قرصان الكاريبي

علي أنوزلا

يجب الاعتراف بأن هذا العنوان مقتبس من “لوموند ديبلوماتيك”، الشهرية الفرنسية الرصينة، التي اختارت أن تعنون مقالها الرئيس في عدد ديسمبر/ كانون الأول الجاري بهذه العبارة الصادمة: “السيد ترامب… قرصان الكاريبي”، ليس بهدف الاستعارة البلاغية أو جذب القرّاء، بل بقصد الإحالة، بوعي تاريخي وثقافي، إلى صورة ذلك القرصان البريطاني في أواخر القرن السادس عشر، الذي اشتهر بتمرّده على القانون، واحترافه السطو في أعالي البحار، ومراكمته الثروة بالقوة والاحتيال، قبل أن يتحوّل أسطورةً تُغذّي خيال الأدب والسينما. لكن ما فعلته المجلة الفرنسية نزع الرومانسية عن القرصنة وإعادتها إلى معناها الحقيقي والعاري: أي استعمال العنف بلا شرعية، واللجوء إلى القوة خارج القانون.
لنتفق أولاً: إن وصف ترامب بـ”قرصان الكاريبي” لا يهدف إلى شخصنة الموضوع، بل إلى استدعاء تقليد تحليلي عميق في فهم العلاقات الدولية، ذاك الذي يربط بين الهيمنة الفجّة وعدم احترام القواعد القانونية للنظام الدولي. فالقرصان، في الأدبيات التاريخية، ليس مجرّد شخص خارج عن القانون، بل فاعل يعمل في منطقة رمادية بين العنف والسلطة، بين التفويض والتمرّد، ويحيل القوة إلى مصدر شرعية بذاته. بهذا المعنى، يصبح العنوان تشخيصاً لا استعارةً، وقراءةً سياسيةً لا وصفاً أخلاقياً، وإحالةً إلى نمط حكم يعيد تعريف القوة بوصفها حقّاً، والهيمنة بوصفها نظاماً طبيعياً، ويحوّل العلاقات الدولية فضاءً مفتوحاً للغلبة.
ما يجري اليوم بين الولايات المتحدة في عهد ترامب وفنزويلا لا يختزل في توتّر دبلوماسي عابر أو خلاف أيديولوجي تقليدي. نحن أمام نمط من التدخّل الفجّ
ما يجري اليوم بين الولايات المتحدة في عهد ترامب وفنزويلا لا يمكن اختزاله في توتّر دبلوماسي عابر أو خلاف أيديولوجي تقليدي. نحن أمام نمط من التدخّل الفجّ، يتّخذ شكلَ حصارٍ بحري وجوي، واعتراض ناقلات تحمل نفطاً فنزويلياً، واحتجاز سفن في المياه الدولية، وعمليات قتل خارج القانون لمواطنين فنزويليين كانوا على متن قوارب صيد داخل مياههم الإقليمية. ذلك كلّه يجري من دون تفويض دولي، ومن دون سند قانوني، وفي تحدٍّ صريحٍ للمعاهدات التي تنظّم حرية الملاحة والسيادة على الموارد، ويُنفَّذ باسم “محاربة المخدّرات” و”مكافحة الجريمة” و”محاربة الإرهاب”، وهي الذرائع نفسها التي استُخدمت لعقود لتبرير أسوأ الجرائم الأميركية في أميركا اللاتينية.
إنها قرصنة، لا بمعناها المجازي، بل بمعناها السياسي الدقيق: استخدام القوة لانتزاع ما لا يجيزه القانون. وفي هذا السياق، لا يخترع ترامب سياسةً جديدةً، بل يستحضر ماضياً أميركياً مظلماً، حين كانت أميركا اللاتينية تُوصَف بلا حرج بأنها “الحديقة الخلفية” لواشنطن؛ يديرها جهاز الاستخبارات الأميركية الخارجي (سي آي إيه)، فينظّم الانقلابات، وينفّذ الاغتيالات، ويصنع الديكتاتوريات، ويسحق التجارب الديمقراطية الناشئة. كانت واشنطن تبرّر تدخّلها في شؤون دول جوارها الجنوبية، إبّان الحرب الباردة، باسم “محاصرة المدّ الشيوعي” و”نشر الديمقراطية”، واليوم تمارسه تحت عنوان “مكافحة المخدّرات” و”الحرب على الإرهاب”. غير أن هذه الشعارات التي استُهلكت طوال عقود لم تعد تُقنع إلا من يختار تجاهل التاريخ.
فالتُّهم نفسها وُجِّهت في السابق إلى رؤساء وأنظمة انتهى بهم الأمر، إمّا معتقلين أو منفيين أو قتلى، بعد تدخّلات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة لقلب أنظمتهم وتأليب شعوبهم ضدّهم وتنصيب عملاءَ موالين لواشنطن مكانهم. والتاريخ الحديث لا يزال شاهداً على هذا المنطق؛ يذكّرنا باعتقال الرئيس البنمي السابق، الجنرال مانويل نورييغا في عام 1989، عقب اجتياح عسكري لبلاده واختطافه ليُعرض في أميركا داخل قفص مثل “حيوان برّي متوحّش”، ثم يُحاكم في الولايات المتحدة بتهم تهريب المخدّرات وغسل الأموال. اليوم يُعاد السيناريو نفسه مع فنزويلا، والاتهامات نفسها تُستعمل ضدّ نيكولاس مادورو، والتهديد نفسه يتكرّر باجتياح بلاده واعتقاله ومحاكمته خارج أيّ إطار قانوني دولي، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه بلا خجل.
غير أن الأخطر من تكرار السيناريو هو السياق الدولي الذي يُنفَّذ فيه. ففي عالم يُفترض أنه محكوم بقواعد القانون الدولي، تبدو هذه القواعد معلّقةً حين يتعلّق الأمر بأقوى دولة عسكرية واقتصادية، وتصبح المعاهدات مجرّد حبر على الورق، وتتحوّل المواثيقُ الأخلاقيةُ نصوصاً صالحةً فقط حين تخدم ميزان القوة. أمّا الصمت الذي يحيط بهذه الانتهاكات، فلا يعكس جهلاً بما يجري، بل قبولاً ضمنياً بمنطق الغلبة، ما دامت الضحية دولة من الجنوب، وما دام الفاعل حليفاً لا يُساءَل. هذا الصمت هو “تواطؤ سلبي” يسهم في إضفاء شرعية الأمر الواقع على سياسات الإكراه، ويعيد مباشرةً إنتاج صورة أميركا اللاتينية بوصفها مجالَ نفوذٍ حصرياً لواشنطن، ذلك المنطق الذي لخّص عقوداً علاقةً غير متكافئة تُدار فيها شؤون المنطقة وشعوبها وفق مصالح واشنطن الخارجية، وتُقاس شرعية أنظمتها بمدى طاعتها لـ”العمّ سام”.
وما يفعله ترامب ليس قطيعةً مع هذا الماضي، بل عودة إليه بلغةٍ أكثر فجاجةً وأقلّ مواربة. الفارق اليوم ليس في الجوهر، بل في الأسلوب: فما كان يُدار سابقاً في الغرف الخلفية لوكالة الاستخبارات المركزية، وعبر الانقلابات الناعمة، يُمارَس اليوم علناً، بتغريدات وتهديدات مباشرة، وبمنطق فجّ وصريح: إنّ من لا ينصاع يُعاقَب.
حين تتحوّل القوة مصدراً للشرعية فلا فرق بين الدولة والقرصان سوى حجم الأسطول ونطاق الدمار
تُظهر السياسةُ التي انتهجتها إدارة ترامب تجاه أميركا اللاتينية عودةً صريحةً إلى منطق الهيمنة الإمبريالية الكلاسيكية، ولكن بأدوات القرن الحادي والعشرين. فبدل الانقلابات السرّية والمؤامرات الداخلية والاغتيالات السياسية، نشهد مزيجاً من التهديد العسكري، والعقوبات الاقتصادية، والابتزاز المالي، والتدخّل العابر للحدود في شؤون الدول الداخلية. هذا المزيج يعكس ما يُسمّيه منظّرو العلاقات الدولية “الواقعية الهجومية”، حيث تسعى القوة العظمى لتعظيم نفوذها الإقليمي، لا من خلال التوازن أو الردع، بل عبر فرض الطاعة وكسر أيّ هامش استقلال.
هنا يطرح الواقع سؤالاً أبعد من فنزويلا أو البرازيل أو أيّ دولة بعينها: ما قيمة القانون الدولي إذا كانت الدولة الأكثر نفوذاً تتعامل معه أداةً انتقائية؟ وما معنى النظام العالمي إذا كان يقوم، في لحظاته الحاسمة، على قانون الغاب؟… حين تتحوّل القوة مصدراً للشرعية، لا يعود هناك فرق جوهري بين الدولة والقرصان، سوى حجم الأسطول ونطاق الدمار.
وصفُ ترامب بـ”قرصان الكاريبي” ليس انزلاقاً لغوياً ولا موقفاً أيديولوجيّاً انفعالياً؛ إنه توصيف لمرحلة تتآكل فيها الحدود بين السياسة والجريمة، بين الردع والابتزاز، بين النظام والفوضى. مرحلة تُختبر فيها هشاشة القواعد التي بُني عليها العالم ما بعد نهاية الحرب الباردة. والسؤال الذي يظلّ معلّقاً؛ ليس إن كانت أميركا اللاتينية ستدفع الثمن، فقد دفعت كثيراً من قبل، بل إن كان العالم مستعدّاً للعيش في نظام تُدار فيه العلاقات الدولية بعقلية القرصان. لأنّ التاريخ، حين يُستدعى بهذه الطريقة، نادراً ما يكتفي بضحيّة واحدة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى