أنقذوا عروبة السودان

عبد الحليم قنديل

  غرق السودان فى فيضان النيل محنة إنسانية ،  دفعت حكومة الخرطوم لإعلان السودان منطقة كوارث ، وتوجيه نداء إغاثة عاجل إلى العالم كله ، وقد تداعت  استجابات متناثرة ، ظهرت بينها جهود انقاذ وجسور دعم جوى من دول عربية ، بادرت كلها إلى بذل العون ، برغم اختلافها فى سياسات ومحاور إقليمية ، وتلك علامة خير مبشرة ، نرجو أن يجرى الاستطراد فيها ، فحجم الكارثة فى السودان مريع ، ويشمل 14 ولاية سودانية ، والمضاعفات سوف تتصل لشهور طويلة مقبلة مع المضاعفات الوبائية المهلكة ، حتى بعد انحسار مياه الفيضان الهائج ، وهو ما يستدعى مبادرة انقاذ عربية جامعة ، يؤكد فيها العرب حرصهم على سلامة وسلام السودان ، وعلى عروبته أيضا .

  سبب المحنة منحة للمفارقة ، عنوانها فيضان نهر النيل ، وهو الأعظم من نوعه منذ مئة سنة مضت ، فأكبر فيضانات جرى رصدها خلال قرن مضى ، كانت فى عامى 1946 و 1988 ، وكانت أقل بكثير من فيضان الموسم الحالى ، الذى بدا كإشارة مطمئنة من السماء ، خصوصا بتواقته مع مسارعة أثيوبيا إلى الملء الأول لخزان “سد النهضة” من طرف واحد ، وتواتر هواجس عن تحكم أثيوبيا فى موارد النيل الأزرق ، الذى يوفر أكثر من ثمانين بالمئة من مياه النيل الموحد ، حين يلتقى موردا “النيل الأزرق” و”النيل الأبيض” عند الخرطوم ، وكانت المفاجأة السارة مائيا ، أن فاض النيل بمائه وطميه ، وكما لم يحدث من قبل عبر عشرة أجيال ، وبما جعل التعنت الأثيوبى قبضة هواء ، فقد تعالت إيرادات النيل القادمة للسودان ومصر كدولتى مصب ، ومع فوارق محسوسة بين البلدين العربيين التوأمين ، فمصر دولة مصب نهائى ، والسودان دولة مصب ودولة منابع أيضا ، والأمطار هطلت هذا العام بغزارة على السودان وعلى دولة جنوب السودان ، وجلبت موارد إضافية عظمى لمياه النيل ، ومصر مرشحة للاستفادة القصوى من المدد المائى المفاجئ ، فلديها بنية رى وتخزين مائى أفضل بما لا يقاس ، لديها “السد العالى” الأعظم ، الذى أنهى المآسى القديمة المصاحبة لدورات فيضان النيل وغيضانه ، وصارت ذكريات غرق السكان والبيوت والمزارع بعيدة جدا فى التاريخ المصرى المنقضى، وانقطعت تماما مع تحويل مجرى نهر النيل فى أوائل ستينيات القرن العشرين ، وبعد اتمام بناء السد العالى أوائل السبعينيات ، صار للمصريين المقدرة التامة على التحكم فى النيل ، ولم تعد مصر تتأثر سلبا بأى فيضان ولا غيضان ، وطوال ثمانى سنوات ممتدة بين عامى 1979 و 1987 ، عرفت منابع النيل الأثيوبية تصحرا وجفافا شبه تام ، لم يشعر المصريون بمآسيه لحظة ، فطاقة تخزين “بحيرة ناصر” خلف السد العالى هائلة ، وهى أكبر بحيرة صناعية فى الدنيا كلها ، أضيفت إليها خزانات ومفيض “توشكى” ، وإلى أن صارت لمصر اليوم طاقة احتجاز مائى مذهلة ، تتجاوز مجموع إيراد النيل فى أربع أو خمس سنوات ، ومع قدوم الفيضان الأعلى لمصر هذه الأيام ، تملك مصر أن تستبقى خيراته ، ومن دون التأثر بشروره ، وعلى العكس تماما مما جرى فى السودان للأسف ، إذ تحولت الخيرات ذاتها إلى شرور ، أصابت بدمارها إلى اليوم نحو مليون سودانى ، وقتلت مئات ، وهدمت تجمعات سكنية بكاملها على ضفاف النيل ، يتوقع أن تصل إلى مئات آلاف البيوت ، مع بنية تحتية متهالكة ، زادتها بؤسا عقود حكم النظام المخلوع بالثورة الشعبية الأخيرة ، والتحول إلى حكم انتقالى مختلط (عسكرى ومدنى) لايزال هشا .

  وتزيد محنة السودان حرجا ، مع الأوضاع الاقتصادية المدمرة ، برغم ثروة السودان وموارده الطبيعية الكبرى ، التى ترشحه ليكون سلة غذاء للعرب أجمعين ، وليس فقط للأربعين مليونا ، وهم جملة عدد سكان السودان حاليا ، بعد انفصال الجنوب قبل عقد مضى من الزمان المرير ، ومن دون أن تتحسن أحوال السودانيين ، لا فى الشمال ولا فى الجنوب ، بل ظل السودان فى وضع التهديد الدائم ، بمزيد من الانقسامات والحركات الانفصالية المسلحة ، وقد جرى بعض التطور الإيجابى أخيرا ، بعقد الحكومة اتفاقا مع أغلب حركات التمرد المسلحة ، مع غياب الحركة الشعبية قطاع الشمال (جناح عبد العزيز الحلو) وحركة تحرير السودان (جناح عبد الواحد نور) عن خطة السلام المقرر البدء بتنفيذها أوائل أكتوبر المقبل ، وهو ما يوحى بسيولة الوضع ، برغم الاتفاق على مناطق حكم ذاتى جديدة فى دارفور وجنوب كردفان ، وعلى توزيع مختلف لموارد العيش المتاح ، قد يؤجل مخاطر انهيار كامل ، يخشى على السودان منه ، خصوصا مع التردى المتصل فى أوضاع الاقتصاد ، فقد أدى حكم البشير المخلوع إلى إهدار نحو تريليون دولار على السودان ، ذهبت كلها إلى مجارى الفساد والنهب من وراء القناع الدينى الزائف ، إضافة لقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين فى الحروب الداخلية ، فيما تحول السودان إلى بلد طارد لأهله ، ولخيرة شبابه الذكى المكافح ، فالبلد مثقل بديون مرهقة ، تجاوزت حاجز الستين مليار دولار ، ومعدل التضخم وتضاعف الأسعار وصل إلى 136% سنويا ، والجنيه السودانى يواصل انحداره ، وصار الدولار الواحد يساوى 220 جنيها سودانيا ، مع شح موارد العملة الصعبة عموما ، إضافة لاستمرار وتفاقم انقسامات النخب فى الخرطوم ، بين العسكريين والمدنيين الشركاء فى الحكم الانتقالى ، وحتى بين أطراف تحالف “قوى الحرية والتغيير” ، التى قادت ثورة خلع حكم البشير ، مع تزايد الضغوط الأجنبية على الحكم الانتقالى ، والضغوط الأمريكية بالذات ، التى أرادت دفع السودان إلى تطبيع كامل مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، مقابل رفع اسم السودان من قائمة رعاة الإرهاب ، وتسهيل تدفق الاستثمارات إلى اقتصاده المنهك ، ولم ينقذ السودان من الوقوع فى فخ التطبيع ، إلا النهج الديمقراطى الذى يواصله بصعوبة ، فقد رفض رئيس الحكومة عبد الله حمدوك التجاوب مع الطلب الأمريكى ، واستند إلى غياب التفويض الشعبى لاتخاذ قرار مصيرى كالتطبيع ، يفتقر إلى قبول القطاعات الغالبة فى تحالف قوى الحرية والتغيير ، التى تضم قوى يسارية كالحزب الشيوعى ، وقوى قومية عربية مؤثرة كالحزب الناصرى وحزب البعث ، فضلا عن قيادات وأحزاب ونقابات وطنية سودانية عريقة ، وبرغم هذه الحصانات السياسية الملموسة ، فإن أثرها الحامى قد يكون موقوتا ، خصوصا مع العبث المتصل ، واستمرار عملية “خض ورج”  التكوين السودانى عظيم التنوع ، وافتعال صدامات دم بين عناصر العروبة والزنوجة فيه ، بحسب استراتيجية شد الأطراف ، المعمول بها أمريكيا وإسرائيليا فى المنطقة العربية من ثمانينيات القرن العشرين ، وتداعت مواسم حصادها الأسود مشرقا ومغربا ، وفى الجنوب العربى الأفريقى بدمار الصومال وانفصال الجنوب السودانى ، ومن دون أن تتوقف أو تهدأ هجمة اعتصار ما تبقى من السودان ، ومحو كل أثر لحس العروبة الغالب فى نسيجه وبنيانه .

  والخلاصة التى نقصد إليها مع ذلك كله ، هى أن محنة الفيضانات الكاسحة فى السودان ، قد يكون ممكنا تحويلها إلى نعمة ، تتيح للعرب عموما على تدهور أوضاعهم السياسية ، أن يعيدوا الانتباه بقوة لأهمية السودان ، ولأوضاعه البالغة الحرج ، ولخطر الالتفات عن مشاكله وأزماته ، التى شطرته من قبل إلى شمال وجنوب ،  وبددت موارده الفائقة الغنى ، وقد تهدد بالمزيد من تقسيمه ومفاقمة عذاب أهله ، والمطلوب ـ ببساطة ـ دعم السودان بكل وسيلة ممكنة ، وبعيدا عن حروب المحاور الإقليمية المريضة ، وعن أى سعى للتأثير على اختيار السودانيين لنظم حكمهم ، فلا أحد من حقه فرض أى وصاية على الشعب السودانى ، وهو أفضل الشعوب العربية خلقا وتسامحا ، وربما أكثرها حظا بموارده الطبيعية الزراعية والمائية بالذات ، فوق طاقته البشرية الفياضة ، والمخاطر التى تتناوشه ، وتهدد فرص بقائه كحجر زاوية فى الجسد العربى ، كانت عاصمته “الخرطوم” ملتقى العرب بعد هزيمة 1967 ، ودارا لشعار اللاءات الثلاث ، لاصلح ولا تفاوض ولا اعتراف بكيان الاحتلال الإسرائيلى ، وإلى أن كان عند حسن ظن أمته العربية ، حين رفضت حكومته أخيرا إغراء ضمها لحكام التطبيع ، وهو ما قد يصح أن يبنى القادرون عليه ، وبالذات فى الأوساط الشعبية العربية الرافضة لعار وخيانات التطبيع ، وعليها فيما نتصور ، أن تقود حملة قومية واسعة للتضامن مع السودان فى محنة الفيضان ، وألا تكتفى بوسوم و”هاشتاجات” من نوع “من قلبى سلام للسودان” ، فالسودان يحتاج اليوم إلى غذاء ودواء وإيواء لمئات الآلاف من المشردين ، وإلى جسور دعم جوى وبحرى مكثفة عاجلة ، توقظ فى أهل السودان الطيبين حسهم العروبى الكامن الظاهر ، وتفيد من دورهم كجسر عربى واصل إلى قلب أفريقيا السوداء ، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون ، وبغير من ولا أذى ولا دعايات سخيفة .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى