الخطر الصيني بعيون غربية

علي أنوزلا

ليس من قبيل المصادفة أن تتقاطع أربع افتتاحيات كبرى صدرت في أسبوع واحد عن “الإيكونوميست” البريطانية، و”نيويورك تايمز” الأميركية، و”نوفيل أوبسرفتور” و”لوبوان” الفرنسيتين، في موضوع واحد بعينه: الخطر الصيني المقبل الذي يهدّد صدارة الغرب وهيمنته الاقتصادية والاستراتيجية. فهذا التزامن لا يعكس مجرّد انشغال إعلامي طارئ، بل يشي بلحظة وعي غربي متأخّرة (وربّما قلقة) بحجم التحوّل الجاري في ميزان القوى العالمي، وبأن الصين لم تعد “قوةً صاعدةً” تنتظر الاعتراف، بل قوة قائمة تختبر (ببرود وثقة) نقاط ضعف خصومها التاريخيين. والخيط الناظم بين هذه الافتتاحيات الأربع هو الإقرار بأن الغرب أخطأ، على مدى عقود، في تقدير قوة الصين. أخطأ حين افترض أن إدماجها في العولمة سيقود حتماً إلى تحويلها إلى نسخة صينية من الديمقراطية الليبرالية، وأخطأ حين تعامل مع صعودها باعتباره فرصةً اقتصاديةً محضةً، لا مشروعاً سياسياً واستراتيجياً متكاملاً. وتصوغ “نوفيل أوبسرفتور” هذا التشخيص بوضوح حين تتحدّث عن وهم التحوّل الديمقراطي، مؤكّدةً أن الصين نجحت في بناء رأسمالية سلطوية تجمع بين اقتصاد سوق بالغ الفعّالية ودولة شديدة المركزية والانضباط، يقودها حزب واحد لا يرى في الانفتاح الاقتصادي تنازلاً سياسياً، بل أداة لتعزيز السيطرة وإعادة تشكيل موازين القوة.
بينما ينشغل الغرب باحتواء الصين، يواصل العالم العربي النظر إلى الغرب بوصفه الأفق الوحيد الممكن
وتتلاقى “الإيكونوميست” مع هذا التوصيف، لكنّها تذهب أبعد في إبراز الكيفية التي تحوّل بها التفوّق الاقتصادي والعلمي إلى سلاح جيوسياسي. فالصين، بحسب المجلّة، لا تنظر إلى قوتها الصناعية والبحثية باعتبارها مصدر ثروة فحسب، بل باعتبارها رافعة نفوذ وقدرة على “الخنق الاستراتيجي”، سواء عبر التحكّم في سلاسل الإمداد العالمية، أو عبر الهيمنة على قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا الخضراء، والذكاء الاصطناعي، والمعادن النادرة. وهنا تلتقي مباشرةً مع افتتاحية “نيويورك تايمز” التي تضع إصبعها على جرح بالغ الحساسية، ألا وهو اعتماد الولايات المتحدة نفسها (القوة العظمى الأولى) على الصين في معادن تدخل في صميم صناعتها العسكرية والتكنولوجية، ما يجعل الأمن القومي الأميركي مرتهناً لإرادة خصم استراتيجي محتمل.
أمّا “لوبوان” فتختار زاوية مختلفة في الشكل، لكنّها تصبّ في الخلاصة نفسها: فهي لا تركّز في الصين بقدر ما تركّز في الغرب، وبالأخص أوروبا، لتفضح ما تعتبره انفصالاً متزايداً بين الخطابَين، السياسي والأيديولوجي، وبين واقع التنافس العالمي. ففي عالم تحكمه الإنتاجية والانضباط والعمل المكثّف، تنشغل أوروبا (كما تكتب المجلة) بنقاشات بشأن تقليص ساعات العمل، وتوسيع العطل، والاحتفاء بثقافة الراحة، بينما تعمل الصين، بكتلتها البشرية الهائلة، وفق منطق تعبئة شاملة للموارد والطاقات. والمفارقة التي تشدّد عليها الافتتاحيات الأربع، كلٌّ من موقعه، أن الغرب بات يتحدّث كثيراً عن القيم، لكنّه يتردّد في الدفاع عن شروط القوة التي تمنح لهذه القيم وزناً وتأثيراً فعليَّين.
وتُجمع هذه الافتتاحيات أيضاً على تشخيص دقيق لنقاط القوة الصينية: فالصين، في نظرها، تمتلك رؤية طويلة المدى، وقدرة استثنائية على التخطيط الاستراتيجي، واستعداداً لتحمّل كُلَف اجتماعية وبيئية جسيمة لتحقيق أهدافها. وهي دولة استثمرت مبكّراً في المعادن النادرة (كما تذكر صحيفة نيويورك تايمز) حين كانت هذه الموارد خارج حسابات معظم صنّاع القرار الغربيين. وهي دولة راكمت (كما تشير “الإيكونوميست”) قوة صناعية تمثّل أكثر من ثلث القيمة المضافة العالمية، ما يمنحها قدرة غير مسبوقة على تعطيل الاقتصاد العالمي إذا اقتضت مصالحها ذلك. وهي، أخيراً، قوة لا تخجل من استخدام نفوذها ببراغماتية صلبة بلا أوهام أخلاقية كونية (كما تلاحظ “نوفيل أوبسرفتور”).
في المقابل، تستعرض الافتتاحيات الأربع نقاط الضعف الغربية المتمثّلة بضعف الرؤية، والتردّد في القرار، والانقسام الداخلي، والاعتماد المفرط على السوق، باعتبارها آلية سحرية قادرة على حلّ المعضلات كلّها. وفي هذا السياق تؤكّد “نيويورك تايمز” بوضوح أن السوق وحدها لن تكسر الهيمنة الصينية، وأن الدولة يجب أن تستعيد دورها الاستراتيجي كما فعلت تاريخياً في مجالات الطيران والإنترنت وتقنيات الاتصالات الحديثة. بينما تحذّر “ذي إيكونوميست” من أن تقويض البحث العلمي، ومحاربة الهجرة، والحمائية التجارية، يعني التفريط بأهم مصادر القوة الغربية الناعمة والصلبة معاً. أمّا “نوفيل أوبسرفتور” فترى أن أوروبا تعاني من عمى استراتيجي جعلها تتغاضى طويلاً عن القمع والمراقبة الشاملة التي يمارسها النظام الشيوعي في بكين ضدّ مواطنيه، مقابل مكاسب اقتصادية قصيرة الأمد، قبل أن تكتشف أن هذا الاعتماد لم يعد اقتصادياً فقط، بل سياسياً واستراتيجياً.
يظلّ هذا التشخيص (على أهميته) ناقصاً إذا ما اقتصر على موازين القوة المادّية وحدها، فأحد أعمدة التفوّق الغربي التاريخي لم يكن الاقتصاد أو الصناعة فقط، بل منظومة القيم التي قدّمها الغرب بوصفها أفقاً كونياً ومصدر شرعية في مواجهة الأنظمة الشمولية. وهذه القيم نفسها لم تعد اليوم كما كانت، لا في صورتها ولا في مصداقيتها. وقد جاءت حرب الإبادة في غزّة لتكشف (بصورة فاضحة) ازدواجية المعايير الغربية، إذ سقط خطاب حقوق الإنسان والقانون الدولي وحماية المدنيين أمام حسابات القوة والتحالفات. هذا الانكشاف لم يضعف فقط قدرة الغرب على مخاطبة العالم أخلاقياً، بل شجّع أنظمة سلطوية كثيرة على النظر إلى النموذج الصيني بوصفه أكثر صدقاً وبراغماتية، لأنه لا يدّعي ما لا يمارسه، ولا يربط النفوذ بشروط أخلاقية سرعان ما تُنتهك عند أول اختبار.
هل يمتلك الغرب الشجاعة والرؤية لإعادة تعريف موقعه في هذا العالم الجديد، أم سيكتفي بتعداد أخطاء الصين وهو يواصل إنتاج أخطائه الخاصّة؟
وتبرز هنا مفارقة أخرى لا تقلّ دلالةً تتعلّق بعالمنا العربي: ففي وقتٍ تنشغل فيه كبريات وسائل الإعلام الغربية بالخطر الصيني الداهم وبكيفية احتواء نفوذه المتصاعد، يكاد العالم العربي يراقب ما يجري بقدر كبير من اللامبالاة. فما زالت معظم الأنظمة العربية تنظر إلى الغرب بوصفه الأفق الوحيد الممكن سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولا تلتفت بالقدر الكافي إلى الشرق القريب منها، وإلى الصين تحديداً، لا قوةً تجاريةً فقط، بل قوةً صاعدةً يمكن أن تكون نموذجاً أو شريكاً أو حليفاً مستقبلياً في بناء علاقات أكثر توازناً، وأقلّ تبعيةً، من تلك التي كبّلت المنطقة طويلاً ضمن منظومة غربية باتت هي نفسها قلقة من فقدان هيمنتها.
بهذا المعنى، لا تكشف الافتتاحيات الأربع عن قلق غربي من الصين بقدر ما تكشف عن قلق الغرب من ذاته؛ فالصين، بكلّ ما تمثله من تحدٍّ اقتصادي واستراتيجي، ليست سوى مرآة تعكس اختلالات أعمق في النموذج الغربي، تتمثّل بتآكل مصداقيته الأخلاقية، وضعف إرادته السياسية، والانقسام الحاصل حول معنى قوته وحدودها. وإذا كان الغرب قد بدأ، متأخّراً، يدرك أن العالم لم يعد يدور حوله، فإن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في صعود الصين، بل في عجزه عن استعادة تماسكه الداخلي، وتجديد عقده القيمي، وربط خطابه عن الحرية وحقوق الإنسان بممارسة متسقة لا انتقائية. فالصراع المقبل لن يُحسم بمن يمتلك المصانع أو المعادن النادرة فقط، بل بمن ينجح في بناء نموذج يجمع بين القوة والشرعية، وبين المصالح والقيم. وفي هذا الامتحان بالذات، تبدو الصين واثقةً من مسارها، فيما لا يزال الغرب متردّداً: يتأمل خصمه وهو يتقدّم، ويتساءل في الوقت نفسه عما إن كان قادراً على تغيير نفسه قبل أن يحاول تغيير العالم. والسؤال الذي ظلّ معلّقاً (كما تصوغه “نوفيل أوبسرفتور” بحدّة) هو: هل يمتلك الغرب الشجاعة والرؤية لإعادة تعريف موقعه في هذا العالم الجديد، أم سيكتفي بتعداد أخطاء الصين وهو يواصل إنتاج أخطائه الخاصّة؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى