تاريخ مستقبلي للرأسمالية

وولف لوتر   ترجمة: علاء الدين أبو زينة

بعد جائحة فيروس كورونا، هل نحتاج إلى إلقاء نظرة جديّة على نظامنا بأكمله؟ نعم، نحتاج. لكن نقدنا يجب أن يختار الأهداف الصحيحة: الهياكل القديمة، والفكرة عن طبيعة بشرية تعيق تقرير المصير.

الرأسمالية وصلت إلى نهايتها. يقولون هذا على شاشات التلفاز، وفي “فيسبوك”، وفي جميع وسائل التواصل الاجتماعية. الأمر كله يذهب يتداعى، الأمر برمته شطب إلى حد تتعذر معها إمكانية الإصلاح. من الواضح أن الأمر انتهى الآن. هكذا يقولون.

ثم، المزيد من نفس الأحكام، مرة أخرى. نفس المشهد المضطرب المحموم؛ السيرك ثلاثي الحلقات. لكن هذه الأخطاء في التشخيص تشكل أيضا جزءا من شريعتنا الثقافية الغربية. هذه الانتقادات المتكررة التي لا نهاية لها للرأسمالية غامضة -بل غامضة جدا لدرجة أنها تتحدث عن المنتقدين أكثر مما تتحدث الموضوع الذي يثير قلقهم إلى هذا الحد.

هل يكون الأمر أن نخب العلوم الإنسانية والاجتماعية تشعر بالإهانة لأن الربح القذر يحكم العالم، وليس يوتوبياتهم ورؤاهم الخاصة؟ هل يعرف النقاد حقا ما ينتقدونه؟ هل يمكنهم تحديد نوع الاقتصاد الذي يجب أن يحل محل الرأسمالية؟ هل يمكنهم طرح شيء قادر على تحقيق أي شيء يشبه الازدهار الذي يتمتع به الناس الآن في الغرب، أو الصين، أو الهند؟

هل لديهم حقا بدائل قادرة على توفير “أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأشخاص”، على حد تعبير جون ستيوارت ميل John Stuart Mill؟ أم أن إنكارهم العاطفي يهدف إلى التستر على فشلهم في تطوير بدائل قابلة للاستدامة؟

ليست هذه أسئلة بلاغية -ليس الآن بشكل خاص، في حقبة موسومة بالوباء والركود، والتي تشكل الخلفية للتحول من مجتمع صناعي إلى مجتمع معرفة. أي شخص يطرح السؤال: “هل ما تزال الرأسمالية القديمة صالحة للوفاء بالغرض”؟ (بمعنى، بالطبع، اقتصادات السوق للدول الصناعية) ينبغي أن يكون قادراً على تقديم شيء أفضل مما ينتقده من غير تكلف. لكن الشيء نفسه ينطبق على المدافعين المتشددين عن الوضع الراهن. أصبحت المواقف المؤيدة للرأسمالية والمناهضة للرأسمالية مُمأسسة وذاتية المرجعية. لكنّ ما نحتاجه هو شيء آخر: رأسمالية منفتحة يمكن التعامل معها. وينبغي أن يجد هذا النوع من الرأسمالية طريقه للمضي قدما، وأن يكون عمليا ونظاميا، لكنه يضع ثقته في الناس.

هذا هو ما أريد أن أكتب عنه هنا، عن طريقة ثالثة؛ اقتصاد سوق؛ رأسمالية لمجتمع متمدن واع لذاته وواثق بنفسه؛ رأسمالية متحضرة يمكن أن تمهد الطريق لقدوم مجتمع مفتوح قائم على المعرفة.

ولكن، قبل الدخول في ذلك، ينبغي أن نحلل العلاقات كما هي حاليا، ونكتشف ما لدينا وتحت يدنا. ثمة رأسمالية أخرى ممكنة، وإنما فقط إذا كنا واضحين بشأن ما نتحدث عنه.

تقرير المصير

نحن مدينون لجون ماينارد كينزJohn Maynard Keynes بالرؤية النافذة التي ضمنها قوله: “الصعوبة لا تكمن في الأفكار الجديدة، وإنما في الهروب من الأفكار القديمة”. والتفكير القديم الآن هو الثقافة الصناعية واقتصاد العمل الجاد. وتكمن كلمة صناعة industry، المشتقة من اللاتينية industria، وراء هذا الاقتصاد الذي جلب لنا كل شيء أصبحنا نعتبره طبيعيا، بما في ذلك الإنتاج الضخم والمجتمع الذي ينتمي إليه. على مدار مائتي عام، اختلطت الأشياء معا لدرجة أنه أصبح من الصعب تمييز الغابة عن الأشجار. ولكن، كما قال بيتر دراكر Peter Drucker، المفكر صاحب الرؤية في اقتصاد المعرفة، فإن هذه الحالة هي في الحقيقة شرط مسبق للمعرفة المنتجة. إنها تشكل قدرة المعرفة على “التعرف على الروابط”.

بعبارات أخرى، يتعلق الأمر بفهم التعقيد بدلا من اختزاله إلى لا شيء. وليست الرقمنة أقل من استمرارية لعمليات الأتمتة التي تخلصت، لجميع المقاصد والأغراض، من العمل الروتيني. تماما بينما تحل الآلات محل القوة البشرية، تنقلب الشبكات والخوارزميات على مخترعيها أنفسهم. وإذا كنت ترى مستقبلا دستوبياً بائسا فقط، فإنك لا تملك ما يكفي من الخيال: إن ما يبقى خاصا بالبشر دون غيرهم من الكائنات؛ الشيء الذي لديهم مخزون غير محدود ولا ينفد منه، هو: عمل فردي مستمد من شخصياتهم ومواهبهم الخاصة. لن نقوم بعد الآن بالعمل الذي يطلبه الآخرون، “غير المستقل شخصياً” و”في خدمة شخص آخر”، كما يفهمه القانون الألماني للعاملين (باللغة الألمانية، تُترجم الكلمة بـ”آخِذ العمل”، وهي عبارة معبرة). بدلاً من ذلك، أصبح الناس يهتفون: “فكريا وعاطفيا، سوف نعمل لحسابنا الخاص”.

ولا شيء من هذا جديد تماما. إننا إذا فكرنا في التصنيع كعائلة، فإن أنجح الأشقاء كانا الأتمتة وتقسيم العمل. والأخير يعني دائما التخصص. إنك كلما عرفتَ أكثر، يمكنك العمل بشكل أكثر استقلالية. وهذا هو السبب في أن المعرفة قوة، الآن أكثر من أي وقت مضى، عندما تندمج مع الشخصية، والدراية الفردية، والخبرة. وسوف يتقدم هذا التطور بسرعة أكبر دائماً إذا تمتع الآخرون أيضًا بوصول إلى فوائد التخصص، إلى أبعد حد ممكن وبلا حواجز.

عندما تخلق القدرة سياقا، ينشأ سوق. واقتصاد السوق هو ببساطة اتصال ناجح بين أولئك الذين لديهم قدرة وأولئك الذين يحتاجون إلى تلك القدرة من أجل تلبية احتياجاتهم الخاصة. ولا يمكن لاقتصاد المعرفة أن يوجد من دون المشاركة والتعاون؛ ويتطلب هذا النوع من المشاركة أشخاصاً واثقين من أنفسهم وواعين لذواتهم على كل مستوى. وهذا شيء مختلف نوعا ما عن “القفص الحديدي” الذي وصفه ماكس فيبرMax Weber، بأشكاله القديمة من التبعية.(1)

العقل في مقابل العاطفة

لم تكن الرأسمالية هي ما أوجد الاختناقات وأعناق الزجاجات داخل المجتمعات الصناعية. على العكس من ذلك، الرأسمالية هي أدوات للانفتاح والمرونة –وهي مرنة جداً لدرجة أن استخدام كلمة “الرأسمالية” قد يكون أحيانا مضللا. ولهذا السبب، يميل علماء الاجتماع إلى اقتراح أن الرأسمالية هي “مفهوم متنازع عليه بشكل أساسي”، أي أنه مفهوم خاضع باستمرار للتحدي. ويجري الخلاف والتشاجر حول المفهوم ومعناه على مستوى أعمق النظرات العالمية. لكن “اقتصاد السوق”، وهو مصطلح أكثر واقعية لما نتحدث عنه، هو حدث؛ إنه “عملية” في حالة حركة.

إذا كان شيء من هذا القبيل يتعارض مع الجمهورياتية المتحمسة republicanism، فإن الأمور يمكن أن تصبح إشكالية. إن مناهضة الرأسمالية هي جمهورياتية بحتة بروح الثورة الفرنسية –بعبارة أخرى، “تنوير” ينقلب على نفسه. تريد “الثورة” خلق المساواة والتعددية، وبكلمات أخرى، تريد الاستفادة من التعقيد. لكن هذا سرعان ما يخرج عن السيطرة، مع ظهور سياسة المشاعر التي تنقلب إلى أنماط وتفسيرات بسيطة.

يجعل التحول الراهن هذا التصور أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. إن ما هو على المحك هنا هو إيجاد حلول لمجتمع جماهيري، وتقديم إجابات جماعية بسيطة. إنه ليس رأسمالية في قفص الاتهام، وإنما يتعلق بالأحرى بالتبسيط السياسي؛ بمخفِضات التعقيد، والمُعادِلات، والمُساويات. إن ثقافتنا تقف إلى جانبها، دعونا لا نخدع أنفسنا.

بالنسبة لمعظم الناس، تعتبر التعددية وأنظمتها تهديدا. لكن اقتصاد المعرفة، مثل مجتمعه المتحضر، يعمل وفقا لأنماط أخرى. إنه يتعلق بإدراك التعقيد، وليس المزيد من الاختزال. إن فكرة “الأقل يعني الأكثر”، صرخة التحشيد في معركة اليوم، هي محض هراء.(2)

حتى حيث يضع صاحب العمل –وهو شيء جيد- توفير مزيد من المخزون فوق الجودة وإرضاء المتطلبات الشخصية بدلاً من النمو الكمي الخالص، كما هو الحال في المجتمع الصناعي والاستهلاكي، فإن هذا ليس شيئًا “أقل” بمعنى وجود “نظرة شاملة” جديدة. بدلاً من ذلك، تهدف هذه التحركات إلى شيء أكثر، حيث يقود الازدهار المرء إلى الرغبة في تحقيق أكثر من مجرد المزيد من الشيء نفسه.

في العام 1941، طور أبراهام ماسلو Abraham Maslow هرمه للاحتياجات البشرية. وهي تتألف من خمسة مستويات رئيسية: الاحتياجات الوجودية؛ الاحتياجات الأمنية؛ الاحتياجات الاجتماعية؛ الاحتياجات الفردية؛ وأخيراً، تحقيق الذات. وكان أسلافنا قد صمّموا عملهم بحيث يلبي المستويات الثلاثة الأولى من الاحتياجات. لكن البشر أصبحوا أكثر إشباعًا الآن، وأفضل حالًا. إنهم يريدون أن يكونوا مرئيين، وهم يطلبون تلبية احتياجاتهم الشخصية.

ونحن نرى هذا كل يوم: في كل مكان، يصبح احترام المرء وتقديره كشخص، كشخص جندري، كزميل، أكثر أهمية باطراد. وفي الجزء العلوي من هرم ماسلو يقف تحقيق الذات، الذي يعني الكشف عن مواهب الفرد الخاصة على النحو الأمثل، بما في ذلك من أجل رفاهية الآخرين.

لم تعد وفرة الإنتاج الضخم والروتينات المؤتمتة كافية لتهدئة الاحتياجات في هذا المستوى. وكما هو الحال مع الرأسمالية الصناعية، فإنها في أفضل الأحوال مجرد أساس. إن الكمية تخلي مكانها للجودة. واقتصاد السوق هو نظام تعددي لا يمكن إنشاؤه إلا بالتعاون، والتمايز، والابتهاج بالابتكار. إنه نظام التشغيل لمجتمع مفتوح. سوف يكون الشموليون، والديكتاتوريون، والنخب القصية على ما يرام من دون الرأسمالية. لكن كل شخص آخر يريد نصيبه من الازدهار؛ يريد فرصة للقيام بالأشياء. ولا يتعلق الأمر بإلغاء النظام، إنه يتعلق بإعادة تفسيره، والاستفادة منه.

حِيَل

في كتابه الرائع “دينامية الرأسمالية” The Dynamic of Capitalism، قدم لنا المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل Fernand Braudel ما قد يكون أفضل تعريف لـ”النظام” system، والذي أسماه “مجموع الحيل، والعمليات، والعادات والكفاءات”. وليست هذه عقيدة سكونية على الإطلاق. إنها ليست النظرية التي يبحث عنها بشدة مناهضو الرأسمالية والاقتصاديون المهووسون بالأسلوب. وكل مَن حاول أن يصف بدقة جوهر الرأسمالية أضاف مزيداً من الإثبات لحقيقة أن ذلك غير ممكن.

سعى ماكس ويبر إلى تعقب جوهر الرأسمالية في الدِّين، بعبارة أخرى، في الثقافة. وكان هذا أيضًا مسار بروديل. لكن هذا المسار تقريبي فقط، ولا يعمل إلا بالاقتران مع خبرات المرء الخاصة في التعامل مع السلوك في اقتصاد السوق. إن الأداة تستوعب الثقافات، وتندمج معها. ليست هناك رأسمالية واحدة، هناك المئات منها. وقد حددت إحدى الدراسات، التي كان المؤرخ الاقتصادي فيرنر أبيلشوزر Werner Abelshauser مغرماً باقتباسها، أكثر من 750 نوعا، جميعها مختلفة اختلافا جوهريا. إنها الثقافة والعادات الاجتماعية هي التي تحدد صندوق الأدوات الاقتصادي. وكل الرأسماليات هي صور الثقافات التي تعمل فيها. والعولمة، التي يُزعم أن الاختلافات الثقافية لم تعد موجودة فيها، ستبدو قوية فقط إذا لم تنظر فيها عن كثب. في كل مكان، تكون الثقافات هي الحكام الحقيقيين، ويقود مفسرو أساليب اقتصاد السوق وحيلهم إلى نتائج شديدة التباين. ومحاولات التوحيد تفشل بانتظام.

على سبيل المثال، يتركز شكل الرأسمالية اليابانية بقوة على الدولة، ويدمج العلاقة التقليدية القوية بين المواطنين والحكومة. والتنويعات الأميركية من الرأسمالية أكثر سعادة بالمخاطرة، وهي تأخذ زمام المبادرة من رواد الأعمال الأفراد. وأنشأت الرأسمالية الصينية الدولة لتكون عامل التمكين الخاص بها، والذي يحاول تحقيق أهداف الازدهار بمساعدة رأسمالية صناعية دينامية للغاية (ووحشية في الغالب). و”رأسمالية الراين” Rheinisch Capitalism، وهي تنويع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية، هي اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يتطلب المشاركة: “الرفاهية للجميع”، كما عرَّفها لودفيغ إيرهارد Ludwig Erhard.

هذا الجوهر ضاع بسبب الصراعات على الرأسمالية، التي هي في الأساس حروب ثقافية؛ حروب دينية بطريقة ما. لقد تم تحويل النيوليبرالية إلى خدعة استحضار غادرة للاقتصاد؛ في الحقيقة، يشير المصطلح إلى “الليبرالية الاجتماعية” التي وصفها الاقتصاديان الألمانيان والتر يوكين Walter Eucken وفيلهلم روبكه Wilhelm Röpke. وكان الهدف من الليبرالية الاجتماعية هو وضع أدوات السوق في أيدي أكبر عدد ممكن من الناس، من أجل المزيد من تحقيق الذات، والمزيد من تقرير المصير، والمزيد من الحرية. ويتغذى النقد والمعارضة الممنهجة لاقتصادات السوق على أسبقية الدولة ومؤسساتها، فوق وأعلى من السوق الحرة. وهذا يؤدي إلى نقيض ما يقصده العديد من النقاد: توسيع حقوق الفرد الحر.

حتى في هذا الوقت، يعيش الكثير من الناس في عالم “المنزل” oikos؛ اقتصاد الأسرة، حيث يقوم الأب الحازم –وإنما العادل- بتسليم كل ما هو متاح.(3) منذ العصور القديمة، كان هذا هو المفهوم المفضل للتفكير في الاقتصاد. والادعاء الذي يقدمه كما يلي: لا يمكن أن يكون هناك أكثر من هذا. لا يمكن تقسيم الكعكة إلا مرة واحدة، وعلينا القيام بذلك بإنصاف قدر الإمكان. و”الفطيرة الثابتة” Fixed pie هو الاسم الذي يطلقه عليه علماء النفس الاقتصاديون: إيمان كل أولئك الذين لم يتعلموا كيف يخبزون قط.(4)

علاوة على ذلك، هذا الاعتقاد غير تاريخي. لطالما بُنيت التنمية الثقافية البشرية على قدرتنا على استخدام الفكر، والتجديد، والتحول، والتنمية لتحقيق المزيد من القليل. وكنوع، كان “الإنسان الصانع” Homo Faber ناجحًا، لكنه لم يكن واثقًا من نفسه تمامًا. والناس غير الواثقين يتشبثون بالسلطة التي تعِد بالأمن.(5) و”منزلهم” oikos موصى به كأولوية لأن السلطة يجب أن توزَّع. أفلا يجب على الناس المستنيرين أن يأخذوا الأمر على عاتقهم، بدلاً من إخضاع أنفسهم لهياكل معادية جدًا للابتكار والانعتاق؟

في العام 1848، استحضر “البيان الشيوعي” لكارل ماركس Karl Marx وفريدريك إنجلز Friedrich Engels روح البرجوازية وأدواتها الاقتصادية، التي من خلالها يُجبر الإنسان أخيرًا على أن يواجه ظروف حياته الحقيقية بحواس واقعية. ويقول البيان نفسه أن الماركسية “تزيل كل الأشياء الثابتة القائمة منذ وقت طويل”. وبعبارة أخرى، ساعدت الماركسية في التخلص من “النظام القديم” Ancien Régime. وتتألف هذه الروح من العقل، والرصانة، والبراغماتية -بعبارة أخرى، كل شأن “التنوير”. وليس تفكير المرء بنفسه ولنفسه، وهو هدف كانط Kant لعصر التنوير، غاية في حد ذاته. إنه يجب أن ينتقد ويتحدى ويختبر الواقع مرة وأخرى.

يعرف المجتمع المدني المتحضر الجدير بهذا الاسم كيف يساعد نفسه: إنه يصمِّم. وتستند جميع نظريات المؤامرة تقريبًا، على أكثر الأجنحة تطرفاً من اليسار واليمين، إلى الجهل الاقتصادي. لم يكن ماركس وإنجلز أول من عرف -ولن يكونا آخر من يعرف- أنها لا توجد حرية من دون تقرير المصير الاقتصادي. ويعني التحرر الناجح دائما شيئا واحدا: تحرير الذات من السيطرة والتبعيات الخارجية. لا يمكن تفويض حق تقرير المصير إلى سلطة أو أيديولوجية. وعلى من يريد الحرية أن يفهم الاقتصاد، وأن يعرف كيف يطبقه. هذه هي روح المجتمع المتحضر والرأسمالية المتحضرة.

الكوميديا الصناعية

بهذه الطريقة، فإن مسرح الغرب المناهض للرأسمالية، الذي غالبا ما يكون مليئا بصيحات الاستهجان، يقدم في الواقع كوميديا عن الهوية المغلوطة. لو عرف الناس ما هو اقتصاد السوق، بعبارة أخرى: أن الرأسمالية، في الواقع -نظام يؤدي إلى قبول الفرد والتعددية- فإنهم ربما كانوا سيصفقون، من يدري؟ لكنهم يرون شيئًا آخر، وفي الحقيقة هذا الشيء الآخر، الذي يتنكر في صورة اقتصاد السوق، ليس شيئًا يمكننا استخدامه كنظام تشغيل. إنها النزعة الصناعية industrialism، والتي تسمى أيضًا الرأسمالية الصناعية: الشخصية التي تقف بيننا وبين التحول الناجح للاقتصاد.

لا تحتاج النزعة الصناعية إلى أن يفكر الناس بأنفسهم. إنها بحاجة إلى مجتمع منظم وملتزم بالمعايير، ومجموعات ذات أفراد قابلين للتبادل. إنها بحاجة إلى هياكل قيادة وتحكم، وتحتاج إلى دولة صارمة لتنظيمها، لخلق الظروف الجيدة/ وغير المحمودة لـ”أمن الاستثمار”، الشيء الذي تطالب به الجمعيات التجارية ومجموعات الضغط بلا نهاية. وفي هذه النسخة من النزعة الصناعية، لا يتم التشكيك في أسبقية السياسة أو استنطاقها على الإطلاق. إذا لم تُقلِع المبيعات، يطالبون بالإعانات ومكافآت الشراء؛ إنتاج خدمات التعليم البحتة والمناطق التابعة لها. ولا يتعلق الأمر بتعلم التعلُّم، بمعنى آخر، التفكير بطرق جديدة ومبتكرة. إن التركيز ينصب، في الواقع، على الجماعية التربوية، أو تطبيق الخطة.

لا تنطوي النزعة الصناعية على أي عناية بتحرير البشر، على الرغم من أن هذه مفارقة دقيقة لأنها تساهم في ذلك حقاً. إنها، بعبارات أخرى، تخلق أولاً الأساس المادي الضروري لانفصالها الفائق. ويأخذها هذا، كما يراه ماسلو، من المستويات الثلاثة الأولى الآمنة من التسلسل الهرمي إلى المستويين العلويين، حيث يمكن للبشر أن يكونوا ما يريدون أن يكونوا عليه: تقرير المصير.

ليس أقل من هذا هو الذي على المحك. إننا نفتقر إلى دعاة المجتمع المتحضر -الذين يجب أن يكونوا دائما رأسماليين متمدنين- ليأخذوا المصير الاقتصادي بأيديهم. بهذه الطريقة أفلت مئات الملايين من الناس من ربقة الفقر في العقود الأخيرة. لم تكن العاطفة ولا الأيديولوجيا هي التي أحدثت مثل هذا التغيير الأساسي في الظروف في الصين والهند. كانت النظرة الرصينة للسوق، التي يُساء فهمها جداً هنا.

كتب يوشكا فيشر Joschka Fischer في مقدمته لكتاب جاغديش باغواتي Jagdish Bhagwati “في الدفاع عن العولمة”: “لقد أصبح العالم الموحد شيئًا حقيقيًا”. وهو كتاب ذكي ومفعم بالأمل، والذي يجمع الأدلة، بمثابرة ورصانة، على نجاحات “النظام” system، الذي يزدريه الكثيرون في ألمانيا، لأنهم لا يفهمون مدى اعتماد حياتهم على هذا النظام لاستمرار وجود وعمل ما ينتقدونه. لطالما كانت البدائل عن الرأسمالية التأسيسية في متناول اليد. وهي تشمل العنف، والفقر، والجوع والديكتاتورية. فدعونا ننظر بعقلانية إلى هذه الحقائق وإلى علاقاتنا الاجتماعية. ولسنا بحاجة إلى إجبار أنفسنا على القيام بذلك. العقل يكفي. فدعونا نتأكد من عدم نفاد هذا المورد. دعونا نزيده ونضاعفه.

*Wolf Lotter: صحفي ومؤلف. وهو أحد مؤسسي مجلة eins الشهرية في هامبورغ، والتي يكتب لها مقالات رئيسية. بالإضافة إلى ذلك. نشر العديد من الكتب -أحدثها Zivilkapitalismus “الرأسمالية المدنية” (2013) و”الابتكار”.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: A Future History of Capitalism

هوامش المترجم:

(1) في علم الاجتماع ، القفص الحديدي Iron cage هو مفهوم قدمه ماكس فيبر لوصف العقلنة المتزايدة المتأصلة في الحياة الاجتماعية، لا سيما في المجتمعات الرأسمالية الغربية. ويجعل “القفص الحديدي” الأفراد عالقين في أنظمة تعتمد فقط على الكفاءة الغائيّة والحساب والتحكم العقلانيين. ووصف فيبر أيضا بيروقراطية النظام الاجتماعي بأنها “الليل القطبي للظلام الجليدي”.

(2) الأقل يعني الأكثر، Less-is-more: فكرة أن كمية صغيرة من شيء ما يمكن أن تكون أكثر فاعلية من كمية كبيرة أو أكثر من اللازم منه.

(3) تشير الكلمة اليونانية القديمة oikos إلى ثلاثة مفاهيم مرتبطة، وإنما متمايزة: الأسرة، وممتلكات الأسرة، والمنزل. ويتغير معناها حتى داخل النصوص نفسها، ما قد يسبب الارتباك.

(4) يعني مصطلح “قابل للتوزيع” إعطاء أو تقسيم القيمة. حسب طبيعة النشاط التجاري، هناك قدر محدود مما يتم توزيعه أو تقسيمه. ولذلك، غالبا ما يشار إلى هذا النوع من المفاوضات باسم “الفطيرة الثابتة”؛ لا يوجد سوى هذا القدر للتصرف فيه، والمقدار الذي سيتم توزيعه محدود ومتغير.

(5) “الإنسان الصانع” هو المفهوم القائل بأن البشر يتمكنون من السيطرة على مصيرهم وبيئتهم كنتيجة لاستخدام الأدوات.

المصدر: (بيرلين بوليسي جورنال) / الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى