هو مؤشر أن لبنان محكوم بميليشيا واحدة تابعة لحزب الله الذي يدعي أنه يقاوم “اسرائيل” ويقتل الشعب السوري؟!!.
كلها أسئلة تحتاج لاجابة من الكاتب ؟.
اخيرا: الحدث السوري؛ الثورة وتداعياتها وفعل النظام وحلفاؤه الايرانيين والروس وحزب الله والمرتزقة الطائفيين في سورية وقتل اكثر من مليون سوري واعتقال وإصابة واعاقة اكثر من مليون ايضا. تهجير أكثر من نصف الشعب السوري داخل وخارج سورية وهم يزيدون عن ثلاثة عشر مليون إنسان. وتدمير اكثر من نصف سورية، وتقسيمها فعليا بين نفوذ امريكي يحمي انفصاليي ال ب ك ك وال ب ي د. في شمال شرقي سورية وشرقي الفرات . والروس والإيرانيين و المرتزقة الطائفيين. كل ذلك اكبر واوضح واعظم من ان تمر عليه رواية تغيب الحقائق وتركز على البعض وتهتم بجريمة قتل لامرأة بداعي الشرف وتسكت عن جريمة قتل شعب كامل… ستدخل الرواية في الإهمال والنسيان حتى قبل صدورها… لانها تخون الحقيقة.