لم يترك الرئيس فلاديمير بوتين طريقة، عسكرية أو رمزية، إلا وبعثها إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لـ«إقناعه» باتفاق حول إدلب يتضمن تراجعاً عن السقف الذي رسمه مقابل بعض من «حفظ ماء الوجه» وقبول الرئيس السوري بشار الأسد «تجميد» قرار استعادة فورية لمناطق شمال غربي سوريا.
لعب الرئيس بوتين دور «الحكم» بين الرئيسين الأسد وإردوغان والميزان بين سقفين، للوصول إلى اتفاق خفض طموحات التفاهمين السابقين في أستانة وسوتشي ويتضمن كثيرا من الأفخاخ، ما يرجح أن يكون «تفاهم موسكو» مؤقتا بانتظار جولة جديدة من الصراع.
– إشارات رمزية
في الطريق إلى موسكو، عرض كل من بوتين وإردوغان أوراقه السورية وغير السورية. ومن يعرف الماكينة الروسية الموروثة من الذهنية السوفياتية، يعرف أنه لا مكان للصدف وأن كل تفصيل له يقرر في الكرملين، لذلك فإن الإشارات الرمزية التي أقدمت عليها موسكو تحمل كثيرا من المعاني… فماهي؟ عسكرياً، لم يعرقل قصف قوات الحكومة السورية عشرات من عناصر الجيش التركي في جبل الزاوية جنوب إدلب . في ذلك، استفادة من تجربته مع واشنطن، عندما قتل الجيش الأميركي عشرات من «مرتزقة فاغنر» الروسية لدى محاولتها عبور نهر الفرات. الرسالة الأميركية لموسكو كانت أن نهر الفرات هو خط التماس. والرسالة الروسية لتركيا في جبل الزاوية، كانت أن هذا هو خط التماس.
كما عزز الجيش الروسي معداته في البحر المتوسط مقابل السواحل السورية، وأرسل عبر مضيق الفوسفور الفرقاطة «الأدميرال غريغوروفيتش» و«الفرقاطة ماكاروف» مع ثلاث سفن حملت عشرات ومئات الجنود والمدرعات والدبابات.
الرسالة الأبلغ إلى أنقرة، جاءت من اسمي الفرقاطتين الروسيتين اللتين ترتبطان بالحروب العثمانية – الروسية. ستيبان ماكاروف، هو الأدميرال الذي وجّه الضربة للبحرية العثمانية في الحرب الثنائية بين 1877 و1878. وإيفان غريغوروفيتش، آخر وزير لبحرية الإمبراطورية الروسية؛ من عام 1911 إلى 1917، لدى قصفها السواحل العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
المفاجأة «السوفياتية» الأخرى التي كانت في انتظار الوفد التركي في الكرملين، هي تمثال كاترين الثّانية أو «كاترين العظيمة» القيصريّة. معروف عنها أن تحالفت مع كثر لوقف «مد العثمانيين» وخاضت حروبا معهم في 1768 وانتزعت جزيرة القرم في 1771 وصولاً إلى اتفاقية بعد ثلاث سنوات (إردوغان أعلن لدى زيارته كييف قبل أيام رفضه الاعتراف بضم موسكو لشبه جزيرة القرم). «كاترين العظيمة»، هي صاحبة المقولة المشهورة: «سوريا الكبرى هي مفتاح البيت الروسي» في المنطقة. توسعت في المنطقة تحت مظلة حماية مسيحيي الشرق وامتد نفوذها قبل أن يوقفها السلطان عبد الحميد الأول.
تمثال «كاترين العظيمة»، كان يقف وراء الوفد التركي وأمام أعين «السلطان» الذي حرص على القول علنا أنه كان من المفروض ذهاب بوتين إلى إسطنبول أو عقد قمة رباعية روسية – تركية – ألمانية – فرنسية «لكن جئت إليكم بسبب انشغالكم بالتعديلات الدستورية» لعقد لقاء ثنائي فقط، كما أراد «القيصر».
– السقف التركي
أعلن الرئيس إردوغان أكثر من مرة أنه في حال لم تنسحب قوات الحكومة السورية في نهاية فبراير (شباط) إلى ما وراء خطوط اتفاق سوتشي الموقع في سبتمبر (أيلول) 2018، فإن جيشه سيبدأ «عملية عسكرية واسعة» للقيام بذلك مع فصائل موالية.
وبالفعل في بداية الشهر، أطلق وزير الدفاع خلوصي آكار عملية «درع السلام» لدفع قوات الحكومة وميليشيات إيران المحمية بالغطاء الروسي إلى وراء خطوط سوتشي بعدما تعرض لضربة موجعة بقتل عشرات من جنوده في 27 فبراير. وبعد اختبار حدود الدعم الأوروبي والأميركي والتصميم الروسي، خفض إردوغان السقف في 1 مارس (آذار) بالقول: «آمل بأن يتخذ بوتين التدابير اللازمة هناك في قمة موسكو (الخميس الماضي)، مثل وقف إطلاق النار وأن نجد حلاً لهذه القضية». كما قال آكار إن عملية أنقرة ضد قوات دمشق و«الهدف لم يكن الدخول في مواجهة مع روسيا».
وتحت حملة من استعراض المعدات العسكرية شملت تصوير طائرات «درون» التركية هجماتها وإسقاط ثلاث طائرات سوريا وإعادة قوات الحكومة عن بعض النقاط في جنوب إدلب وتبادل السيطرة، عقدت القمة الروسية – التركية.
– التسوية
بعد محادثات لست ساعات، توصل بوتين وإردوغان لاتفاق تنفيذي لاتفاق سوتشي، تضمن: وقف النار على خطوط التماس في منطقة خفض التصعيد بإدلب. إنشاء ممر أمني بعمق 6 كلم على جانبي طريق حلب – اللاذقية، أي منطقة عازلة بعرض 12 كلم. تسير دوريات روسية – تركية بين ترمبة غرب سراقب وعين حور في ريف اللاذقية على الطريق السريع.
قبول إردوغان بذلك يعني أنه تراجع عن مطالبته بعودة قوات دمشق إلى حدود سوتشي وقبوله تشغيل الطريقين الدوليين بين حلب ودمشق وبين حلب واللاذقية ويعني تحمل أنقرة مسؤولية إقامة المنطقة العازلة وإبعاد فصائل معارضة أو متشددة من جانبي الطريق الدولي. لكنه حصل في المقابل، على «شرعنة» الوجود العسكري التركي المعزز في الفترة الأخيرة في شمال طريق حلب – اللاذقية، كما هو الحال في مناطق «درع الفرات» و«غضن الزيتون» و«نبع السلام». كما أبقى على نقاط المراقبة جزرا معزولة في مناطق سيطرة الحكومة «تحت رحمة المظلة الروسية»، وهو ما يفسر قبول دمشق التراجع عن خطة استعادة الطريقين بعملية عسكرية واسعة و«عدم التوقف عن محاربة الإرهاب» و«دحر العدوان التركي»، إضافة إلى الموافقة على قرار موسكو تسيير دوريات تركية في شمال غربي سوريا كما هو في شمالها الشرقي. لكن في المقابل، «شرعنت» دمشق المناطق التي «قضمتها» مؤخرا وحققت هدفها الاستراتيجي في «فتح شرايين الاقتصاد» وثبتت السيطرة على طريق حلب – سراقب – معرة النعمان – خان شيخون – حماة.
– الألغام
تضمن اتفاق بوتين – إردوغان الجديد، كثيرا من الألغام التي يمكن أن تفجره في مرحلة لاحقة، هي:
1- تضمنت مقدمته «إعادة التأكيد على التزامهما القوي بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية»، ما يعني أن «شرعنة» الوجود التركي ستبقى محل تساؤل في موسكو ودمشق، وهي خاضعة للمقايضات السياسية الكبرى بين روسيا وتركيا. وكان لافتا أن الاتفاق لم يتضمن القول إنه «مؤقت» كما هو الحال في اتفاق سوتشي.
2- تضمن «تأكيد تصميمهما على مكافحة جميع أشكال الإرهاب، والقضاء على جميع الجماعات الإرهابية في سوريا على النحو الذي حدده مجلس الأمن الدولي مع الاتفاق على أن استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة». يعني هذا أن لدى موسكو ودمشق «المبررات لاستئناف محاربة المتطرفين». يعني أيضا أن لأنقرة ذخيرة تفاوضية بـ«ضرورة عدم استهداف المدنيين أو البنية التحتية تحت أي ذريعة».
3- لم يتضمن الاتفاق أي إشارة إلى آلية رقابة على وقف النار وتنفيذ الخطوات اللاحقة، وترك ذلك إلى تقدير الجانبين الروسي والتركي من دون انخراط دمشق أو فصائل المعارضة.
4- إقامة «منطقة عازلة» على جانبي طريق حلب – اللاذقية تشبه تحدي إقامة «منطقة عازلة» بين قوات الحكومة وفصائل المعارضة بعمق 20 كلم بموجب اتفاق سوتشي، الأمر الذي لم يتحقق. كما لم تنجز مهمة تسيير دوريات مشتركة أو «متزامنة».
5 – تضمن عدداً من «النقاط الغامضة» ومسائل يصعب التعامل معها؛ خصوصاً بشأن الانسحاب من الطريق الدولي وترتيبات ذلك.
6- أعطى الاتفاق تركيا «حق الرد على أي هجمات من النظام» بالقدر نفسه الذي أعطاه لدمشق لـ«محاربة الإرهاب والرد على أي استفزازات»، ما يترك وقف النار عرضة لاختبارات عدة.
7- العقدة الرئيسية مرة ثانية، هي أن تفسير أنقرة لهذا الاتفاق يختلف عن تفسير موسكو ودمشق. الأولى، تريده بوابة لإقامة مديدة في شمال سوريا. بوتين يريده محطة للإبقاء على تركيا في الحضن الروسي واحتمال فتح أقنية بين دمشق وأنقرة. أما دمشق، فإنها تعتبره «استراحة قبل استئناف المعركة لاستعادة إدلب قبل التوجه شرقا لاستعادة جميع الأراضي».
المصدر: الشرق الاوسط