في مرحلة من أشد مراحل الوهن القومي العام التي نمر بها وتمر بنا حاليًا، لا شيء يصور تصويرا شعاعيا طبيا أعراض الحالة المَرَضِيَّة المتفشية بين فئات وتيارات عريضة ومهمة من مجتمعاتنا العربية، بما فيها نخب ثقافية وعلمية وسياسية، أكثر من استشراء أمراض خطيرة متلازمة مثل:
– (كراهية الذات).
– و(الاحساس بالخجل من تاريخنا).
– (التنكر للكفاح المجيد لأجيال متعاقبة على مر قرنين من الآباء والأسلاف) في سبيل غايات وأهداف نبيلة وعظيمة، سواء نجحوا في تحقيقها، أم أخفقوا.
ولا شك أن أهم أسباب هذه الحالة المرضية الموصوفة إنما يعود لصعود المكونات الصغيرة والهامشية، على حساب المكون التاريخي والكبير، وتحالفها، وتركيز جهودها على طعن المكون الأكبر وتحطيمه لتحقق مشاريعها العرقية والمذهبية والقزمية على حسابه، أي على حساب الأمة ذاتها .
إن هذا الانقلاب التاريخي يشبه وضع الهرم على رأسه ، بدلا من قاعدته ، وهو يتسم بانحطاط مستوى خطابه ، بانبراء الاقلام السامة والجاهلة الناطقة بلسان القوى الانعزالية ، والطائفية ، والرجعية ، والأقلاوية ، والقبلية ، والذيلية ، المرتبطة بمشاريع الخارج ، الى شن حملات افتراء حاقدة ومستمرة لإهانة كل ما يحيي الذاكرة القومية الذاخرة بانتصارات عظيمة ، وانجازات كبرى حققها العرب في القرنين السابقين ، ولا سيما ما بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته ، ويصور هؤلاء الكارهون ذاتهم ، والشاعرون بالخجل من تاريخنا العربي بعامة ، ورواد النضال القومي بخاصة ، كما لو أنهم قد ارتكبوا خطايا كبيرة ، بكفاحهم لتحرير بلادهم من الاستعمار الأجنبي ، واقتلاع قواعده ومرتكزاته الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، وكفاحهم لاستعادة وحدتهم القومية ، مثلما فعلت الأمم العريقة كافة ، الصينية ، والألمانية ، والفرنسية ، والإيطالية ، والروسية ، وصولا للأرجنتينية في أدنى جنوب الأرض .
بزوغ القومية:
يجمع المؤرخون والمفكرون على أن (النزوع الوحدوي) لكافة الأمم الممزقة هو نزوع طبيعي ومتأصل، ازداد قوة ورسوخا بعد الثورة الرأسمالية ، مدعما بظهور المصالح الاقتصادية والحاجة للأسواق الواسعة كحافز له . ثم ازداد مشروعية بسبب ظهور القوى العظمى في القرنين السابقين ، إذ أصبح الاتجاه لتحقيق الوحدة عاملا من عوامل الدفاع عن الذات القومية ، من خطر التعرض للغزو الأجنبي والتوسع الاستعماري .
وفي هذا التحول التاريخي بزغت أنوار “القومية” وانتشرت بين الأمم الحديثة، بما فيها العرب تدريجيا منذ مطالع القرن التاسع عشر، بتأثير الثورة الفرنسية أساسا، وبقية الثورات الأوروبية ، ولا سيما في المشرق ، في أوساط الشعوب التي كانت تحت الاستبداد التركي ، وارتقت من صعيد الشعور الفطري ، والفكر الأدبي ، الى مستوى الحركة السياسية الجارفة ، وسرعان ما تجذرت ، وأصبحت عنوانا لنضالهم التحرري . ودفع العرب مثلهم مثل اليونانيين والالبان والبلغار ثمنا فادحا للاستقلال، بدعم الدول الأوروبية، ولكن الاوروبيين حنثوا بوعودهم للعرب، بدعم مشروعهم القومي، واستبدلوها بغزوهم واحتلال بلادهم، وتمزيقها كيانات لا تستند لأي أساس تاريخي أو واقتصادي. وكان من الطبيعي والحتمي أن يواصل العرب نضالاتهم القومية في كل الاقطار للتخلص من تركة الاستعمار الأوروبي، والتمسك بمشروعهم لبناء الدولة – الأمة، كما فعل أقرانهم.
لذا ينبغي القول إن انتشار الحركات القومية في البلدان العربية لم يكن حدثا مفتعلا من فئات نخبوية ، كحزب البعث وحركة القوميين العرب وزعماء قوميين ووحدويين ، كجمال عبد الناصر .. إلخ، بل كان في المنظور التاريخي نضالا وطنيا وقوميا طبيعيا ومنطقيا، ورد فعل واعيا ومشروعا، متسقا مع اتجاهات التطور العالمي، ومنسجما مع تشكل وسيرورة الأمم المكتملة، ذات الهويات القومية المتأصلة.
لقد جسدت المحاولات الجادة لمحمد علي وأبنائه في النصف الأول من القرن 19 لإقامة (مملكة عربية) تضم السودان وأريتريا، وبلاد الشام الخمس والجزيرة العربية تلك التحولات الانسانية والعالمية، فلم يكونوا بدعا أو استثناء بين الأمم. وأوشكوا أن يحققوا طموحهم ثلاث مرات على الأقل، أولاها عندما استطاع أبناء محمد علي تحقيق الوحدة مع الشام كلها، ومع دول حوض النيل، والوصول الى أبواب الحجاز، بيد أن الأوروبيين المتصارعين فيما بينهم اتحدوا لمواجهة خطر محمد علي وهاجموا قواته في الشام في اربعينيات القرن 19 وهاجموا مصر والشام ومنعوا وحدتهما لأسباب استعمارية، ولا شيء آخر. والثانية حين تكرر المثال السابق في اتفاق سايكس – بيكو بين الفرنسيين والإنجليز رغم عداوتهما المعروفة ، ثم تكرر مرة ثالثة ، حين اجتمعت دول الغرب على محاربة جمال عبد الناصر ومشروع الوحدة المصرية – السورية التي حازت كل عناصر المشروعية والكمال .
بعبارة أخرى كان العرب على الطريق الصحيح للعودة الى التاريخ وساحة الأمم المستقلة، لكن ما كان ينقصهم هو الحلفاء الدوليون، وهو عامل مهم ورئيسي في العصر الحديث. أي أنهم كانوا محقين ولكنهم كانوا مستضعفين، وتعرضوا للغدر والخداع والتآمر، فاحتلت بلادهم ومزقت قطعا، ووزعت كالهدايا والسبايا بين الدول الكبرى والاقليمية حسب وصف الشاعر محمود درويش. منح الانجليز الأحواز للفرس، ورشى الفرنسيون تركيا بمنحها اسكندرونة، وأهديت فلسطين لليهود الصهاينة، وعرضت على هؤلاء ليبيا والعراق قبل أن يستقروا على فلسطين. ثم جرت محاولة تقسيم ليبيا لثلاث دول، وجرى تقسيم سورية الكبرى، ثم قسمت سورية الصغرى أربع دول، وجرى تقسيم ضفة الخليج الغربية الى أكثر من عشر إمارات قبلية، ومزق البريطانيون اليمن دولتين، والحجاز والجزيرة خمس دول، والجزائر ثلاث دول، ومزق المغرب بين موريتانيا والصحراء الغربية.. إلخ .
تزامن هذا التآمر المتعدد، والممعن في تمزيق العرب مع اعتراف الغرب بمشاريع كثير من الأمم المشابهة لتحقيق واستكمال وحداتها القومية.
حيال هذا الوضع والخطر المصيري لم يكن أمام العرب سوى تكثيف نضالاتهم، بكافة الوسائل والسبل رفضا لواقع قد يقضي على آمالهم بالعودة الى التاريخ كأمة كبيرة فاعلة، على قدم المساواة مع الأمم المجاورة، التركية والفارسية واليونانية والبلغارية مثلا، وتأكيدا لعزمهم على تحقيق طموحهم المشروع للوحدة والنهضة والقوة وتحقيق الذات القومية.
الوحدة: حركة أمة:
في بداية النصف الثاني من القرن العشرين تجلى تصميم العرب ثانية وتصاعد كفاحهم، حيث تجلى ايمانهم وتعلقهم بالأفكار القومية، والحركات السياسية ذات المنحى القومي، ولم يكن هذا – كما قلنا – توجها مفتعلا ومصطنعا، بل طبيعيا وصحيحا، فكانت (حركة القوميين العرب) الممتدة من لبنان وسورية وفلسطين والأردن الى اليمن والخليج، كما كان (حزب البعث) الذي امتد من سورية والعراق حتى تونس وليبيا والسودان واليمن. ثم جاءت ثورة يوليو في مصر بقيادة جمال عبد الناصر تتويجا لهذا التطور الجارف ونجحت بتجسيد الحالة الشعبية وتعميقها، وتحويلها الى ” حركة أمة ” أهين كبرياؤها، وتتوثب لاستعادة حقوقها وأهدافها في التحرر والتقدم والتنمية والعدالة والحداثة وتحرير فلسطين. ونجحت جماهير سورية بفرض الوحدة السورية – المصرية فرضا على القوى السياسية الانعزالية والانفصالية المناهضة للوحدة الاندماجية، ولكن المؤامرات الأجنبية لم تتوقف حتى أسقطتها بعد ثلاثة أعوام ونيف لوقف تأثيرها المتعاظم في عموم البلدان العربية، والتي أصبحت تندرج ضمن مفهوم (الوطن العربي) الذي طرحته ” الثقافة الناصرية “.
وعلى الرغم من انهيار الجمهورية العربية المتحدة وعودة مصر وسورية دولتين مستقلتين، فإن الحركة القومية، وتأثير التجربة، لم يتوقف، بدليل محاولة سورية ومصر والعراق عام 1963 لبناء وحدة أكبر من الأولى، ثم تكررت التجربة عام 1971 بقيام اتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم مصر وسورية وليبيا.
وينبغي التنويه الى ظهور وتحقيق مشاريع وحدوية عديدة بموازاة تلك التجارب بين الأقطار المذكورة آنفا:
1 – نجاح السوريين في هزيمة مشروع فرنسا لتقسيم سورية الحالية أربع أو خمس دول، وتحقيق وحدة الدولة السورية الحالية.
2 – نجاح سبع دول عربية بتأسيس (جامعة الدول العربية) منذ وقت مبكر بعد استقلالهم عن الهيمنة الأجنبية عام 1945 تعبيرا عن وتأكيد للتمسك بوحدة الأمة، ووحدة الاتجاه لتجسيدها في هياكل ومؤسسات موحدة.
3 – نجاح عبد العزيز آل سعود بتوحيد أجزاء وقبائل الجزيرة العربية في مملكة واحدة مركزية وقوية، وافشاله مشاريع بريطانيا لإقامة دويلات مجهرية على غرار إمارات الخليج، في الاحساء والحجاز ونجد والشرقية.. إلخ.
4 – نجاح الشيخ زايد آل نهيان بتوحيد سبع امارات على ضفة الخليج في دولة (الامارات العربية المتحدة) .
5 – نجاح عرب الجزيرة والخليج بإنشاء (مجلس التعاون الخليجي) منذ أربعين عاما.
6 – نجاح الشعب اليمني في توحيد شطري اليمن بعد مائة وخمسين عاما من التمزيق على أيدي الاستعمار البريطاني.
7 – تمكن الليبيون بفضل كفاحهم التحرري بقيادة عمر المختار ثم الحركة السنوسية من توحيد الولايات الليبية الثلاث في دولة واحدة، تتمتع بالثروة والسلطة المركزية.
8 – تمكن ثوار الجزائر من إحباط آخر محاولات الاستعمار الفرنسي قبل جلائه لتقسيم بلادهم الى ثلاث دول على الأقل.
9 – نجاح المغرب باستعادة صحرائه الغربية، ومنع قيام كيان مصطنع لا يزيد عدد سكانه على ربع مليون نسمة.
10 – ما زالت شعوب (المغرب العربي) تناضل لتحقيق مشروع (المغرب العربي الكبير) الذي يحقق وحدة الدول الخمس التي يضمها المصطلح السابق والتي تجمعها الجغرافية والثقافة والتاريخ، وكانت مطلبا راسخا للحركات التي قاتلت الاستعمار الفرنسي والايطالي والاسباني.
على هذا فالنضال في سبيل ” الوحدة ” شمل العرب جميعا، من المحيط الهادر الى الخليج الثائر، كما قال الشعار الشهير الذي هتفت به حناجر الجماهير بعفوية، في عموم المشرق والمغرب والجنوب، خلال حقبة النضال القومي، والذي ترجم مشاعر وتطلعات أمة كبيرة عريقة الى استعادة كيانها المجزأ بفعل عوامل وسياسات خارجية وتاريخية، لا إرادة لهم فيها، مؤكدين رفضهم لها جذريا واستراتيجيا.
هذا النزوع والاندفاع الشعبي الجارف طوال عشرات السنين عبرت عنه مدارس ومذاهب فكرية ، لا سياسية وحزبية فقط ، على الرغم من أهمية هذه ، وأكدته اتجاهات علمية فضلا عن شعبية ، قد أعاد إجلاء حقيقة أعمق وأهم ، هي أن ما نسميه بالوحدة العربية ليس فكرة نظرية مثالية لمثقفين وسياسيين نخبويين ، بل حقيقة تاريخية جيو – سياسية ماثلة للعيان ، في الشعور والفكر والسلوك الجماعي لثلاثمائة مليون عربي حاليا ، من خلال جامعة الدول العربية وعشرات القمم والمنظمات المتفرعة عنها في كل الاختصاصات الامنية والاقتصادية والثقافية ، ناهيكم عن السياسية .
لقد أكد العرب في كل المناسبات أنهم أمة واحدة في حدود (الوطن العربي) وأكدوا أنهم في كافة اقطارهم مشرقا ومغربا، يطالبون حكامهم بتحقيق الوحدة الناجزة، ويرمون مسؤولية التقصير في تحقيقها على حكامهم بسبب ارتهانهم لإرادة الدول المعادية للأمة العربية. وهي بالطبع حقيقة جسدتها مسيرة النضال العربي لتحرير فلسطين دائما، وعبرت عنها حروب 1948، و1956، و1967، 1973، وهذه شاركت فيها فعليا اثنتا عشرة دولة عربية تحت قيادة عسكرية واقتصادية وسياسية موحدة في جبهة واحدة. وعبرت عنه ردود افعال الشعوب العربية على غزو العراق عام 2003، كما عبرت عنه ظاهرة جديدة أكثر عصرية وديمقراطية، مثلتها خير تمثيل ثورات (الربيع العربي) خلال العقد المنصرم، ما يعني أن الشعوب العربية والأجيال الجديدة بعمومها ما انفكت عن تاريخ آبائها وأجدادها، رغم كل ما يحاول بعض النخب الانعزالية والأقلاوية وذات الاتجاهات الفكرية التغريبية بثه وطرحه وترويجه من ثقافة وقيم واطروحات معادية لوحدة الأمة في فضاء العولمة الذي أتاح لها نفث سمومها.
حتى في الفكر العالمي المعاصر ظهر اتجاه متفهم ومساند لطموح العرب وكفاحهم النبيل لتحقيق وحدتهم القومية، ورأينا عمالقة من المفكرين والمؤرخين المنصفين يعربون عن حتمية تحقيق الوحدة العربية، مثل أنطوني نتنج، وأرنولد توينبي، وجان جاك سرفان شرايبر، ورجاء غارودي، ومكسيم رودنسون .. إلخ . حتى أن عالم التاريخ الخالد توينبي حدد موعدا محددا لقيامها هو عام 1974 بناء على تقديرات تاريخية.
لذلك قد يسأل سائل عن سبب الفشل حتى الآن في تحقيق الوحدة ما دمنا حشدنا كل الأمثلة السالفة عن توفر إجماع عربي شعبي عليها وإيمان بمشروعيتها وضرورتها وحتميتها …؟
الجواب يتمثل في الإشارة الى ثلاثة عوامل رئيسية تتفرع منها رزم من الأسباب الفرعية، هي:
الأول: موقف الدول الكبرى والاقليمية كافة على منع تحقيقها، بسبب خطر قيامها على مصالحهم الاستراتيجية في الشرق الأوسط، واصرارهم على تعميق وتأبيد التجزئة، لأنها تضمن ديمومة عدم ظهور قوة كبرى ذات حضور حضاري وجيو – ستراتيجي عالمي يؤثر على نفوذهم في آسيا وأفريقيا، وهو ما أطلق عليه المفكر الفرنسي شرايبر (التحدي العالمي) وسماه مواطنه غارودي (كلمة العرب الجديدة للعالم) واعتبرهم حملة رسالة عالمية بديلة للحضارة الغربية التي استنفذت طاقتها.
بالطبع ما زالت حتى الساعة موازين القوى الدولية تمنع قيام أي وحدة عربية، كما شاهدنا في تجربة الجمهورية العربية المتحدة 1958 – 1961. وأظهرت تجارب أخرى بين مصر الناصرية والعراق البعثي، وليبيا، أن هناك محظورين ممنوعين تماما على العرب، هما الوحدة وامتلاك القوة التي تسمح لهم بالدفاع عن طموحاتهم وتغيير موازين القوى الدولية. فقد ضرب العراق بقسوة وهمجية بحجة امتلاك أسلحة غير تقليدية، تبين لاحقا أنها حجة مختلقة لعدوان كبير أفضى لاختلال موازين القوى على مستوى الاقليم، وسمح لإيران بالتوسع على حساب العرب حصرا. وما يؤكد ذلك أن دول الغرب الخمس الكبرى كافأت ايران على عدوانها وجرائمها وتوسعها بشرعنة برنامجها لامتلاك السلاح النووي الأمر الذي قالت عنه صحيفة اميركية كبرى: إن الاتفاق النووي 2015 سيسمح لإيران بإنتاج اسلحة نووية برخصة دولية بعد فترة هدنة لا تزيد على عشرين عاما!
الثاني: وجود قوى اجتماعية في الداخل العربي لم ينضج وعيها بأهمية الوحدة من الناحية الاستراتيجية، وما زالت تدافع عن دويلاتها الكرتونية حفاظا على مصالحها الطفيلية والريعية والفئوية، مضحية بالمصالح الاستراتيجية العظمى للأمة، وقد أدت هذه القوى وظائفها بدعم وتشجيع من الدول الكبرى، وتحالف الطرفان ضد المشروع القومي العربي النهضوي المعاصر: كما رأينا في ستينيات القرن الماضي.
الثالث: تحريك واستغلال الدول الاقليمية الكبرى المجاورة للعرب، اسرائيل وايران وتركيا وأثيوبيا لبعض المكونات الصغيرة التي تربطها بها أواصر اثنية أو طائفية، وتشجيعها على التحالف فيما بينها ضد الغالبية، المكون الأكبر، التي تمثل العمود الفقري للأمة العربية، ودفعها لتحطيم كافة عناصر قوة الأمة العربية، بما في ذلك تسخيف وتشويه مشروعها القومي، بمفعول رجعي، ومفعول مستقبلي أيضا، لأن من مصلحتها الأكيدة، ألا تقوم للعرب قائمة أبدا، كل طرف من الأربعة لمصلحة خاصة به.
الوحدة من منظور المستقبل:
في نهاية هذا البحث سنعيد تلخيص وتكثيف رؤيتنا للمستقبل العربي، متوجهين لأجيالنا الشابة التي لم تعاصر النضالات القومية المجيدة، ولم تقرأ تاريخ العرب جيدا، ونقول إنه بصرف النظر عن مشاعر الحنين لماضينا الجميل في عهود قوتنا ووحدتنا، علينا الآن أن نركز على “صناعة المستقبل” متمسكين بالمنهجية العلمية والواقعية بعيدا عن الأيدولوجيا أيضا، ولنسأل أنفسنا:
هل لنا مستقبل بين أمم العالم وكتله العملاقة، إذا اخترنا الاحتفاظ بدولنا الكرتونية التي لا تستطيع حماية ذاتها؟
هل يمكننا الاعتماد على الامكانات المادية المحدودة لدولنا الصغيرة لإطعام شعوبها، أو لتلبية حاجات الزيادة السكانية المضطردة فيها، وتحقيق آمال الأجيال القادمة في الرفاه والتقدم في عالم يزداد ازدهارا وثراء وتقدما؟؟
للإجابة على هذا السؤال الكبير دعونا نشكل لجنة من أمهر علماء الاجتماع والاقتصاد والتنمية والقادة العسكريين وخبراء الأمن والاستراتيجيا، ولنطلب منهم إعداد أبحاث علمية واكاديمية عن خياراتنا المستقبلية المتاحة تضيء طريق المستقبل، فماذا يا ترى عساهم يستنتجون ويوصون صناع القرار؟
إننا على ثقة أن هؤلاء العلماء والخبراء الأكاديميين سيتوصلون الى إجابات متشابهة، أو متقاربة، تضعها أمام القادة السياسيين مفادها: إنه لا مستقبل لنا إلا ببناء كتلة عربية قوية تستجيب لتحديات المستقبل، وتلبي احتياجات الأمن القومي والاستقرار أولا، والتطور والتنمية والرفاه والازدهار لشعوبنا، وأجيالنا القادمة ثانيا.
وقد قام مركز دراسات الوحدة العربية بجهود ضخمة على هذا الصعيد طوال اربعين عاما، شارك فيها مئات الأكاديميين العرب، خلصت الى ذات النتيجة. ورأوا أن الوحدة في هذا العصر ليست استعادة ميكانيكية لأمجاد ماض ذهبي مضى وانقضى، ولكنها استجابة جدلية حتمية واعية لحاجات وضرورات الحاضر والمستقبل. ضرورات الأمن القومي، والتنمية والازدهار والاستقرار، لا سيما في عصر ما بعد نضوب النفط الذي أمسى وشيكا.
سيقول هؤلاء العلماء والأكاديميون للقادة السياسيين: عليكم الاقتداء بالمثال الأوروبي الحالي والتجمع في مشروع عربي حقيقي يتحقق فيه التكامل والتنمية والتضامن وتجميع الطاقات القومية البشرية والمادية.
وسيقولون أيضا: حتى لو لم تكن فكرة الوحدة العربية موجودة في تاريخنا القديم، فعلينا ايجادها الآن من أجل ضرورات المستقبل. وعلينا أن نرمي خلافاتنا وانقساماتنا، وراء ظهورنا، كما رمى الأوروبيون وراء ظهورهم اختلافاتهم وصراعاتهم السياسية والدينية والمادية والقومية، وذكريات حروبهم الدموية، وعلينا أن نشرع فورا بتدشين وحدتنا، وأن ندشن (البيت العربي الكبير) على أسس علمية وبسقف عال من الطموحات، مثلما دشن الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية مشروع (البيت الأوروبي الكبير) بالتدريج.
ليس أمام العرب سوى تجاوز التجزئة والانقسام، والتحول الى الوحدة الحقيقية، وإن بشكل تدرجي، يؤجل الاندماج والانصهار ولو مؤقتا، ويكتفي بالاتحاد الفيدرالي أو الكونفدرالي في البداية.
إن هذا الخيار هو الوحيد العلمي والعملي والممكن، وهو خشبة الخلاص الوحيدة من الوقوع مرة اخرى تحت سيطرة الامبراطورية الفارسية، أو تحت هيمنة العثمانية الجديدة، أو التبعية والحماية الاسرائيلية، والتحول الى أتباع لهذه أو تلك من الدول.
وإذا كان من “حسنة ” للغزو الفارسي وقبله الاسرائيلي وبعده الروسي ، وأخيرا التهديد الأثيوبي ، ومشاريع التقسيم التي تدغدغ مخيلات بعض الأقليات التي ارتضت أن تضحي بعلاقاتها مع المكون الكبير ، وتخون تاريخها لتصبح جيوشًا مرتزقة لصالح أعداء العرب ، فهي إنما تذكرنا بعجز دولنا ومجتمعاتنا المجزأة عن الدفاع عن وجودها ، أمام جيراننا الذين طوروا قواهم ، وتداعب رؤوسهم أحلام واساطير التوسع على حساب العرب ، وها هم يستبيحون بلادنا من كل حدب وصوب حاليا ، كما تذكرنا بعجزنا عن توفير مياه الشرب العذبة ، والخبز والغذاء لمئات الملايين من جماهيرنا المتكاثرة بدون ضوابط .
علينا جميعا كعرب، لا كمصريين وجزائريين وسوريين وسعوديين وعراقيين تغليب المصلحة المشتركة العليا، وتحقيق الوحدة غصبا عنا، مثلما وجدت 27 دولة أوروبية أنها مرغمة على تحقيق مشروع (البيت الأوروبي الكبير) رغم أن هذه الدول أغنى وأقوى من دولنا، نتيجة قراءتها العلمية لحركة التاريخ واتجاه التطور العالمي.
ولا بد من التحذير من أن البديل الحتمي الأوحد لمشروع (الوحدة) هو تداعيات وانهيارات في بنياتنا السياسية والاجتماعية والاستراتيجية، وتفتتنا وظهور مكونات وكيانات عرقية وقبلية ودينية في كل أقطارنا، لنصبح في الأخير وحتما غنائم سهلة لجيراننا المتأهبين لاقتناصنا.
على نخبنا السعيدة التي عاشت القرن العشرين بطوله، وهي تتغنى بدولها الغنية، دون أن تهتم بمستقبل أبنائها، حتى بدأنا اليوم نشهد انهيار لبنان الذي كان (سويسرا الشرق) ونرى عجز مصر وهي كبرى دولنا وأكثرها مركزية عن اطعام سكانها وضمان أمنها المائي، وهي التي تعتبر (هبة النيل) منذ أن وجدت الحياة فيها، والسعودية ودويلات الخليج مهددة أن تكون تحت رحمة إيران أو تركيا أو اميركا واسرائيل، بسبب نضوب النفظ، وتكشير الجيران الخطرين عن مخالبهم وأنيابهم الحادة.