تقوم السياسة العربية السائدة، في الأغلب، على الأقوال والشعارات أكثر منها على الأفعال والممارسات، تركّز على الشكليات دون المضامين، وتستمرئ تعمّد خلط المفاهيم بدل تعيينها أو تمييزها، ذلك لزوم العدة المفهومية للسلطات الاستبدادية، التي تعتمد الديماغوجيا والتورية والتلاعب والتوظيف لتعميم مفاهيمها، وترسيخ سلطاتها، وتشريع سياساتهــا.
إنه الاضطراب والتخبط الذي يشير لمرضٍ عربي عميق، نتوهّم بأن أعمال التحدي الصبيانية- لأنصاب دعاتها- هي مقاومة حقيقية، ونفترض الجهل المتقصّد موقفاً سياسياً، وهذا ما كرسه حافظ أسد قولاً وممارسةً سياسية مع تعميم كم الأفواه وكاتم الصوت في كثير من المواقف والمحطات منذ ستينات القرن الماضي وسبعيناته وصولاً لحتفه ومجيئ وريثه القاصر متابعاً مشواره الإجرامي إياه؛ وبأنصابٍ كهذه، نستطيع المفاخرة!، مقيمين الشواهد على مآثر عظيمة في التحرير والإنماء والبطولة ومكارم الأخلاق أيضاً! وبإقامتها، لا ندع مسيرة حافلة بالاغتيالات الظافرة تتقهقر بـلا أثر وتغرق في النسيـان.
ثمّة حاجة ملحّة، إذاً، لتعميم هذه الأنصاب وتمجيدها أيضاً، من أجل ترسيخ حدود القبيلة وترهيب من تسوّل له نفسه الخروج على قطيع الطائفة والملة، وعلى إملاءات الزرائب، لتبقى ذكرى “حسن الصبّاح” ومأثرُة جرائمه راسخةً في النفوس كدعامةً من دعائم الهوية المشوّهة، ومدرسةً تَستوحي أمثولاتِها، جيلاً بعد جيل، سلالاتُ البطش والترهيب ودسّ السمّ في حليب الأطفــال.
فمنذ أيام ’’ الحشّاشين‘‘، تبدلت تقنيات البؤس والجريمة، واستُبدلتْ بالحشيشة حبوبُ ’’الكابتاغون‘‘، كما استُبدِلتْ بخناجر الغدر كواتمُ الصوت، مما يتماشى مع حداثةٍ تستخدم تذاكر السفر وتستقلّ سيارات الدفع الرباعي، وتتقدّم بالهواتف المحمولة بالضواحي المكتظة بالمتبطّلين ولقطاء الشوارع، تماماً كما استُبدِلتْ بخيول الغزو الدراجاتُ النارية تُغير على مسيرات الحريّة في سائر ساحاتها؛ تغيّرت الأدوات، وأما الغدر بقي تحت الأحزمة، والدمُ يبقّعُ العمائــم.
نموذجها الأخير طريقة وأسلوب مقتل ’’ لقمان سليــم‘‘في لبنان بكاتمٍ لا يكتم أسراراً، إنها لغةُ الجبان وفضيحته معاً، إنه قناع المهزوم أمام الحقيقة؛ هو علامة العاجز في أن يصير صديقاً وأباً وجاراً يمتلك نافذةً يفتحها كل صباح على الشعاع، وركناً يسقي فيه وردة عطشى، لقد غادر (سليــم) بأسفٍ شديدٍ ممن غدر به “بـلا أسـف”.
إنّ المجرم أراد إيصال رسالة في ظلّ أجواء ملبدة بالماكرونية والبايدنية، لرعاية إرهاب إيران من جديد، علماً أنّ هذه الماكرونية والبايدنية هي نُسخ من سياسة غربية تتزعمها أميركا وفرنسا وبريطانيا تاريخياً في التعامل مع منطقتنا تاريخياً والملف الإيراني الآن، لقد كان الاغتيال اختبار لسياسة (بايدن) في لبنان كإحدى الرسائل التي حملها.
فعندما يسارع حزب الإرهاب اللاهي إلى إصدار بيان ينفي فيه مسؤوليته عن الاغتيال ويطالب بالتحقيق، هذا يعتبر خطوة سياسية يستخدمها الحزب بعد كل عملية اغتيال وتصفية قام بها في لبنان، منذ تأسيسه بداية الثمانينيات، حتى إنّه كان يُدين خطف الدبلوماسيين والمدنيين في الوقت الذي كان يفاوض أميركا والغرب بمعية نظام البعث الأسدي على إطلاق سراحهم، وبقي يصدر بياناً بعد كل عملية اغتيال يقوم بها، وفي بيانه الأخير حول اغتيال (سليــم) يؤكد بأنّه حان الوقت، لكي ينتقم ممن يفتحون ملفاته في الفساد والمخدرات وقتل الناس في سورية ولبنان واليمن والعراق وفرض الأجندة الإيرانية بتغاضٍ أميركي وغربـي.
علينا أن نوسّع أفق رؤيتنا لأوضاعنا العربية كشعوب في سورية ولبنان والعراق واليمن والبحرين، أليس تصريح وزير خارجية (بايدن) الجديد أنّه يجب عدم تصنيف الحوثيين كمنظمة ارهابية، هو رسالة لإيران وحزبها في لبنان، بأنّهم الآن أكثر أماناً؟ أليس تعيين (روبرت مالي) مسؤولاً للملف الإيراني في إدارة (بايدن) رسالة أخرى لحزب الإرهاب اللاهي؟ ففي كلمته بافتتاح ممارسة عمله، ركز ’’ أنتوني بلينكن‘‘على اليمن دون اهتمام بسورية أو لبنان أو العراق، وقد كاد أن يُحمّل كل الأطراف المسؤولية ما عدا إيران.
إننا كشعوب محكومون باستطالات أميركا في المنطقة، ومعها استطالات فرنسا في لبنان أيضاً، هذه قضية قد أسس لها (أوباما) على نحوٍ ممنهج ومتين، فقد أطلّ علينا الكانتون المسيحي في سورية ولبنان وبغطاءٍ فرنسي بريطاني مشترك، بمذكرة مسيحية دينية! ومدنية وأكاديمية! وسياسية! للحكومات الغربية، تحثّها على إعادة النظر بالعقوبات المفروضة على نظام القتل في سورية اعتماداً على قرار (قيصر)، بحجة أنّ هذه العقوبات تؤثر على مجمل الشعب، وقد ساهمت حسب زعمهم بمزيد من المعاناة الاقتصادية والمعيشية الموجودة أصلاً في سورية ويعيش الشعب تحت ضغطها منذ سـنوات.
حقيقة الأمر، إنّ مجموعة من المسيحيين السوريين واللبنانيين استطاعت أن تستميل الرئيس (ماكرون) للإصغاء لحكاية مفادها، أنّ الاقتصادين، السوري واللبناني، متداخلين ومتشابكين بحكم الجوار والعلاقات الاقتصادية العتيقة بين البلدين، وأنّه من أجل إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية والسياسية الطاحنة، لا بد أن يكون ذلك مترافقاً مع إخراج سورية أيضاً، بالتلازم لما تختصّ به الحالة اللبنانية السورية من سمات ومفاعيل وظروف اقتصادية واجتماعية مشتركة؛ ما هي إلا مبادرة يقف خلفها نظام القتل بدمشق ومعه روسيا الفاشية لاستمالة الرئيس (ماكرون) من بوابة المسيحية اللبنانية السورية!، وتبدو أصابع روسيا واضحة تماماً في خلفية المشهد، وبالطبع أصابع ذيلها، من خلال الاتجاه العام لمضمون هذه المذكرة الذي لا يتضمن إلا رفع العقوبات المفروضة من مفاعيل قانون ’قيصر‘ الذي أصدره الكونجرس الأميركي.
يأتي ذلك في وقتٍ يدور فيه حوارٌ شاق- نخوضه جميعاً- حول شرعية التمثيل لشعبنا السوري، لنجد في كواليس المعارضة السورية تباين حاد بين مقومات الكتل السياسية والعسكرية المتنافسة على شرعية تمثيل السوريين ومطالبهم، وحدة التنافس الشرعوية هذه تكتنفها أحلام التفرد بالقيادة ونزعة رفض الآخر الكلية من باقي الأطياف إلا ذاته، وهذه لا تختلف أبداً عن سلوك سلطة الاستبداد الأسدية القائمة ذاتها والتي مارست وتمارس شرعيتها العنفية بعدم الاعتراف بالمختلفين عنها سياسياً وفكرياً، وتصرّ بصلف على الاستفراد بحكم سورية حتى لو باتت خـراباً.
فهل يمكن بسؤال: من يشاركني؟ المختلف عن سؤال: من يمثلني؟ أن يجد السوريون اليوم من يمدّ يده لحمل التركة الثقيلة بعد10سنوات من ممارسة كل صنوف الشرعيات؟ ومن يتحمل المسؤولية معي ويشكل رافعة للتشارك في وحدة المصير والهوية، بعد سنوات من تذررها وتشتتها بين ألف مصير ومصير دونه؟ من يدخل بوابة السياسة معي بعد أن حولتنا الأيديولوجيات لقبائل سياسية متناحرة تغزو بعضها البعض، وتسبي أفكار بعضها البعض، وتمارس كل عفن التاريخ القابع فينا، وبصورة منمقة” تلعي“النفس وتغشها؟ ومن يكون سورياً في زمنٍ باتت كلمة السوري عبئاً على مسامع كل الدول، وباتت المشاريع ما دونها قيد التداول والتنفيذ؟ وهل سيبقى سؤال من يمثلنا ذا شرعية ثورية جزافية، أم لا بد من فتح بوابات الأسئلة الأخرى؟
إنّ التاريخ هو مسيرة الصراع المجتمعي بكل مستوياته وأشكاله وأنواعه، وباختلاف الثقافات أو الأيديولوجيات الحاملة له، وبعد10سنوات من بداية الثورة والحراك الاجتماعي، وما رافقه من ظروف وإشكاليات وصراعات إقليمية ودولية ومحلية في سورية، لا بد من اجتراح الحل للخروج من معضلة وجدنا أنفسنا في أتونها جميعــاً.
المصدر: اشراق