1- في راهن حالنا
قبل خمسين عاما من الآن في 28 سبتمبر 1970 غاب جمال عبد الناصر، انتقل من عالمنا هذا إلى جوار ربه، انتقل فيما كنا جميعًا ننتظر أن يستكمل المشوار، ويطوي صفحة نكسة حزيران، ويستعيد الحركة، حركة الثورة وحركة الأمة في اتجاه بناء مشروعه ومشروع أمته في النهوض والوحدة والتقدم.
لم يخطر على بال أحد في ذلك اليوم أو في أجواء ذلك اليوم، أن غياب الرجل يعني غياب مشروعه، وأن نهضة الأمة وحضورها وألقها قد توقف مع توقف حياته، وأن الهزيمة الحقيقية للأمة بدأت من ذلك اليوم، رغم أنها لم تكشف عن وجهها إلا تباعا.
كانت حركة الردة بحاجة ألى أحداث كبيرة حتى تستطيع أن تحقق ما تريد وأن تغير اتجاه الحركة والفعل، وجاءت الأحداث تباعا:
كان الحدث الأول تفرد أنور السادات بالسلطة عقب انقلاب 14 / 15 مايو 1971، وكان الحدث الثاني حرب أكتوبر 1973، وكان الحدث الثالث تسليم الراية وأوراق القضية كلها إلى الولايات المتحدة، وصولا إلى كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، وترافق مع هذه المحطات وتبعها الكثير.
انقلاب حقيقي على ثورة 23 يوليو 1952، هو أطول انقلاب يحدث في تاريخ أي ثورة، احتاج إلى نحو سبع سنوات حتى يفصح عن كامل وجهه، لكنه اتجاهه ومنذ اللحظة الأولى كان محددا، وللبصير كان واضحا.
مصر درة الوطن العربي، وقاطرته الرئيسية، البلد الأكبر والأعرق، والمجتمع الأكثر تماسكا وحيوية، والدولة الأكثر رسوخا، والأغنى تنوعا وعطاء وثراء، والساحة الرئيسية للتجربة الناصرية، كانت هي المستهدف الأول والأهم في حركة الردة، لأنها كانت هي المستهدف الرئيسي في تجربة الثورة والنهوض الناصرية، كان لا بد من تفريغ مصر من كل خصائص القوة فيها، وكان تقدير من خطط وعمل لهذه الردة أنه بعد مصر ستتهاوى الحصون تباعا، وسيخسر العرب وطنا وشعبا وتجارب كل ما حققوه في عصرهم الحديث.
كان لا بد من تفكيك القطاع العام الذي كان عنوان الثورة وأحد أهم مظاهرها، وكان لا بد من تفكيك القوى الاجتماعية، أو التحالف الاجتماعي الذي أقامته الثورة والذي بُني حول مفهوم “العمل وقيمة العمل” ومثله اجتماعيا “تحالف قوى الشعب العامل”، ومثلته حركيا تنظيمات هذا التحالف السياسية والشعبية والشبابية، وكان هذا كله المجسد لمعنى “الوحدة الوطنية” القادرة على تحمل أعباء ومسؤولية النهضة، والقادرة على صوغ “مواطنة حقيقية”، وقد استخدمت لتحقيق هذا الغرض قوى من اليمين واليسار ومما يسمى بالتيار السياسي الاسلامي، واعتبر هؤلاء جميعا أن ما يقومون به مهمة مقدسة، استبسلوا في انجازها، وأن نتاجها نصرا لهم ولتياراتهم، وتوجهاتهم وأهدافهم.
كان لا بد من التخلص من الجيش المصري المحتشد في ساحة المعركة خلف شعار إزالة آثار العدوان، والذي اجتمع الشعب المصري والأمة العربية كلها معه وفيه وخلفه. كان المطلوب التخلص من هذا الاحتشاد، وأيضا التخلص من عقيدة هذا الجيش التي بنيت على أساس أن العدو الرئيسي المهدد للأمن الوطني والقومي هو الكيان الصهيوني بقضه وقضيضه، وقوى الاستعمار الغربية وسياساتها وتتقدمهم الولايات المتحدة، وجاءت حرب اكتوبر ـ التي كان من المفترض أن تكون مدخلا للتحريرـ لتصبح المدخل لهذا التحول النقيض.
كان لابد من التخلص من مفهوم استقلالية الإرادة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني، واستقلالية الخيار السياسي، وكما احتاج هذا إلى إفراغ الداخل الوطني من القوى المعبرة عن هذا التوجه، احتاج أيضا إلى تغيير السياسات الدولية لتنتقل مصر من قيادة حركة عدم الانحياز، وحركة التحرر الوطني، لتصبح تابعة لمجموعة التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، ولتنفذ سياساته من إفريقيا إلى أفغانستان.
وقد حققت الردة التي انطلقت من مصر كل مفاعليها وألقت بظلالها على الوطن العربي كله، وعلى المجتمعات العربية كلها، وبات كل شيء في وطننا مهدد، وحدته الجغرافية، ووحدة كل قطر من أقطاره، تماسكه الوطني مهدد، بنيته الاجتماعية مهددة، وبات العداء بين مكوناته يكاد يفوق كل عداء آخر.
لم يعد الانتماء الوطني، أو القومي، أو الديني، أو الانساني، جامعا للنظم العربية.
صار التحالف مع العدو عند بعضها أسهل وأيسر وأقوى وأدعى من التحالف فيما بينها.
كانت فلسطين والقضية الفلسطينية تجمع المنظومة العربية، فصارت الدعوة للاجتماع حول “اسرائيل” هي الدعوة الجامعة باعتبارها أحسن الخيارات وأكثرها جدوى.
تم تدمير العراق واحتلاله، وتدمير سوريا ووضعت على حافة التقسيم، وتدمير ليبيا، واليمن، وتجزئة السودان، والعمل جار بجد وتصميم من أجل تجزئة دول المغرب العربي، وصولا إلى تجزئة وتقسيم مصر نفسها.
وعين اسرائيل التي كانت تتطلع إلى أجزاء من الضفة التي احتلها بالعدوان، وقد ضمت إليها الجولان السورية المحتلة، كما ضمت القدس المحتلة، باتت تتطلع إلى المساحة من الفرات الى النيل، وتتطلع إلى أجزاء من الجزيرة العربية، وليس غريبا أن يصل طموحها إلى المدينة المنورة مدينة رسول الله، وهي تتطلع الآن إلى انجاز مهمة إقامة كيان كردي في سوريا مشابهة وظيفيا للكيان الصهيوني، ويكون مدخلا لتفكيك تركيا والعراق، وتلقى في هذا المسعى دعما من نظم عربية عدة. وهي تتحول الآن وبفعل اتفاقات التطبيع الجديدة إلى ضامن أمني لعدد من النظم العربية، ضامن يحل تدريجيا محل الولايات المتحدة. في نطاق حلف أمني يجري تصنيعه، ويلعب فيه هذا الكيان وبتفويض مباشر من الولايات المتحدة الدور الرئيس القائد.
ولأن الردة شاملة فقد كان طبيعيا أن لا تقتصر على الوضع الجيوسياسي، أو على البنية واللحمة الوطنية، وكان طبيعيا أن تمتد إلى البناء الروحي والقيمي والفكري لهذه الأمة، وهنا برزت جليا الدعوات الطائفية التي تحولت إلى سياسات معتمدة، في الكثير من الأقطار والمجتمعات العربية، واستخدمت لتمريرها سياسات من الاستبداد والقتل والاستهتار بالدم الوطني قد لا يكون لها مثيل في هذا العصر، ومعها برزت عمليات الهدم والتشكيك بثوابت الأمة العقدية والحضارية، بدءا من التشكيك في كتاب الله وسنة نبيه، وصولا إلى القدح والتشكيك بأعلام الأمة وقادتها من عصر صحابة رسول الله إلى عصرنا الحديث.
وبات يطل علينا ما يمكن اعتباره دينا جديدا، أو تفسيرا جديدا لدين الله، يُخرَج منه، ويحيد عنه، كل مفاهيم الجهاد والقتال في سبيل الله والحق والوطن، وكل آيات القوة والمنعة والدفاع، وتُنحى عنه كل آيات العزة والكرامة والعدل، ويُجرد من كل الشرائع التي تصون شرف الإنسان وعرضه، وتحفظ الأسرة المجتمع، وتأمر بالأخوة الإسلامية وموجباتها.
ويعرض هذا الدين أمامنا باعتباره “دين السلام والمحبة والتسامح”، وهو هكذا حقا حين نحفظ له جناحه الآخر بكونه دين الجهاد والعزة والقوة ومكافحة الظلم والذود عن الوطن والحق، وهو بدون هذا الجناح لا يعود دين الله، ولا يعود الإسلام الذي أرسله الله إلى الناس كافة.
هذا هو خط الردة الآن، الردة التي بدأت برحيل جمال عبد الناصر قبل خمسين عاما، وما زالت مستمرة، وإذا نظرنا إلى المنحنى العام لها، فلنا أن نتوقع أن القادم سيكون أفدح وأقسى على المستويات كلها: الأرض، والناس، والثقافة، والعقيدة.
وما يمكن أن نعتبره الآن مجرد إشارات توفرت على هذا التحول ـ وقد يجادلنا البعض في تفسيرها ـ، سنجدها لاحقا واضحة وضوحا لا يقبل أي جدال.
قبل خمسين عاما كنا نظن أننا سنطاول النجوم، وأن يوم وحدتنا قريب، حتى أن رجال فكر ونظر ـ من غير العرب ـ وضعوا لتحقق هذه الوحدة زمنا لا تتجاوز السنوات، كنا نسابق كوريا الجنوبية كثيرا، ونسابق مسيرة الهند، ومسيرة الصين. وكنا نشارك في قيادة العالم، ونقدم نموذجا في السياسة الدولية يقوم على العدل والتقدم ومقاومة الظلم والعنصرية.
والآن وبعد خمسين سنة قادتنا فيها القوى نفسها التي كانت تقاوم وتحارب وتواجه تجربة النهوض والتقدم تلك التي قادها ودعا إليها جمال عبد الناصر، أصبحنا على ما نحن عليه، تخلفا، وتفرقا، وضعة، ومستقبلا لا يكاد يرى.
لا أدري إذا كان هناك من يقول إننا الآن نحن في حال أفضل مما كنا عليه قبل خمسين عاما، أو في حال يدانيه، أو ينتمي إلى المنحى الذي كنا عليه.
“ونحن” ـ ضمير الرفع المنفصل هذا ـ يشمل الأمة كلها، على اختلاف انتماءاتها الطبقية أو الفكرية أو العقدية، وعلى اختلاف أقاليمها وهموم هذه الأقاليم. وأستثني من هذه الأمة أولئك الذين يعيشون فيها وهم ليسوا منها، لأنهم لا يرون أنها أمة، ولا يرون أنهم ينتمون إليها.
راهننا جد محبط، لكن هل نستطيع أن نبني تصورأ ومخرجا مما نحن فيه؟
2- مشروع جمال عبد الناصر
تجاوزا لأي موقف يمكن أن يتخذه البعض ولأسباب مختلفة من تجربة جمال عبد الناصر في البناء الوطني والقومي، ومن أحكام الصحة والخطأ في هذه التجربة، ومن تشخيص وفهم دور جمال عبد الناصر التاريخي، ـ وكل هذا يمكن أن القول أنه بات جزءا من التاريخ ـ ، فإن من المهم هنا أن نسأل أنفسنا سؤالا محددا ونحاول أن نجيب عليه:
ماهو مشروع جمال عبد الناصر الذي عمل على بنائه، وأراده سبيلا لبناء مستقبل الأمة؟
وهل يمكن لنا أن نتخذه منطلق لبناء مستقبل الأمة؟
ونحن هنا نحاول أن نجيب على هذا التساؤل.
1ـ على مدى ثمانية عشر عاما أي منذ فجر الثورة في 23 يوليو 1952، وحتى الرحيل في 28 سبتمبر عام 1970 فإن عبد الناصر تطلع إلى إعادة بناء مصر على قاعدة اقتصادية وزراعية واجتماعية وثقافية تمكنها من توفير أسس الحياة السعيدة الكريمة للمواطن والأسرة المصرية، أراد لهذه الأسرة الاستقرار والأمان العلمي والصحي، وتوفير فرص العمل والسكن.
أراد لكل فرد مصري أن يشعر أنه بعمله يوفر هذه الحياة لأسرته، وأن لا أحد له عليه فضل في ذلك إلا الله في عليائه.
أراد للمواطن المصري على اختلاف انتماءاته الطبقية أن يكون طريق المستقبل أمامه وأمام أبنائه مفتوحا، لا يعيقه عائق مادي ولا اجتماعي، وقد آمن إيمانا لا تشوبه شائبة أنه يمكن ويحق لابن الفلاح أو العامل أو الخادم أن يصبح بالعلم والعمل والجد أستاذ جامعة، أو عالما، أو قائدا عسكريا، أوطبيبا لامعا.
ومن هذه الزاوية تحديدا اعتبر أن العمل هو القيمة الوحيدة التي تحدد مكانة الفرد في المجتمع، لا الأصل الاجتماعي، ولا الثروة الشخصية، ولا السلطة التي يتمتع بها.
وعلى قاعدة العمل رفع شعار “تحالف قوى الشعب العامل”، واعتبر أن هذه التحالف هو المستهدف من الثورة، وهو القادر على تحمل أعبائها وأعباء معاركها، وهو القادر على أن يحميها.
وهذا كان مضمون شعار مجتمع الكفاية والعدل، الذي اعتبر هدفا يسعى لتحقيقه في مصر، ويعمل على أن يشعر به ويعيشه كل مصري، فينزع عنه الخوف من المستقبل، والقلق مما قد تحمله الأيام، وهذا الهدف قدمه لأمته العربية في كل اقطارها.
2 ـ ولأنه كان على يقين أن في مصر ـ وفي كل بلد على وجه الأرض ـ من الثروات ما يمكنها من أن تحقق هذا الاستهداف، وأن تبني ذاتها بناء حقيقيا قويا وعادلا، فإن المهمة التي وجدها أمامه عاجلة وضرورية لتمكينه من تحقيق هدفه الأول تمثلت في استعادة مصر لثرواتها، ووضع هذه الثروات في اتجاه النهضة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية التي يتطلبها هذا المجتمع، وكانت ثروات مصر في ذلك الوقت موزعة، غالبيتها في أيدي الأجانب، بدءا من قناة السويس، إلى معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية، وصولا إلى الأرض الزراعية التي كانت توزع في الغالب أعطيات من الملك، وهبات لمن أحب، وكانت قبلها قد وزعت من قبل الملك والمحتل البريطاني مكافآت لأولئك الذين خانوا ثورة عرابي عام 1881.
وكان هذا الواقع لحال مصر، وتلك الرؤية لاحتياجات النهوض، وراء قرارات الإصلاح الزراعي والتمصير والتأميم. كان الهدف استعادة الثروة، وإعادة توزيعها وتوظيفها لهدف بناء مصر بناء حضاريا متقدما انسانيا. لم يأت التأميم، وقبله التمصير انتقاما أو رغبة بالسيطرة وإنما استردادا لحقوق وتوفيرا لمستلزمات النهوض.
3ـ وبشكل مبكر جدا، ومبكر على قيام الثورة ذاتها اكتشف عبد الناصر ورفاقه أيضا، والكثير من أنباء جيله، أن لمصر خاصية متفردة، نابعة من حقائق جيوسياسية، وحقائق تاريخية واجتماعية، وأنها بمجموع هذه الحقائق محكومة بدور ومهمة لا تستطيع أن تنفك منها، وليس لها في حملها فضل أو منة، وإنما هي مسؤولية وواجب أوقعه التطور التاريخي الحضاري عليها، تحمي به نفسها وتحقق به ذاتها، وتقوم من خلاله بما يجب عليها القيام به.
ومن هذه الزاوية بالتحديد كان الانتماء القومي لثورة يوليو تعبيرا عن النفس، وتجسيدا لمعنى الوطنية، ووقاية وحماية للمستقبل، ومن هذه الزاوية مثل الإسلام، ومثلت رسالات السماء المحتوى الحضاري لهذه الثورة، وللمجتمع التي تتطلع إلى بنائه.
لم تكن الدعوة القومية استجلابا لنظريات تم استخلاصها من تجارب مجتمعات أخرى، ـ وليس عيبا أن يتم ذلك ـ ولكنها كانت استحضارا وتمثلا لخلاصة تاريخية حاسمة وقاطعة تيقن أعداؤنا قبلنا من حقيقتها، وبنوا خططهم على ضوئها، وباتت تحكم قدرتنا على صوغ مستقبلنا، لذلك كانت عروبة مصر هي وطنيتها المعاصرة، والانتماء القومي لمصر هو التحديد لمستقبلها الوحيد الممكن.
ولم يكن ثوب مصر الإسلامي سلاحا تفرق به بين أبناء الوطن الواحد، وتشطر فيه الوطن على أسس طائفية أو مذهبية أو دينية، فتجمع بعضهم لتواجه به البعض الآخر، وإنما قيمة أساسية روحية واجتماعية تجمع أبناء الوطن الواحد على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ومسؤولية حضارية تحملها تجاه المسلمين في العالم أجمع تحقيقا لنهضتهم وتحررهم ووحدتهم.
إن نهضة مصر التي أرادها جمال عبد الناصر، ومشروع النهوض العربي الذي عمل له، حمل في جوهره قيمة حضارية دينية إنسانية حاسمة، لذلك كانت سياسات الثورة ضد الظلم الاجتماعي حاسمة بمثل ما كانت ضد الظلم العنصري، وكانت تستهدف التخلص من الاحتلال والاستعمار بمثل ما كانت تستهدف التخلص من التبعية والانحياز إلى غير الحق والعدل، وهذا ما يفسر لنا الموقف المباشر لثورة يوليو مع حركات التحرر العربي والعالمي، وموقفها من الكيانات العنصرية والعرقية والدينية، ومن الأحلاف والتبعية للقوى الخارجية.
4ـ ولأنه كان على يقين بأن عالم اليوم عالم متواصل، جعلته الإمبريالية عالما مفتوحا لطموحاتها ولاستغلال شركاتها، وباتت دولها مجرد سلطات ممثلة لهذه الشركات، فإنه بات من لوازم أي بناء وطني أن تتوفر له القوة اللازمة لحمايته، وأن تكون هذه الحماية مهمة وطنية يقوم بها أبناء ذلك التحالف الوطني القائم على مفهوم العمل وقيمته، لذلك كان القرار هو بناء قوات مسلحة قوية وقادرة على القيام بمهمتها في حماية الوطن وثورته، والعمل على بناء صناعة تسلح توفر لها احتياجاتها. وإقامة التحالفات الدولية الكفيلة بتوفير قاعدة بناء وحماية لهذا الوطن.
وبشكل مبكر اكتشفت الثورة أن الكيان الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين وشرد شعبها، إنما هو كيان عنصري وعدواني يستهدف في الجوهر منع هذه الأمة من النهوض، وبسط السيطرة على ثرواتها، وتدمير مستقبلها، وأن منع وحدة هذه الأمة هدف أساس لهذا المشروع الاستعماري الاستيطاني، ولما كانت حركة النهضة وحركة الوحدة وفرص الانعتاق مرتبطة كلها بالدور الملقى على عاتق مصر، فإن استهداف الكيان الصهيوني لمصر يصبح استهدافا مبدئيا دائما وملحا، وتصبح مواجهة مصر لهذا الكيان جزءا من مهمات الأمن الوطني المصري، بمثل ما هي جزءا من مهمات الأمن القومي العربي، ويصبح لزاما على مصر أن تبني من القوة العسكرية والحضارية ما يمكنها من مواجهة هذا الكيان، وهذا المشروع الصهيوني الغربي.
5ـ وكشف المشروع الحضاري الذي عمل له جمال عبد الناصر عن ضرورة الوحدة العربية وأهميتها في بناء مستقبل هذه الأمة، وفي تحقيق أمنها، وفي بناء مستقبل كل قطر من أقطارها، وتوفير الأمن له، وبات واضحا بعد غياب امتد لخمسين عاما مضت أنه كلما ابتعدت الوحدة عن حركتنا اليومية، وعن سياساتنا، زاد التراجع في أمننا، وزاد الاختراق الخارجي لمجتمعاتنا، وزدنا ضعفا وتمزقا.
وقد يخيل إلى البعض أن الوحدة التي عمل لها جمال عبد الناصر ذات نموذج واحد اقتصادي وسياسي واجتماعي جسدته وحدة 1958 بين سوريا ومصر والتي ولدت الجمهورية العربية المتحدة، ـ وكانت هذه تجربة رائدة تاريخية وعظيمة تم بانقلاب عسكري مأجور وبظرف دولي حساس فصمها ـ .
لكن الحقيقة التاريخية لا تقول ذلك، والتوجه الوحدوي لجمال عبد الناصر لا يقول ذلك، والتجارب الوحدوية التي دخلتها ثورة يوليو لا تقول ذلك، بل إنها كلها تؤكد أن تصور دولة الوحدة ونظام دولة الوحدة “النظام القانوني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي” مفتوح على كل الأشكال والفرص التي تمكن هذه الأمة من تحقيق قوة الوحدة، وتحقيق مناعة وفاعلية دولة الوحدة.
كان جمال عبد الناصر شديد الإدراك لخصوصيات كل منطقة وإقليم عربي، ولخصوصيات كل مجتمع من المجتمعات العربية، وهي خصوصيات ولدتها طبيعة الأشياء من جهة، وكذلك فترات الابتعاد عن بعض من جهة أخرى، واختلاف طبائع السلطات التي سيطرت على هذه الأقاليم أو استعمرتها على مدى عشرات بل ومئات السنين، وأيضا اختلاف مستوى التطور الاجتماعي بين الأقاليم العربية وما تحقق لها من فرص وثروات.
كان هم جمال عبد الناصر في قضية الوحدة أن يشعر كل إقليم وكل مجتمع عربي يتجه إلى العمل الوحدوي أن هذا العمل يقدم له إضافة مادية وأمنية وعلمية، ويمثل نقلة حقيقية في التحرر من الاستغلال والسيطرة، والتمكن من الحرية والاستقلال والعزة على مختلف المستويات، ويتأكد كل عربي في أي اقليم كان أن الوحدة رفاه وأمن وتقدم.
6ـ وفي مرحلة دولية اتسمت بالانقسام الشديد بين قطبين لا ثالث لهما، قدم جمال عبد النناصر ومعه ثلة من قادة تاريخيين تجربة فريدة، تجربة تليق بنا وبتاريخنا الحضاري، وبقيمنا الدينية والأخلاقية، تجربة كانت كثير من دول العالم متعطشة لها، لذلك لاقت تجاوبا مباشرا امتد إلى معظم دول العالم.
قدم تجربة “حركة عدم الانحياز” التي مثلت في وقتها ضمير الإنسانية، وتوقها إلى التحرر من التبعية، وتوق كل شعب من شعوبها إلى تجسيد خصوصيته وإبداعاته، ووجهه الحضاري.
ولم تقدم هذه التجربة من منظور الابتعاد عن المعسكرات والانقسامات والمشاكل الدولية، وإنما من منظور الانتصار للحق أينما كان، والانحياز إليه أينما وجد، لذلك كانت هذه الحركة موئل حركة التحرر والاستقلال لجميع دول العالم التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار أو كانت ميدانا تلعب بحكوماته ومصائره الدولُ الكبرى.
كانت دعوة عدم الانحياز هي المعادل الموضوعي والبديل الحقيقي لسياسة الأحلاف السياسية والعسكرية، ولسياسة القواعد العسكرية ودعاوى الحماية الخارجية، وكانت أيضا مدخلا لبناء علاقات تعاون اقتصادي لا تقوم على استغلال خيرات الشعوب وثرواتها، وإنما على تمكينها من استثمار هذه الثروات، وبناء النهضة في بلدانها اعتمادا على ما تذخر به هذه البلدان من ثروات مختلفة ومتنوعة.
لم تفرض حركة عدم الانحياز نظاما اجتماعيا أو اقتصاديا محددا لمن أراد أن ينتمي إليها من النظم المختلفة، وإنما فرض عليها قيما في العمل السياسي والعلاقات الدولية تقوم على محاربة العنصرية والاستغلال والتبعية، وعلى تحرر الشعوب وحقها في امتلاك مصيرها، ولعل هذه القيم بالتحديد هي التي صدت ” اسرائيل ” عن فرصة الدخول إلى هذه الحركة منذ اللحظة الأولى لولادة هذه الحركة، وأفردتها بعيدا لتكون نموذجا واضحا جليا أمام العالم كله للعنصرية وللاستعمار الاستيطاني، وبقيت تحت هذا المجهر حتى اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها باعتبار الصهيونية شكل من اشكال العنصرية والتمييز العنصري في قرارها الذي صدر في 10 نوفمبر 1975 وحمل الرقم 3379. فاصبحت صفتها هذه موقفا يجسد ضمير الإنسانية ورؤيتها.
7ـ وقدمت التجربة الناصرية نموذجا فذا للقيادة، نموذجا تبرأ من الاستغلال والفساد المادي والأخلاقي والسلوكي، وبقي على مدى عمر الثورة الممتدة إلى ثمانية عشر عاما في مكانه من حياة الناس، ولم تتغير تلك المكانة بعد ذلك أبدا.
لقد وضع هذا القائد فاصلا لا يمكن تجاوزه بين المال الخاص، والمال العام، لم يكن له تحت أي اعتبار، ولأي ظرف كان، حق في غير ما أقره له القانون بحكم منصبه، إذا احتاج اقترض كما يقترض أي مواطن مصري، وإذا اقترض وفى، كانت الهدايا إذا جاءت رفضت وأعيدت إلى أصحابها، أو أضيفت إلى المال العام.
كان محرما على أحد ذي صله به أن يستغل هذه الصلة لتحقيق أي مكسب مادي أو معنوي، وإذا حدث ذلك فالحساب شديد.
كان يدرك وبحساسية عالية أنه في موقعه هذا مسؤول عن كل مواطن، لذلك كانت أبوابه مشرعة أمام الجميع، وكانت رسائل الناس تصله، ويعتبرها واحدة من الأقنية المهمة التي توصله بالجمهور.
كان الوقت عنده محسوبا لخدمة مهمته ومسؤولياته، لذلك كان يقرأ كثيرا، ويطلع كثيرا، ويراجع كثيرا، ويزور كل المواقع، ولا يستريح لتقارير تأتي من هنا أو هناك، وإنما يتقصى الحقائق قدر ما يستطيع.
لم يعرف عنه غير الوفاء، وغير طيبة القلب، وهي سجية تيقن الجميع من رسوخها في شخصه، حتى أن أعداءه كانوا إذا اهتزت تحتهم العروش، وفقدوا في بلدانهم السلطة، لجأوا إليه، مطمئنين إلى هذه السجايا فكان يوفر لهم الأمن والكرامة، ويغمرهم بفيض من رعايته، وبسبب تمكن هذه الطبيعة منه اعتبر البعض أن هذا الخلق ـ طيبة قلب ـ لا يصلح لقائد يقود بلدا يحيط بها الأعداء من كل جانب.
وما كان في الصراعات الداخلية يرضى باللجوء إلى الدم، ذلك أن الدم الوطني عنده مصان، وهو عنوان لمشروعية نظام الثورة، ومشروعية أي نظام، لا يجوز إراقته في غير الدفاع عن الوطن، وهو عند ذلك يكون دم شهادة تطلب للشهيد كما تطلب لوطنه، ولعل إعتماده مبدأ “الحل السلمي للصراع الطبقي” ـ وهو واحد من خصوصيات تجربته الثورية ـ مرده إلى هذا الخلق، وإلى السور الأخلاقي الذي حصن به تجربته ومشروعه الثوري.
وبسبب هذه الطبيعة لم يستطع أعداؤه أن يجدوا له، أو يجدوا فيه، ثغرة يمكن أن يعبروا من خلالها، ولذلك أيضا باءت كل محاولات الأعداء الداخليين ـ بعد أن بسطوا سيطرتهم على الدولة ـ أن يجدوا فيه منفذا.
يمكن بسبب هذه الطبيعة لم يعمر كثيرا، ولا شك أنه بسبب هذه الطبيعة كانت له مكانة في قلوب الناس ما وصلها في هذا العصر أحد قط، لا ممن كان قريبا منه، ولا ممن كان خصما له.
ما نقوله عن جمال عبد الناصر لا نقوله دفاعا عنه، ـ ودفاعنا عنه شرف لنا ـ فما عاد هو بحاجة إلى دفاع، هو عن ربه، ومن كان في ذلك المكان لا يحتاج لدفاع من أحد، ثم إن العجز الذي مني به خصومه في الاستدلال على عيب سلوكي فيه وفر أفضل دفاع عنه.
ما نقوله عن “أنموذج الخلق القيادي” الذي تجسد في جمال عبد الناصر يخص ما نتطلع إليه في مستقبلنا، لقد أتعب جمال عبد الناصر بهذا الخلق من جاء بعده من المخلصين، ليس في مصر فحسب بل وفي كل الوطن العربي، وفي أصقاع كثيرة من العالم.
وإذا كان لنا أن نتطلع إلى فرصة للنهوض فليس نموذجا للخلق القيادي أكثر اقناعا للناس وأكثر تعبيرا عن روحها، وأكثر ارتباطا بقيمها من هذا النموذج.
كل ماسبق ملامح مما تطلع إليه جمال عبد الناصر وعمل على تجسيده، قد يجادل البعض في مقدار ما حققته ثورة جمال عبد الناصر من هذه الأهداف التي رفعتها وعملت على إنجازها ، وحق لمن شاء أن يجادل في ذلك، بل إن الجدال والنقاش الجاد حول مقدار ما تم تحقيقه ضروري لمن يريد أن يساهم بقيادة أمته إلى المستقبل، لكن السؤال الذي نطرحه هنا وفي هذه المناسبة لايمس ما أمكن تحقيقه، ولكن يتصل بمدى احتاجنا لهذه الأهداف، ومدى تلبيتها لاحتياجات الأمة في النهوض، أي مدى تلبيتها لمشروع حضاري نتطلع من خلاله أن نتقدم وأن نقدم شيئا مميزا، مهما، وضروريا للإنسانية جميعا.
3 – فرص استئناف مشروع جمال عبد الناصر
منذ رحيل جمال عبد الناصر قبل خمسين عاما، وفي كل عام يمضي، وتمر فيها ذكرى الثورة أو ذكرى الرحيل، يُكتب الكثير عن ضرورة استئناف هذه المسيرة، وعن أنه لا غنى للأمة عنها، وأن إنجاز الأهداف التي وضعتها الثورة هو ما يفتح الفرصة لتجاوزها، أي أن التجاوز الإيجابي للثورة كامن في إنجاز مهامها والانتقال إلى مهام جديدة.
وفي خضم هذه الكتابات يتم التعرض إلى نقد جوانب من تجربة الثورة، أو التجربة الناصرية،
وليس في النقد ضرر للتجربة حتى لو جاء مجانبا للحقيقة، وليس منه ضرر على الأمة التي نتوخى كشف سبل التقدم أمامها.
لكن مهم أن نعي ونحن نكتب ونعالج ونسلط الضوء أن هذه التجربة، تجربة الثورة التي هزت الوطن العربي بعنف، وهزت معه الكثير من أقطار العالم، وشكلت وساهمت في بناء قيم ومؤسسات عالمية جديدة، كانت قد انطلقت من واقع وطني وقومي مؤهل لمثل هذه الثورة، في مصر، وفي الوطن العربي كله، بل وفي العالم.
إن قيم الثورة واستهدافاتها على المستويات كلها كانت شيئا يموج به ضمير الأمة، في كل أقطارها، وتتطلع إليها كثير من شعوب الأرض، لم تكن اختراعا من جمال عبد الناصر، ولم تكن اختراعا من ثورته، ولأنها كانت تختمر فيها حياتنا فقد لقيت هذه الاستهدافات تجاوبا مباشرا، وتفجرت الأرض على نحو غير مسبوق، واستطاع رجالاتها أن يجسدوا نماذج جاذبة ويقدموا صورة لقيادة نابعة من عمق الناس، من عمق تفكيرهم وتطلعاتهم وأخلاقهم وسلوكهم واهتماماتهم، وتدينهم، وفنهم، وأدبهم، وحتى مأكلهم ومشربهم.
حينما نسمع جيفارا وكاستروا في كوبا يقولان إن نصر السويس قدم لهم أملا في انتصار ثورتهم، ونموذجا على قدرة الثوار على هزيمة قوى العدوان. وحينما نسمع جي موليه ” رئيس وزراء فرنسا” يقول إنه يريد أن يهزم ثورة الجزائر من على ضفاف النيل، وحينما تتجه سوريا بكل مكوناتها إلى مصر تطلب الوحدة وتضغط وترفض أي تأجيل لها او برمجة زمنية لتحقيقها حتى تدرأ عن نفسها مخاطر الأحلاف والتهديد الأطلسي، وحينما ينطلق أول بيان للثورة الجزائرية من “إذاعة صوت العرب” التي أنشئت لهذا الغرض، وحين نرى ضباط الجيش المصري قبل الثورة يمتد دورهم ألى مناطق عدة في الأقاليم العربية، وإلى جماعات المقاومة الفلسطينية في لبنان وسوريا، ويدربون هذه المقاومة في فلسطين.
حين نسمع ونعي هذا كله ندرك أن البيئة التي ولدت فيها هذه الثورة، والجيل الذي ظهرت على يديه هذه الثورة ونظيراتها، كانت بيئة تحمل طينة الثورة ذاتها، ولعلنا إذا تابعنا مع تقدم الزمن هذا المشهد الخاص بالبيئة الحاضنة لوجدناه في تصاعد مثير على مدى ثمانية عشر عاما، لم تغيره نكسة خطيرة أولى مثلتها جريمة الانفصال عام 1961، ولا حتى النتائج الخطيرة التي مثلتها نكسة الخامس من حزيران 1967، وظهر دائما أن بيئة هذه الأمة هي بيئة ثورة يوليو، وبيئة المسيرة الثرة لحركة النهوض العربية، وبيئة التجسيد الحقيقي لترابط جماهير الأمة مع حركة الثورة وأهدافها.
الآن حين نقول إن علينا استئناف مسيرة ثورة يوليو، فهل يتوفر لهذا القول أساسه الموضوعي؟ هل تتوفر هذه البيئة الحاضنة؟
الأمر لا يحتاج إلى بحث عن إجابة، فهو شديد الوضوح، قاطع الدلالة، نحن في وضع نقيض عن كل ما كان متوفرا قبل ثورة 23 يوليو، وعلى مدى عقدين من الزمن بعدها، لقد تم تفكيك تلك البيئة التي التحمت مع الثورة، وحمتها.
من أجل ذلك فإن القول باسئناف حركة النهوض العربي من نقطة توقفها يفتقد إلى الموضوعية، إذ لا بد قبل ذلك أن نواجه ما أفرزته هذه المرحلة من مفاهيم وقيم، وما أحدثته من جروح وشروخ ، وما أوقعته من تفتيت وتفكيك في جسم الأمة وفي وطن الأمة وفي ثقافة الأمة، ولا بد أن نجعل هذه المواجهة هي المهمة اليومية لنا حتى يكون لتطلعنا باتجاه تلك الثورة، وذلك المشروع تطلع يستند إلى أساس، لا بد من برنامج عمل يمكننا من “إزالة آثار هذا العدوان على الأمة”، برنامج يمكننا بالعمل الجاد والصبور والمتبصر نمهد به الطريق لاستئناف تلك المسيرة، وفي هذا البرنامج تبرز عناوين رئيسية نحن في أمس الحاجة إلى إعادة البناء عليها وفيها :
1 ـ الوحدة الوطنية: نحن بحاجة إلى إعادة صوغ الوحدة الوطنية في كل بلد عربي، في كل إقليم عربي، لقد تم تخريب هذه الوحدة الوطنية، وجرت دماء كثيرة لتحقيق هذا الهدف، وهناك محاولات مستميتة لتمويه هذه الحقيقية بشعارات لا يمكن لها أن تعيش أو أن تعبر عن بنية اجتماعية حقيقية، إذ حينما يتم الحديث عن الوحدة الوطنية على قاعدة تجاهل الانتماء القومي العربي وفي نفس الوقت يصار إلى تصنيع أنتماءات عرقية عنصرية، فإن هذا زيف يراد منه إضاعة فرصة البناء الحقيقي للوحدة الوطنية، لا بد أن يكون للوحدة الوطنية هوية، وهوية كل وحدة وطنية في وطننا العربي هي “الهوية العربية الإسلامية”، بها قاومنا الغزو الغربي، وبها واجهنا المشاريع الاستيطانية على مدى تاريخنا وصولا إلى الغزوة الصهيونية الراهنة، وهي التي جمعت دوما كل العرب من كل الأديان، وكل المسلمين من كل الطوائف والمذاهب، هذه الوحدة هي التي واجه بها “عبد الحميد بن باديس” مشاريع الاستعمار الفرنسي لتمزيق المجتمع الجزائري عنصريا، وهي التي واجه بها “محمد عبد الكريم الخطابي” قوات الغزو الغربية لبلاد المغرب، وهي التي اعتمدها سياسة وثقافة وخططا “محمد كرد علي”، في الشام، ومثل هذه الوحدة الوطنية التي ندعو إليها ونعمل على تعزيزها لا تقوم إلا على مبدأ المواطنة حيث الجميع سواسية أمام القانون، وحيث الدستور يحمي هذه الوحدة وينمي عناصرها المتمايزة بما يجعلها أكثر غنى وفاعلية، وأجدر على أن تفتح مجالات الابداع والتميز لأبنائها.
2ـ الحفاظ على وحدة كل قطر أو اقليم عربي، هذا هدف يجب أن نضعه نصب أعيننا، فبدونه لا يمكن الحديث أو التطلع لوحدة هذه الأمة، لا يمكن الحديث عن اي هدف آخر، لأن ما يهدد هذه الوحدة الجغرافية الآن، أن الخطر على هذه الوحدة ليس خارجيا، وإنما هو داخلي، يريدون تقسيم هذه الأقاليم بتقسيم شعوبها، وبدعاوى الطائفية والعرقية والجهوية المناطقية، وبكل دعوة يرون أن من شأنها أن تحقق هدف التقسيم،ولو أمعنا النظر فيمن يقف وراء هذه الدعوات لوجدنا الأمر شديد الوضوح، إذ تظهر على الفور أيدي الصهيونية العالمية، وأيدي الدول الغربية وتياراتها العنصرية، لكن ليس هؤلاء فقط، وإنما هؤلاء مستفيدين ومستغلين أنظمة القهر والفساد والطائفية في وطننا وما خلفته في مجتمعاتنا، مما عجز المستعمر حين كان يبسط سيطرته على هذه الأقاليم أن يحققه.
لقد أمكن لقوى عديدة أن تمزق السودان وما تزال تعمل على تمزيقه أكثر، ويد ” اسرائيل” ليست مخفيه هناك، وهذه اليد موجودة بوضوح ومدعومة بالولايات المتحدة في سوريا إلى جانب الحركة الانفصالية الكردية، وأنبتت فرنسا بذور الحركة البربرية وغذتها وما تزال ترعاها، أما في ليبيا فإن التقسيم الواقعي محمي الآن من الدول الاطلسية التي دمرت هذا البلد، كما دمرت الولايات المتحدة وتحالفها الدولي العراق.
من المهم أن نلاحظ ونحن ندقق في هذه الحركات العاملة على تقسيم هذه الأقطار أنها كلها بدون استثناء تعتمد في نجاح ما تقوم به على اعتبار “الإسلام عدوا يجب الوقوف في وجهه”، لأنهم يدركون إدراكا صحيحا وعميقا، إدراكا غذته مراكز الاستشراق والفكر الغربي، بأن هذا هذا الاسلام ثقافة وحضارة وقيما لا تقبل الانفصال عن العروبة، وعن اللغة العربية ، وبالتالي لا تسمح بنمو مثل هذه الحركات. ولقوة هذا الارتباط فإن رعاة هذه الحركات راحوا يخلقون لغة لكل واحدة منها، لتستقل فيها عن اللغة العربية، وتصبح ندا مناهضا لها، وبالتالي تحقق فصم الرحم الذي يصل الأمة بعضها ببعض.
3ـ نحن بأمس الحاجة لصوغ مفهوم للعدالة وتثبيته وجعله جزءا من حياتنا ومادة في دساتيرنا، وهدفا في نضالنا، وأن يكون مبتدأ هذه العدالة “حرمة الدم الوطني”، وأن تستعيد أجهزة الدولة كلها، ومسؤولوا الدولة جميعهم حقيقة أن مشروعية الجميع متأتية من كونهم وجدوا بقرار من المواطنين، وأن وظيفتهم ودورهم تأمين مصالح المواطنين، وأن حسابهم يكون على قدر المسؤولية التي أنيطت بهم، الجميع تحت الحساب، والقضاء الحر المستقل هو المتكفل بالتحقق من كل ذلك، وأن الجميع يقف على قدم المساواة إزاء الثروة الوطنية: الجميع، جميع المواطنين، وجميع مناطق الوطن، جميع مؤسسات ومكونات الوطن.
لقد تغولت أجهزة الدولة على الوطن والمواطن، متسلحة بقوة الأجهزة الأمنية التي تسيرها، وايضا بالسياسات الطائفية والاستئثارية التي انشأت جزرا داخل مجتمعاتنا لا تنتمي انتماء حقيقيا لهذه المجتمعات، وظيفتها فقط أن تستغل الثروات، وأن توفر قوة الدعم اللازمة للنظام الحاكم، ولهذا الغرض أعادت استنبات الطائفية والروح القبلية والعشائرية المتخلفة، وحولت التنوع العرقي والمذهبي والديني في بلداننا ـ وهو تنوع كان دائما مظهر غنى لهذه الأمة ـ إلى مصدر صراع وتناحر وتفتيت. وساعدت على توليد منظمات وجماعات ترفع شعار الإسلام، وهو أعظم مكون من مكونات ثقافة الأمة وحضارتها، وتعمل على تخريب البنية الاجتماعية والوحدة الوطنية من خلال مفاهيم التكفير والجاهلية واستباحة الدم الوطني، وإعمال ذلك كله في جسد الأمة، وفيما بين أبنائها.
حرمة الدم الوطني فريضة نحن بأمس الحاجة إلى الالتزام بها، وإعلائها وجعلها معيارا نقيس عليه أفعال القوى والتنظيمات والسلطات، لا يجوز تحت أي مسمى أن يبرر استباحة هذا الدم، تحت دعاوى الدفاع عن النظام. أي نظام مهما كان إيماننا أو ايمان بعضنا فيه، وحمايته، والذود عنه، لا يمكن ولا يجوز أن يكون مبررا لاستباحة دم المواطن.
دعاوى الدفاع عن فلسطين والمقاومة الفلسطينية ومقدساتنا، والتصدي للقوى الخارجية، لا يجوز ولا يقبل أن يكون مدخلها استباحة الدم الوطني، لأن هذا الدم هو المدافع الحقيقي عن كل مقدساتنا، وحين نرى مثل هذه الدعاوى يجب أن نكون على يقين بأنها دعاوى كاذبة خادعة تستهدف فيما ترفع وتنادي أهدافا أخرى لا علاقة لها بالمقدسات، ولا علاقة لها بفلسطين، إن الدم المقدس هو وحده الذي يدافع عن المقدسات، والمواطن الحر هو وحده القادر على استعادة فلسطين وتحقيق تحررها.
4ـ محاربة الفساد: تحديده وتعريته وفضحه وملاحقته، وجعل ذلك مهمة اليوم المستمرة، لكل إنسان يريد أن يساهم في بناء مستقبل أمته، ولكل حركة أو تنظيم يريد فعلا أن يحقق أهدافا وطنية يرفعها.
لأن الفساد الذي بات مستشريا في أقطارنا العربية الممزقة والمأزومة، هو سلاح النظم في بسط سيطرتها على هذه الأقطار، وهو سلاح القوى الخارجية في تدعيم هذه النظم وكذلك هو سلاح الطرفين في إفساد المعارضة الشعبية والسياسية لهذه النظم، وبالتالي في جعل هذه المعارضة صورة أخرى من صور النظام القائم نفسه.
والفساد الذي نتحدث عنه، هو الفساد القائم على اعتبار استباحة الثروة الوطنية لأصحاب السلطان، وليصبح السلطان بهذا الفساد فوق القانون وفوق القضاء وفوق المساءلة، ولا يكون هذا ولا يتحقق إلا حين تكون أجهزة القمع والسيطرة خارجة على القانون وغير خاضعة له.
والفساد الذي نتحدث عنه ليس فسادا في السلطة، أي فسادا متسللا إلى السلطة وبعض أركانها، وإنما الفساد الذي تصنعه السلطة، أي الفساد الذي يعتبر سياسة معتمدة من قبل السلطات القائمة، تعيد من خلاله توزيع ثروة المجتمع، وتوزع من خلاله مراكز القوة والضبط والتحكم، سواء تمثلت هذه المراكز بالأجهزة الأمنية، أو العسكرية، أو بالأجهزة التشريعية والقضائية، أو بالأجهزة الحكومية التنفيذية.
لذلك نحن لا نرى في الدولة الفاسدة، قضاء مستقلا، ولا انتخابات تشريعية حرة، ولا إعلام وصحافة مستقلة، وقادرة على تقدم الحدث والمعلومة الصحيحة، ولا نرى وجودا للأحزاب السياسية الحقيقية، وبالتأكيد لا نرى اي ملمح من ملامح الديموقراطية.
وجوهر دولة الفساد أنها دولة تفتقر إلى القيم والأخلاق والمعايير الإنسانية، لذلك يكون وجود الدولة الفاسدة أحد المداخل الرئيسية لانتهاكات حقوق الانسان، وللجرائم التي ترتكبها النظم بحق مواطنيها، ولهذه النتيجة فإنه في دولة الفساد تزداد قيمة الفرد كلما ازداد فسادا، فيرتفع في سلم المسؤولية الاجتماعية، ويرقى سلم المسؤوليات الأمنية، وتسلم له مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية، وبالتالي يصبح الفساد الضابط الرئيسي للدولة وأركانها، لذلك يظهر أمامنا أن الانفصال عن منظومة الفساد الحاكم للدولة إبان أزماتها لايكون فعالا ولا واسع النطاق، ولا يكون ذو أثر في توجيه وتحديد مسار هذه الأزمات.
5ـ العمل على استعادة مكانة فلسطين في حياتنا، واستعادة مكانتها في مفهوم الأمن القومي العربي، وتسليط الضوء على العدو الصهيوني باعتباره كيانا عنصريا استيطانيا، يمثل في جوهره مشروع اعتداء على الأمة كلها، أوجدته وترعاه القوى الغربية.
يجب أن تكون فلسطين مهمة حاضرة أمامنا جميعا، فبدونها لن يكون لهذه الأمة قضية تجمعها، ليس لأنه ليس لهذه الأمة قضية غيرها، وإنما لأن المدخل لأي قضية قومية أخرى هي فلسطين، فالعدو إنما اراد فلسطين لارتباطها بهذه الحقيقة.
لا يكون العربي عربيا إلا إذا وضع فلسطين في قلبه وعقله في هذا المكان بالتحديد، وبالمقابل وضع الكيان الصهيوني في موضعه الحقيقي.
مقاومة الكيان الصهيوني ليست مهمة الفلسطينيين وحدهم، وإنما مهمة كل عربي، وهي مهمة يومية، لا يجوز أن يشغلنا عنها شاغل، ولا يصح أن تأخذ في اهتمامنا والتزامنا وتطلعنا مكانة أقل من مكانتها الحقيقية، ولا يجوز أن نربط أو نحدد هذه المكانة بمواقف هذا النظام أو ذاك، أو هذا التنظيم أو ذاك، أو بما يقبله هذا الطرف أو ذاك.
كذلك فإن مقاومة الكيان الصهيوني ليست شأنا فلسطينيا وعربيا فحسب، وإنما هي شأن اسلامي، ففي فلسطين أمانة وضعها الله في رقبة كل مسلم لابد أن يعمل على استعادتها، ولا بد أن يحاسب أمام ربه عنها، القدس، وبيت المقدس، والأرض المقدسة، وفلسطين كلها ارض مقدسة.
وترقى مقاومة الكيان الصهيوني لتكون شأنا انسانيا، لأن هذا الكيان كيان عنصري، لا شبيه له، ولم يبق في العالم نظير له، وسيكون استمرار وجوده مؤشرا على أن الكيانات العنصرية ما زالت موجودة، وهي بطبيعتها داعم ومحرض لكل الحركات العنصرية التي نشهد نموها الكبير الآن في المجتمعات الغربية، وجرائمها ضد الغير وخصوصا ضد المسلمين والعرب.
ليست هذه الدعوة دعوة لحرب أو قتال ـ ولا باس أن تكون كذلك في حينه ـ وإنما هي دعوة للحصانة والوعي، وحفظا للنفس والمستقبل، لنا ولأمتنا وللانسانية كلها.
فلسطين أولا وفلسطين دائما، هذا هو الشعار الذي يجب أن يحكم سياساتنا وعلاقاتنا ومواقفنا.
6ـ إيران: التصدي الاجتماعي والفكري والديني للنظام الطائفي الإيرانية باعتباره يمثل خطرا حاضرا ليس على النظم العربية وإنما على الوحدة الوطنية في كل بلد عربي.
إن ملالي إيران الذين يرفعون راية المذهب الشيعي الاثني عشري بنسخته الفارسية تحت شعار “ولاية الفقيه” يعتقدون أن رسالتهم الإلهية تتطلب منهم إعادة المسلمين من غير الشيعة إلى حظيرة هذا المذهب، ويستترون بهذا الفهم ـ الطارئ على المذهب الشيعي ـ على رسوخ اعتقادهم بضرورة إعادة مجد الإمبراطورية الفارسية، وهو هدف عبرعنه عدد من قادتهم، ولأجل ذلك باتوا يتدخلون في كل بلد عربي مستغلين مختلف أنواع التناقضات بين الشعوب العربية وأنظمة الحكم القائمة لتثبيت قدم لهم فيها.
ومثل هذا الاستهداف الطائفي العنصري يؤدي بشكل مباشر إلى تفكيك البنية الوطنية في كل قطر، وخلق تناقضات داخل كل مجتمع لم يكن لها وجود، وبالتالي إضعاف اي حركة شعبية حقيقية معارضة.
وكما يستغل النظام الإيراني استبداد النظم القائمة في بلداننا، وفسادها، يستغل أيضا مكانة القضية الفلسطينية في الدخول إلى قلب هذه المجتمعات والتأثير فيها، وهو يعلم أن للقضية الفلسطينية في ضمير هذه الأمة مكانة علية، وأن تفريط النظم بهذه القضية بات مكشوفا ومخزيا.
إن دور النظام الايراني في تدمير العراق وتخريبه، وفي بث الطائفية فيه، وإقامة نظامه السياسي على أسس طائفية خالصة، وما فعله ويفعله النظام الإيراني في سوريا، في دعمه لنظام طائفي قاتل، ومساهمته غير المحدودة في إراقة الدم السوري، وما يفعله في اليمن من تغذية مدمرة للطائفية، ومحاولة الاستيلاء على المذهب الزيدي دعما لمشروعه، وما يفعله في غير هذه الدول، مشهود ويكشف عن مدى خطر هذا النظام.
والشواهد تدل على أن النجاح في مواجهة هذا النظام لن يكون إلا من خلال وعي ومعرفة الجمهور المستهدف لطبيعة هذا النظام، ولا شك أن ما تخلفه ممارساته في مجتمعاتنا يساعد على تنبه الناس ويقظتهم، لكن هذا يجب أن يصبح مهمة من المهمات التي يجب أن لا تغيب عن حركة وبرامج وخطط كل من يحمل هم هذه الأمة ومستقبلها.
7ـ رغم بؤس ما نحن فيه، فإنه يجب أن يكون لكل منا دور في بناء مجتمع دولي عادل ومستقر، وأن يكون هذا من استهدافاتنا.
لقد ختمت الخمسين عاما على غياب عبد الناصر بهذا الوباء الذي ضرب العالم، وصار القول على كل لسان أن ما بعده لن يكون كما قبله، وأننا سنكون أمام عالم جديد.
لكن قبل هذا الوباء، كانت هناك أوبئة عابرة للحدود والقارات، وكانت هناك ملفات الهجرة غير الشرعية، وملفات التغير المناخي، وملفات التغول في السيطرة على العالم من خلال التقدم العلمي المذهل في اختصار الزمان وتقريب المكان، ورفع حواجز التواصل بين الناس والمجتمعات، والتغول أيضا في محاولات فرض قيم المجتمع الغربي على المجتمعات الأخرى بدعوى العولمة، حتى وصف العالم بأنه قرية صغيرة.
كذلك ختمت هذه السنوات الخمسين بظهور فشل لا يخفى لمحاولة سيطرة دولة واحدة على العالم، وهي هنا الولايات المتحدة، واختراق الفكر العنصري الإدارة الأمريكية ذاتها، وظهور دعوات في عدد من الولايات للانفصال، كما بدأت تظهر بوادر تشكل عالم أقطاب جديد، وأطلت دول بعينها لتنافس على قيادة العالم، وليكون لها موقعا حقيقيا في منصة القيادة العالمية، ولو دققنا النظر في حركة المجتمعات على هذه البسيطة لا كتشفنا الكثير من مظاهر ودلائل التغير.
ونحن إذا أردنا أن يكون لنا مكانة في هذا العالم، فيجب أن تكون لنا رؤية صحيحة له، ودور في صناعته، وفي التأثير في تكوينه الجديد. وفي تشكيل قيمه ومفاهيمه، وكل الدلائل تشير إلى أن هذا ممكن، بل وضروري، وتنتظره وتفتقده الكثير من الشعوب والدول التي عرفتنا في وقت النهضة، وتتطلع إلى دورنا في قابل الأيام.
الخاتمة
إعادة صياغة وبناء الوحدة الوطنية في كل قطر، التمسك بالوحدة الجغرافية والسياسية لهذه الأقطار، صوغ مفهوم شامل وواضح للعدالة بكل أوجهها، محاربة الفساد والنظم الفاسدة، استعادة مكانة فلسطين، التصدي لعدوان النظام الايراني على وحدة المجتمع العربي، وأخيرا فهم المتغيرات الدولية والمساهمة في صوغ النظام الدولي الجديد علاقات وقيما.
هذه هي مهامنا الراهنة، وبهذه المهام نستطيع أن نزيل آثار عدوان خمسين سنة مضت على أمتنا، وأن نستعيد البيئة الشعبية اللازمة للعبور، ونستطيع ان نستعيد على ضوئها القدرة على اسئناف مسيرة جمال عبد الناصر ومشروعه الحضاري.