مؤتمر سوري أمام الفرن   

حازم نهار

لفت انتباهي تقرير مصور أعدته قناة خاصة، يتضمن مقابلات مع مواطنات ومواطنين في دمشق أمام الفرن، حيث اعتادوا الوقوف في طوابير لشراء الخبز؛ مقابلات تُشعرك أنك في مؤتمر موضوعه الخبز، أبسط مقومات الحياة؛ اعتراضات وشكاوى واقتراحات. بعد مشاهدته، والتمعن فيه، تنتاب المرء مشاعر مختلطة هي مزيج من الحزن والقهر والضحك والاستهجان في آن معًا؛ مشهد مكثف لآلية تعاطي النظام مع الناس، وتعاطيهم هم مع مشكلاتهم، ومع النظام.

أمام الفرن، تعترض مواطنة سورية، فتقول: بدلًا من أن نأتي كل ثلاثة أيام لنحصل على ثلاث “ربطات” من الخبز، أصبحنا نضطر إلى المجيء كل يوم لنحصل على “ربطة” واحدة.

مواطنة أخرى تقول: أنا يكفيني ثلاث “ربطات”، لكن إذا زارني ضيوف لن تكفيني، هل من المعقول أن يأتيني ضيف ولا أستطيع أن أطعمه؟!

مواطن يطرح مشكلته قائلًا: أنا من الجزيرة، جئت إلى مشفى الأسد الجامعي بدمشق، ومعي مريض. أتيت إلى المخبز، فأخبروني أنهم لا يستطيعون إعطائي الخبز لأنه ليس لدي بطاقة. ماذا أفعل إذا كانت بطاقتي في الجزيرة؟!

مواطن ثانٍ: أنا متزوج، عائلتي موجودة في “الضيعة”، والبطاقة معها، بينما أنا هنا عسكري وأقطن في المزة، ولا أستطيع الحصول على الخبز، ماذا أفعل؟ هل أحضر البطاقة لتبقى زوجتي وأولادي بلا خبز؟

مواطن آخر يتقدم مباشرة باقتراحاته لحل المشكلة، فيقول: ليتهم يجمعون كل يومين معًا، وهكذا نتخلص من مشكلة توفير “الفراطة” من جهة، وتخفيف الازدحام من جهة ثانية.

مواطن آخر يحمل دفتر العائلة، ويعرض مشكلته: أنا مخصصاتي حاليًا “ربطة” واحدة في اليوم الواحد، على الرغم من أننا ستة أشخاص في البيت. يقولون لنا اذهب إلى “النفوس” وعدِّل بياناتك في دفتر العائلة، لكن هناك لم يثبِّتوا بياناتنا حتى الآن. هذا يعني أنني مضطر إلى أن آتي إلى المخبز يوميًا لأحصل على ربطة واحدة لستة أشخاص، أنا لوحدي أحتاج إلى ربطة واحدة.

مواطنة أخرى: أنا سورية لكن زوجي لبناني، ذهبت لاستخراج “البطاقة الذكية” وإضافة أولادي، فأخبروني أن أولادي أجانب ولا نستطيع إعطاءهم الخبز، هل من المعقول أن زوجي الذي سكن في سورية سنوات ليس من حقه الحصول على الخبز؟!

مواطن آخر: الآلية الجديدة خصّصت لكل شخصين “ربطة” خبز، أنا أقترح أن تجمع المخصَّصات خلال مدة شهر، وبالتالي تكون مخصّصاتي أنا وزوجتي ثلاثين “ربطة” شهريًا، ومن ثمَّ أستطيع أن آتي إلى المخبز وأشتري أربع “ربطات” مثلًا في اليوم الواحد، بحيث لا نتجاوز الثلاثين “ربطة” خلال الشهر.

(2)

أصبح تأمين الخبز هاجسًا يوميًا للمواطن السوري، وربما يصبح رغيف الخبز حلمًا بعد وقت قريب. يعتقد بعض السوريين أن المشكلة في صاحب الفرن أو في مديرية المخابز أو دائرة النفوس أو في “الذكي” الذي صمم “البطاقة الذكية”، وهم جميعهم، في اعتقادي، مخطئون، أو ربما يعرفون مكامن “الخطأ”، لكنهم يخدعون أنفسهم أو يخدعون النظام الذي يعدّ عليهم أنفاسهم، والذي بدوره يعرف أنهم يخدعونه، ويقبل به. المشكلة من ألفها إلى يائها تبدأ بالسياسة وتنتهي بالسياسة.

لم تكن نكتة إذًا عندما ذهب “مندوب الضيعة”، في مسرحية غربة، إلى العاصمة، للحصول على موافقة لتزويد الضيعة بجرار، فطلبوا منه مرة موافقة وزارة الأوقاف، ومرة موافقة مدير قلعة حلب، لتلبية الطلب. الحصول على رغيف الخبز يحتاج، في سورية اليوم، إلى موافقة دائرة النفوس، مع ما يتبعها من موافقات وطوابع وعمولات، وما تستلزمه من معاملات لا نهاية لها.

أيُّ ذكاء هذا الذي لدى “البطاقة الذكية” الخاصة بتوزيع الخبز على المواطنين، البطاقة التي لم تأخذ في الحسبان الاحتمالات السابقة التي جاءت على لسان المواطنات والمواطنين في التقرير؟ على الرغم من كونها احتمالات شائعة ومتوقعة؛ الزوج في مكان وزوجته وأولاده في مكان آخر، عدم تثبيت دائرة النفوس للبيانات الواقعية الخاصة بالعائلات والأولاد، سوريات متزوجات من مواطنين غير سوريين، عسكري يخدم في دمشق بعيدًا من “ضيعته”… إلخ. هل من المعقول أن يبقى هؤلاء بلا خبز، لأن “الأذكياء” فاتتهم مثل هذه الاحتمالات؟!

لا يمكن استبعاد أن تكون الغاية إشغال الناس بلقمة عيشهم، أو تعزيز آلية الفساد على المستوى الشعبي، حتى لو كانت ضمن آليات بسيطة شكلًا ومردودًا، كأن يبيع بعض السوريين الخبز خارج إطار الطوابير المزدحمة بأسعار أغلى، أو ربما تكون الغاية إضافة عناصر جديدة للتباعد والشقاق والعداوات بين الناس تنشأ أمام الأفران، وغيرها، وتتمظهر بتعزيز ميول الخلاص الفردي ضد كل ما هو مصلحة جماعية، وربما تكون الغاية الأهم خفض سقف توقعات السوريين بعد “الانتصار العسكري”؛ يوحي المؤتمر أمام باب الفرن بأن السوريين تأقلموا مع المشكلة من الناحية الجوهرية، وانصبت اعتراضاتهم ومقترحاتهم على شكل الأداء بما يسهِّلها عليهم فحسب. سقف مطالب السوريين اليوم ليس عاليًا، وليس غريبًا ألّا تكون أعلى بعد أن دفعوا، في الداخل والخارج على السواء، ضرائب فوق احتمال البشر: تأمين حاجة الناس اليومية من الخبز؛ مطلب سقفه عالٍ، ويصعب تحقيقه، على ما يبدو، ليس في مناطق سيطرة النظام فحسب، بل في سورية كلها.

(3)

تأتي اللوحة الهزلية القاهرة السابقة بعد أن بدأ مؤخرًا تطبيق آلية جديدة لتوزيع الخبز، تستند إلى تقسيم الأسر السورية إلى شرائح بحسب عدد أفرادها، ولا يحصل الفرد، بموجبها، على أكثر من أربعة أرغفة يوميًا، ويجري التوزيع عبر “البطاقة الذكية”، في حين كانت حصة الأسرة يوميًا، إلى مدة قريبة، أربع “ربطات” من الخبز، أيًا يكن عدد أفرادها.

وقد برّرت السلطة إجراءات توزيع الخبز عبر “البطاقة الذكية” بأنها تندرج في إطار ترشيد الاستهلاك وتخفيف الهدر من جهة، ومواجهة عقوبات “قيصر” المفروضة عليها من جهة أخرى. ومؤخرًا، صدرت تصريحات عن بعض المسؤولين تحمِّل السوريين أعباء الأزمة الاقتصادية، مثل التصريح المضحك لمدير عام المخابز الذي عزا السبب الرئيس لنقص الخبز إلى “زيادة الطلب عليه، كونه جزءًا أساسيًا من قوت الأخوة المواطنين، بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية”.

بينما يرى كثيرون، معارضون وموالون، أن السلطة قادرة على توفير المال اللازم لتعزيز قدراتها العسكرية، وفرض سيطرتها على الأرض، ومن ثمّ لا يمكن قبول تبرير عدم وجود المال اللازم لتأمين القمح، فضلًا عن أن المواد الغذائية، كما هو معروف، مستثناة من الحصار والعقوبات، أو هناك طرق وآليات محدّدة للحصول عليها في ضوء قانون “قيصر” على أقلّ تقدير. أما توزيع الخبز عبر “البطاقة الذكية”، فهو ليس أكثر من أسلوب تقني استثماري؛ أسلوب من أساليب السلطة لمشاركة المواطن في لقمة عيشه، لأن الشركة المسؤولة عن البطاقة تحصل على مبلغ معيّن في كل استخدام لها.

على الرغم من الاختلافات المتوقّعة في الرؤى إلا أن هناك اتفاقًا عامًا على أن حياة السوريين توشك على الانهيار الكلّي، خصوصًا أن 83 في المئة من السوريين اليوم يعيشون تحت خط الفقر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، وأن بيانات (برنامج الغذاء العالمي) تشير إلى أن عدد الذين “لا يشعرون بالأمن الغذائي” يقدّر بنحو 9.3 مليون فرد؛ أرقام وأوضاع مخيفة لا تلقى أي اهتمام أو تحرّك من السلطة أو غيرها، حتى على مستوى توفير الحاجات الأساسية البسيطة للاستمرار بتنفس الرئتين وتقلص المعدة.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى