كثيراً ما سمع السوريون عن “تفويض” أميركي لروسيا في الملف السوري، دون أن يقرأ أحد وثيقة تؤكد ذلك، أو تصريحاً مباشراً من طرف أميركي أو روسي يدعم هذا الافتراض، واستندوا في ذلك إلى تفسيرات ومعطيات جدّية يمكن البناء عليها، فضلاً عن مواقف كل من الولايات المتحدة وروسيا تجاه القضية السورية بعد حديث دبلوماسيين غربيين عن وجود مثل هذا التفويض.
في عام 2015، ظهرت أولى بوادر التفويض الأميركي لروسيا، بعد اجتماعات بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأميركي جون كيري ناقشت الشأن السوري، وما تلاها من لقاءات روسية مع زعماء عرب في موسكو في العام نفسه، كالأردن ومصر والإمارات، ولقاء ثلاثي ضم وزير الخارجية الروسي ونظيريه الأميركي والسعودي عادل الجبير، وبالتوازي معها، كان هناك لقاء هو الأول من نوعه على صعيد الموقف الروسي من المعارضة السورية المطالبة بإسقاط الأسد، جمعت وزير الخارجية الروسي بالائتلاف السوري المعارض، بعد أن كانت تحافظ على صلة ضعيفة بالائتلاف، وتقتصر على مبعوث الرئيس الروسي للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، ومن ثم مبادرة روسيا بشكل مفاجئ لدعوة رئيس الائتلاف لزيارة موسكو للتشاور.
تُوّجت كل هذه اللقاءات في العام نفسه بإصدار مجلس الأمن بياناً رئاسياً كان مفاجئاً في حينه، أقر خطة للحل السياسي في سوريا، تتضمن تشكيل هيئة حكم يشترك في تشكيلها النظام السوري والمعارضة، في محاكاة لبنود بيان جنيف الأول، وتشكيل أربع مجموعات عمل لمناقشة مكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار والأمن والمسائل السياسية، واللافت أن روسيا التي طالما استخدمت حق النقض الفيتو في وجه أي قرار أو بيان يمس النظام السوري، امتنعت عن ذلك تلك المرة، وكشف أعضاء في مجلس الأمن أن القرار صدر دون استشارتهم، ما أكّد أنه قرار روسي – أميركي مشترك غير تقليدي.
كذلك أقر مجلس الأمن في الوقت نفسه، قراراً بتوسيع مهمة اللجنة الأممية لتقصي الحقائق حول استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، وهو ما كانت روسيا تعترض عليه بشدّة.
كل ذلك، دعم فكرة التفويض الروسي من الأميركيين والدول دائمة العضوية على الخطة وما سيترتب عليها، ودعم فكرة أن روسيا وافقت على البيان واللجنة لأنهما يمكّناها من الضغط على النظام السوري عبر ورقة الحل السياسي والهيئة الحاكمة المشتركة والسلاح الكيميائي، للقبول بتسوية تعمل موسكو على إنضاجها بتفويض أميركي.
خلال السنوات التي تلت، صار التفويض الأميركي للروس أكثر وضوحاً، حين سارت موسكو بمسارات أستانا، وسوتشي، والتي شارك فيها بعض الدبلوماسيين الأميركيين لفترة من الوقت، وحين سارت روسيا بالمصالحات العسكرية على الأرض في درعا وغيرها ومن بعدها المفاوضات مع تركيا والأكراد والعرب، وشبه استفرادها في الملف السوري، مقابل موقف أميركي اتّسم بالسلبية واللامبالاة من كل ما يجري في سوريا، وتتويج هذه اللامبالاة بالإعلان عام 2017 بلسان وزير خارجيتها حين ذاك ريكس تيلرسون أن بلده لم يعد ينظر إلى رحيل الأسد كأولوية في حل النزاع السوري.
خلال سنوات التفويض الأميركي المفترض لروسيا بالملف السوري، أقامت روسيا قواعد عسكرية في الأرض السورية، برية وجوية وبحرية، وأدارت معارك كثيرة، وتفاوضت ونسّقت مع إسرائيل بشأن ضرباتها في سوريا، واستحوذت بأسعار رمزية على استثمارات اقتصادية تضمن لها نفوذاً قوياً في مرحلة إعادة الإعمار التي تلي الحل السياسي، كما أنها قلّصت من النفوذ الإيراني، العسكري والسياسي، وغيّرت في المؤسسة العسكرية السورية لتزيد من حجم المؤيدين لها فيها، وتُقلل من حجم المؤيدين لإيران، ونظّمت دورات عسكرية في روسيا لضباط أمراء من الجيش السوري، وحاولت التنسيق مع تركيا بشأن الشمال والأكراد، وبخلاصة القول، صارت روسيا نظرياً على الأقل المنسّق للحراك الدولي في سوريا لسنوات.
خلال كل تلك الفترة، بقي الموقف الأميركي شبه ثابت، مشوّش للجميع، وصحيح أنها لم تتنازل عن شبر واحد من الأراضي التي تُسيطر عليها من خلال حلفائها على الأرض، ولم تُغلق أي قاعدة عسكرية لها في سوريا، واستمرت بتهديد كل من يتجرأ ويدوس على بساطها السوري، لكنها لم تكن تأبه بالحل ولم تسع له، وكان واضحاً أنها لا تنظر إلى الحرب السورية كقضية أساسية، وأنها تُساير روسيا إلى حد بعيد فيما يخص الملف السوري.
الولايات المتحدة التي لم تكن ترغب بالاصطدام مع روسيا، ولا تريد أن تغرق في الوحل السوري، كانت تريد رؤية عملية سياسية في سوريا، من الممكن ألا تقود إلى تغيير النظام، لكن تؤدي إلى تغيير جذري في سلوكه، وضمان عدم تأمينه مأوى للمنظمات الإرهابية، وعدم تأمينه قاعدة لإيران، وضمان التوازن مع تركيا، ومراعاة مصالح إسرائيل، وإنهاء ملف تنظيم “داعش”، وملف حزب الله، والأكراد ومناطق نفوذهم، والمعارضة وسياساتها، والدور العربي المتعلق بسوريا، والدور الأوربي المتعلق بالملف نفسه، ورأت أن تسليم الملف لروسيا سيؤدي إلى أحد أمرين، إما نجاح روسيا في كل هذا وتحقق ما تريد الولايات المتحدة دون جهد، أو فشل روسيا وضعفها وسهولة سحب الملف من يدها في وقت لاحق.
خلال ست سنوات، لم تنجح روسيا واقعياً في أي ملف من الملفات المُشار إليها، وبقيت جميعها حتى اللحظة ملفات مفتوحة وحرجة وقابلة للانفجار، وخلال السنة الأخيرة لحكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبدايات حكم الرئيس الحالي جو بايدن، بدأت الولايات المتحدة تتساءل عن مدى نجاح روسيا في إدارة الملف السوري، كما بدأت تتساءل عن الهدف الاستراتيجي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن المُرجّح منطقياً وسياسياً واستراتيجياً أن تقول لروسيا قريباً إن الفرصة لإدارة الملف قد استُنفذت ويجب إعادته للأيادي التي يمكن أن تُديره بنجاح، وضمن شروط جديدة.
يمكن القول بكثير من الثقة إن الولايات المتحدة تعرف عدم قدرة روسيا على تحقيق السلام الأهلي والمصالحة الوطنية في سوريا، وعدم قدرتها على احتواء الوجود الإيراني في سوريا والمنطقة، وعدم قدرتها على إدارة الصراعات الإقليمية الشرق أوسطية المعقّدة، ولا على تهدئة المخاوف الإسرائيلية، ولا على أن تصبح القوة المهيمنة الوحيدة في المنطقة، ولا على ملء الفراغ الأميركي والأوروبي، وهم سعداء بغرق روسيا التدريجي في مستنقع من الصراعات الإقليمية، لكنهم بالتأكيد سيغيّرون الاستراتيجية حين يرون أن الفشل الروسي زاد عن الحد، كما هو في الوقت الراهن.
في الغالب، وبعد عشر سنوات من الصراع، ووجود العديد من الملفات الشرق أوسطية المفتوحة والتي لم تستطع روسيا إغلاقها، وبدء تفاقم التوتر بين أميركا وروسيا وانعكاساته المختلفة في عدة ملفات، ستجد إدارة الرئيس جو بايدن، التي لا تزال في طور المراجعة السياسية، نفسها مستعدة لإنهاء تفويض روسيا كقوة مهيمنة في سوريا، وستضع مساراً جديداً، يُبلور لتفاهم دولي – إقليمي ليست روسيا الآمر الناهي فيه، ويُنهي تفويضاً لم تستطع روسيا استغلاله، أو بالأدق، لم يكن لديها أساساً القدرة على إدارته والنجاح به، وما لم تفعل ذلك الإدارة الحالية، فإن الملف السوري لن يجد نهاية مُبشّرة له لأربع سنوات قادمة على الأقل.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا