ظنّ الروس أنّ تدخلهم العسكري في سورية خريف العام 2015 سيمكّنهم من التصرّف في المنطقة، بوصف بلدهم دولة عظمى تفرض أجندتها منفردة. والحقيقة أن واشنطن تركت بالفعل لموسكو، ومنذ بيان جنيف 1 في 2012، مهمّة صياغة الحل السياسي في سورية، ووافقت على مخططات الروس في جولات أستانة مع تركيا وإيران، واتفاقات خفض التصعيد والمصالحة مع تركيا، وعودة مناطق واسعة إلى سيطرة النظام وداعميه، كما كان اتفاق المصالحة في الجنوب برعاية أميركية، لتدخل الفصائل المعارضة تحت جناح روسيا، عدا عن أن أميركا توافق على مسار اللجنة الدستورية الذي فرضته روسيا على اللاعبين الأساسيين في سورية، وعلى المجتمع الدولي. لكنّ ثقل الحضور الأميركي في مناطق تضمّ أغلب مصادر الطاقة السورية، ودعمهم الإدارة الذاتية التي يرأسها الأكراد، سمح لواشنطن بممارسة دورٍ، يمكن وصفه بالمعطّل للحل الروسي القائم على البدء بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وأن تكون التغييرات السياسية شكلية.
وروسيا عاجزة عن التصرف في سورية كدولة عظمى لأسباب عدة: أولها أن بنيتها الاقتصادية ريعية هشّة، حيث يشكل قطاع تصدير مواد الطاقة الخام 80% من منتوجها الوطني، وهو مرتهنٌ إلى تقلبات الأسعار عالمياً، وبالتالي هي تعاني من أزمة اقتصادية بنيوية، تمنعها من المباشرة في فرض أجندتها بتمويل إعادة إعمار سورية، وتحتاج إلى دعم أوروبي وعربي وصيني، تُعطّله أميركا حالياً؛ هذا بعكس الولايات المتحدة التي استطاعت منفردةً أن تفرض قانون قيصر على النظام السوري وحلفائه، وأن تشلّ حركته الاقتصادية، وإمكانية مساعدته من الحلفاء، إيران وروسيا، اللتين تتعرّضان لعقوبات أميركية.
وثانياً، وضعت روسيا كل رهانها على بقاء النظام، ولم تكن رهاناتها على المعارضة السورية جدّية، حيث فشلت مراراً في جذبها، وجاءت خطواتها بالتقرب من شخصيات سورية (معاذ الخطيب وعلويي المهجر) متأخرة وبلا جدوى. أما محاولة التقرّب من “الإدارة الذاتية” (في شمال سورية وشرقها) عبر اتفاق رئيس منصة موسكو للمعارضة، قدري جميل – ورئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية، إلهام أحمد، فقد تم من دون اعتراض أميركي، وربما بموافقة أيضاً، كونه يتوافق مع الرغبة الأميركية في عدم تقسيم سورية، وفي لامركزية أوسع تعطي “الإدارة الذاتية” مزيدا من الاستقلال، لكن واشنطن ما زالت تسيطر على منابع النفط والغاز شرق الفرات، وأبرمت شركات أميركية عقود استثمار النفط مع الإدارة الذاتية، ويثق الأكراد بحليفهم الأميركي أكثر من الروسي، ما يعني أن الولايات المتحدة هي من يضع حدود العلاقة بين الإدارة الذاتية وروسيا، وليس الأخيرة.
وثالثاً، لا يخضع النظام لمشيئة الروس كما يرغب الأخيرون؛ هذا تدلّ عليه الامتعاضات الروسية من الانتقادات الغربية لعدم قدرة موسكو على التحكّم بقرار النظام، وهو ما تدل عليه أيضاً زيارة الوفد الروسي رفيع المستوى، أخيرا، إلى دمشق، وتقديم خطّة دعم اقتصادي ب40 مشروعاً لإعادة تأهيل البنى الصناعية، وإنقاذ الاقتصاد السوري من الانهيار، مقابل قبول النظام بالترتيبات السياسية التي تعدّها موسكو للالتفاف على قرارات الأمم المتحدة بشأن الحل السياسي، ومن ضمنها تقليص النفوذ الإيراني؛ بينما أخذ النظام مهلةً لقبول العرض، ما يعني أنه ما زال يتمتع بالقدرة على المراوغة وعدم تسليم رأسه كلياً للروس، تدعمه في ذلك علاقته التي باتت عضوية ومصيرية مع طهران التي تنافس الروس على عقود الاستثمار، وتتمتع بالحضور الميداني والسيطرة على مناطق وعقارات في دمشق والجنوب ودير الزور وحلب. ويُذكر هنا أن خطوة تعيين السفير الروسي في دمشق ممثلا شخصيا للرئيس بوتين في سورية لم تنجح موسكو في ترجمتها في الواقع إلى سيطرة كاملة على دوائر القرار في دمشق.
لكل ما سبق، رأت روسيا أن من مصلحتها الاستعجال في حسم الملف السوري سياسياً؛ حيث تتزايد أهمية المنطقة مع التنافس المحموم على مصادر الطاقة في المتوسط، ورغبة روسيا في الحصول على حصتها، ربما من بوابة التحالف مع تركيا ضدّ اليونان وحلفها، الأمر الذي يرفضه النظام، أي التقارب مع تركيا. هذا جعل روسيا تعدّل من استراتيجيتها في سورية باتجاه رضوخ أكبر للشروط الأميركية، لتجاوز عقوبات قانون قيصر، والتي لم تكن مؤثّرة، حيث ترك الأميركيون باباً موارباً أمام النظام نفسه لإزالة العقوبات، إذا ما نفّذ الشروط الأميركية.
تعمل روسيا في استراتيجيتها المعدّلة على عدة محاور بالتوازي: ترتيب الوضع شرق الفرات وفي إدلب وحل معضلة التوغل الإيراني، إضافة إلى عودة جلسات اللجنة الدستورية، من دون تقدّم في هذا المسار مع تعنت النظام، لكن أيضاً من دون السماح بفشله. وتقوم خطة موسكو على دفع النظام إلى قبول تثبيت خرائط النفوذ الحالية، ما يعني أن يقبل بالإدارة الذاتية لشرق الفرات، وينسق معها على أمل أن ينفّذ الأميركيون قرار الانسحاب من سورية بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل؛ ويعني أن تقبل روسيا بنفوذ تركي على الحدود الشمالية، وهو المتفق عليه في اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار في مارس/ آذار الماضي، على الرغم من عدم تنفيذ بنوده، خصوصا ما يتعلق بفتح الطرق الدولية، وعلى الرغم من الخلافات بين الروس والأتراك على حدود كل طرف، حيث ترغب تركيا بالعودة إلى حدود اتفاق سوتشي أواخر 2018، وبتسليمها منطقتي تل رفعت ومنبج؛ وهذا ما أظهره الاجتماع أخيرا بين الطرفين في أنقرة، وانتهى بمطلب روسي بتقليل عدد نقاط المراقبة التركية وتقليص حجم التواجد العسكري التركي. وقد يتطلب حلّ هذا الخلاف مزيدا من التصعيد في معارك كسر عظم، وقد لا تكون واشنطن بعيدةً عن حسمها، بحسب الدعم الذي ستقدّمه للأتراك، كما فعلت قبيل اتفاق موسكو.
وإلى ما سبق، يقدّم الروس مقترحاً بالإبقاء على النظام، وإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، بغض النظر عن سير عمل اللجنة الدستورية، في مقابل أن يحسم النظام علاقته مع طهران، ويقبل المقترحات الروسية. ومجمل التصريحات الأميركية تقول إنها لا تعارض بقاء النظام شرط تغيير سلوكه، كما أن المقرّرات الدولية لا تقول صراحة برحيل النظام، بل بانتقال سياسي، يمكن للروس الالتفاف عليه؛ وربما يتطلع الطرفان، الروس والنظام، إلى تمرير حلٍّ كهذا، من بوابة السير في ركب التطبيع مع إسرائيل، حيث لا تصريحات رسمية من دمشق حوله.
المصدر: العربي الجديد