تستمر أغلب الحكومات والأنظمة العربية في العبث بكل شيء، بالتاريخ، بالجغرافيا، بالعقول. وعمق الخطر التلاعب بالعلاقات البشرية، حيث الاعتقاد السائد بأحقية النزعة الفوقية في تعامل قسم من النُخب السياسية والفكرية العربية، على مستوى الأنظمة خصوصا مع باقي المكونات والشعوب الأخرى. تعامل لا مناص من ضرورة فكفكته وإظهار حقيقته، سيما بعد “كشف المستور” شعبياً للسياسات الرسمية. وخصوصا في سورية وما لاقاه شعبها من أهوال. وفي العراق، حيث جرى تفتيت للبنية المجتمعية وتمييعها، نتيجة السياسات الاقتصادية والأمنية. وثمّة القنبلة التي فجّرتها الإمارات أخيرا. عدا عن انخراط كل طرف مع الاصطفاف الإقليمي، والتقاسم الجديد للمنطقة بين إيران وتركيا وإسرائيل. ما يعني أن الكيانات الهشة، أو التي تحولت إلى هياكل مؤهلة للإنهاء بأي وقت، سلّمت وفوّضت أمرها لدول الجوار (تركيا، إيران). والواضح أن غياب المشاريع السياسية المحلية لبناء وطن مشترك، وعقد اجتماعي جديد، إضافة إلى الفساد الناخر في الجسدين، العراقي والسوري، المعارضة خصوصا، أدّى إلى عدم وجود رؤية واضحة، يمكن معها تثبيت أركان أي حكم محلي. وبخصوص الضلع الثالث للمثلث الجديد، وجدت أبو ظبي نفسها غير مكترثة، ولا مهتمة سوى بما يحقق ويؤمن لمواطنيها ما يسعون إليه من رفاهية، وما يرسخ أركان الحكم هناك.
وحدها الشعوب تدفع ثمن السياسات التي أتبعتها الأنظمة التافهة والرخيصة جداً، فالقسم العربي من العراق انسلخ عن عروبته، وأضحى محافظة إيرانية، ومنصة انطلاق صوب إيجاد المشكلات والأزمات والتدخل في العمق العربي. كما أن شمال غرب سورية يتميز بتفوّق القرار التركي فيها، سواء باعتبارها منطقة خفض تصعيد، أو تحول المنطقة إلى امتداد لرغبة تركيا في المنطقة، إضافة إلى مواجهاتها العسكرية سواء مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو “الجيش العربي السوري”. يضاف إليها دخول الإمارات بمفردها في علاقاتٍ عميقةٍ ومتشعبة مع إسرائيل برعاية أميركا. بدا واضحاً، ثمّة لوحة سياسية جديدة في العالم العربي، ويُخشى ألا تتمتع الشعوب القاطنة في هذه المنطقة من / كُرد، عرب، سريان أشوريين، تركمان…إلخ/ من تحقيق تطلعاتها، دون رضا الاصطفاف الإقليمي أو الدولي لهم وعليهم؛ فالمخاض السياسي والجغرافي المرتب له وجد من يتبنّاه وينفذه، ثم يهدد ويتهم غيره بها، تماماً كحالة اتهام الكُرد بالتآمر على الأمة العربية، علماً أن المؤامرة هي المؤامرة، بغض النظر عن الجهة المتعاونة معها.
الثابت في تعامل الأنظمة العربية مع الشعوب المغايرة أنها لا تُسقِط التُهم بالتقادم، وبل تزداد ضراوةً وعمقاً، وتزيد من وتيرة استحضارها كلما تدعو الحاجة لها، وتحديداً في كل مرة تطالب تلك الشعوب بحقوقها. وبشكل أعمق، ظلت تهمة “التآمر مع دولة أجنبية لاقتطاع أجزاء من الدولة وإلحاقها بدولة أجنبية”، أو تهمة “العمالة مع أعداء العرب والتحول إلى خنجر في خاصرة الأمة العربية”، ملازمة للكُرد في سورية والعراق، والمؤسف المخجل أنها مستمرة.
تبعاً لذلك، يستحضر الكُرد ثلاثة أسئلة، وفق نسقها التاريخي والجغرافي والمعنى السياسي المتراكم معها لطبيعة العلاقة بينهم وبين العرب ومستقبلها، أول الأسئلة: منذ عهد عبد الكريم قاسم في العراق (1958 – 1963)، كبرت تهمة العمالة الكُردية لجهات متآمرة على الأمة العربية، تارةً كانت إسرائيل تتصدّر هذه الجهة، وتارّةً أخرى يُكتفى بزج التهمة في كل مرة يحاول الكُرد فيها الدعوة إلى عقد اجتماعي يحمي العراق، ويحفظ حقوق مكوناته. الحديث عن الخيانات والتآمر مستمر، في الوقت الذي تحوّل فيه العراق إلى محمية إيرانية، ومع ما يعانيه العراقيون من فقدان حقوقهم وتشويه الانتماء، عدا عن تحطيم مناطق السنة، وإنهاء الحياة فيها. فيتساءل الكُرد بعد عقود من الضيم، من هو المتآمر والخائن للأمة العربية، ومن باع الأراضي العراقية ومنح خيرات العراق ونفطه لدولةٍ تُفتت وتفخخ الوطن العراقي؟ الفكرة أن التعامل مع أيَّ دولة على حساب السيادة الوطنية مؤامرة وخيانة، فكيف والحال أن العراق أصبح ميداناً لتجارب إيران ومخططاتها ضد العرب.
والسؤال الثاني المتعلق بالوضع الكُردي في سورية، وتحديداً عبر مُحدّدين: كيف يُمكن تفسير مشاركة فصائل المعارضة السورية بقطع المياه عن مليون سوري، بمختلف انتماءاتهم في مدينة الحسكة وريفها الغربي، وإن كان القرار لتركيا في هذا الموضوع، ومع تبادل التهم حول قطع الإدارة الذاتية للكهرباء عن (رأس العين)، فإن سؤال الهم السوري هو نفسه، يتكرر دوماً حول “فرح” السوريين برؤية أقرانهم السوريين ضحايا، ومحتاجين، ومقهورين. والمحدد الثاني: يتعلق بنمطية التعاطي السوري الرسمي سابقاً وحالياً. وعلى مستوى المعارضة السورية، واتساع الفجوة بغير لزوم ما بين رؤيتهم السياسية للقضية الكُردية، وتبريرهم فعلهم الذي يقولون إنه “لحمايتهم والظروف خلقت ذلك”. والمقصد هنا عن الوضع الجغرافي والسياسي في شمال غرب سورية. يتساءل الكُردي في قرارة نفسه، الآلاف سُجنوا وقضوا في المعتقلات بتهمة التآمر مع دولة أجنبية، لم يروها، ومنح الأراضي للغير، ولم يفعلوها. اليوم، وما كان تهمة ملازمة للكُرد بالأمس يتكرّر ذلك الفعل لدى الآخر من المكون العربي في سورية، من دون تهمة ومن دون تبيان عمق مساوئه. وماذا لو سبق الكُرد إلى منح مناطقهم إلى تركيا منذ بداية الحدث السوري، تكبر دائرة السؤال في عقل الكُردي ليصل مداه إلى موقف أغلب الدول العربية والشعب العربي في سورية حينها من ذلك التصرف.
ويتعلق السؤال الثالث بقضية التعاون أو العلاقات ما بين دولة الإمارات وإسرائيل. هكذا إذاً اتفقت الدولتان على العمل المشترك والعلاقات الثنائية، وهو ما يعني قريباً تبادلا على مستوى السفارات والقنصليات. في المحصلة، الإمارات من الدول التي لا تشهد توترات ولا مطالب لشعوب مغايرة، بمن فيهم الإيرانيون والبلوش القاطنون هناك. وبعد قرابة أكثر من نصف قرن على تهمة التآمر الكُردي مع إسرائيل على الأمة العربية، ألا يحق للكُردي أن يسأل: من تآمر ضد من؟ إذ ليس من المنطق القول إنهم عرب من نوع آخر، أو هؤلاء لا يمثلون العرب، فالحقيقة أن لا دولة تعبر عن دولة أخرى. والحديث عن تآمر القومية الكُردية على القومية العربية، يستجر سؤالا: هل تتآمر القومية العربية على نفسها، أم أن لكل دولة الحق في اتخاذ ما تراه مناسباً لها ولمصالحها؟
ووفقاً لذلك، ولطبيعة التعامل الغريب وازدواجية المعايير، ثمّة مفارقات عميقة وغريبة تخص قضية التعاطي الكُردي – العربي في سورية عامة، والمنطقة الكُردية في شرق الفرات خصوصا، لجهة أن أعداد أبناء العشائر العربية من الرّقة ودير الزور والحسكة المنضوين في “قسد” وقوات الأمن الداخلي الكردية (الأسايش) كبير جداً. وثمّة في الطرف الآخر التزام أبناء العشائر العربية وانضمامهم ضمن التشكيلات المسلحة للمعارضة السورية، والمعارك التي دارت بينهما، خصوصا في تل أبيض ورأس العين، تدفع أولى المفارقات إلى البحث عن جوابٍ لها، أيَّ الطرفين يمثل العرب والآخر لا يمثله، خصوصا وأن كِلا الطرفين فقدا عناصر لهما على يد الطرف الآخر في أثناء تلك المعارك. والمفارقة الثانية انشطار العشائر العربية ما بين “قسد” والنظام السوري وتركيا والمعارضة السورية، تضاف إليها مساعٍ روسية لتشكيل جيش من أبناء العشائر العربية، أيضاً من هي الجهة العربية الشرعية، والأخرى الفاقدة للشرعية، من هي صاحبة الموقف المشرف والأخرى لا. كما تقودنا المفارقة الثالثة إلى القضية الأكثر عمقاً وارتباطا بالتهمة التاريخية عن علاقة الكُرد بإسرائيل، هل يحق للكُرد اليوم اتهام الآخر التهمة نفسها أم لا؟
ربما يرتكز الإطار العام لجميع الإجابات على أسئلة العقل الكُردي حول أن قضية الإمارات تحديداً لا تمثل موقفاً عربياً، وهو التفافٌ غريبٌ ومضحكٌ نوعاً ما، إذ ليس من المنطق أن تُعاد التبريرات ذاتها، ففي “قانون الذاتية والهوية، من ضمن قوانين الفكر، كل شيء يبقى كما هو، أي أن أ تبقى أ”، بمعنى أن العربي يبقى عربياً، والكُردي يبقى كُردياً، إذ ليس من المنطق القول إن ثمة أكثر من قومية كُردية، أو أكثر من قومية عربية.
والقول إن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ترتكب الفظائع يعني أيضاً شمول المكون العربي ضمن تلك الارتكابات، وادّعاء كل طرف شرعيته وسوء الطرف الآخر، يدفع إلى السطح بطاقة تبرئة الكُرد من تحمّل نتائج الانتهاكات والخلافات الموجودة وحدهم، لطالما أن لا اتفاق على تمثيل شرعي واحد للكُل، وكل هؤلاء في حالة صراع وخلاف بين بعضهم بعضا. عدا إن شرائح عديدة تضع عدسة “قسد” وتنظر إلى كل الكُرد عبرها. وفق ذلك، ماذا عن أبناء العشائر العربية ضمن فصائل المعارضة في عفرين، سري كانيه، كري سبي، والانتهاكات والكوارث التي يُقدمون عليها، هل يحق للكُرد الدخول في الخطأ نفسه وفي التعميم القاتل نفسه، وضع عدسة تلك الفصائل والنظر إلى كل الشعب السوري وكل المعارضة ونخبها وكل من يعيش في تلك المناطق من النازحين إليها أنهم شركاء في تلك الانتهاكات؟
من المهم بعمق، البحث عن جديد؛ تتفق عليه المكونات، ونسف، تهم التآمر والعمالة الملازمة للمطالب الكُردية إلى الأبد. ما تبقى من سورية، أرضاً وشعباً، ونفسية وحجم إمكانات المقاومة والبقاء والمتابعة، رُبما أصبح أقل بكثير جداً، من حجم الخسائر في الأرواح والنفسيات والجغرافية، عدا عن المسخ الملازم لذواتنا. “ما من أحدٍ يُمكنه إنهاء الآخر أو إنكاره”، قاعدةٌ يتوجب تبنّيها للبحث عن حياة مشتركة جديدة.
المصدر: العربي الجديد