
ليس ثمّة التباس في أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد من فنزويلا أن تتقدّم إليه طائعةً مختارةً، وأن تعيد إلى بلاده “النفط والأراضي والأصول الأخرى” التي يزعم إن كاراكاس سرقتها. وعبر هذا المنطق الموغل في الكذب المباح، يجيّش “أكبر قوة جُمعت في تاريخ أميركا الجنوبية على الإطلاق”، مهدّداً بتصعيد غير محدود للانتشار العسكري، ويعود مرّات ليكرّر أن واحداً من أهدافه إسقاط الحكومة اليسارية التي يتزعّمها نيكولاس مادورو.
وفي نسخة سابقة من سرديته، صنّف الجمهورية الفنزويلية البوليفارية “منظّمةً إرهابيةً”، واتهمها بالاتّجار بالمخدّرات، وأنها مسؤولة عن تعريض آلاف الأميركيين للقتل جرّاء ذلك. وقال أيضاً إنها تضخّ أعداداً كبيرةً من المهاجرين الذين يمثّلون مافيات الجريمة المنظّمة إلى الولايات المتحدة. وفي تغريدة لاحقة، قرّر اعتبار مُخدِّر “الفنتانيل” (الذي يزعم أن حكومة مادورو تتاجر به) سلاحَ دمار شامل، مع أنه مُصنَّف علمياً مخدّراً طبّياً فائق الفعالية يُستخدم في حالات خاصّة، ولا صلة لحكومة كاراكاس بتصنيعه ولا بتصديره.
ما يريده ترامب من مضامين سرديته المتهافتة، التي تفتقد أيَّ مشروعية قانونية أو تاريخية، أن يقوم الفنزويليون بتسليم نفطهم، وكذا ثرواتهم الأخرى، إلى الشركات الأميركية؛ لأنهم “مثل العراقيين” الذين قال عنهم مرّةً إنهم “يعومون على بحر من النفط” لكنّهم لا يعرفون كيف يستخدمونه، ولأن الأميركيين أحقّ به وفق منطق الهيمنة الجائر الذي عبّرت عنه استراتيجية الأمن القومي المُقرَّة في واشنطن أخيراً، التي أعادت التذكير بدبلوماسية “العصا الغليظة”، سيئة الصيت، التي شرعنها الرئيس ثيودور روزفلت.
ومعروف أن النفط الفنزويلي كان قبل مائة عام بيد “كارتل” الشركات الأميركية التي استغلّته محقّقة أرباحاً هائلة منه، تاركةً الفتات لمالكيه الفنزويليين. وفي ظلّ حكّام وطنيين، قُدّر لفنزويلا أن تحظى بهم في أكثر من مرحلة، جرى تحرير الثروة النفطية من خلال سلسلة خطوات اتخذت مساراً تصاعدياً منذ أربعينيّات القرن الماضي، وصولاً إلى حكومة الزعيم اليساري هوغو تشافيز التي وضعت الصناعة النفطية تحت سيطرة الدولة بشكل كامل. وهو ما أغاظ الأميركيين ودفعهم إلى الكيد لنظام كاراكاس دائماً.
حكومة تشافيز وضعت الصناعة النفطية تحت سيطرة الدولة بشكل كامل، ما أغاظ الأميركيين ودفعهم إلى “الكيد” لنظام كاراكاس
تلتقي سردية ترامب هذه مع سردية مقاربة طرحتها أطراف يمينية مُعارِضة تقيم في الولايات المتحدة، تقودها ماريا كورينا ماتشادو التي تحظى بدعم واشنطن ورعايتها، والتي لم تتورّع عن دعوة الأميركيين إلى غزو بلادها. كما وعدت بإعطاء النفط إليهم في حال وصولها إلى الحكم، على غرار الوعد الذي قطعه حكام العراق الحاليون على أنفسهم قبل أن تسلّمهم الولايات المتحدة الحكم إثر احتلالها لبلادهم.
وعلى ذكر ماتشادو، غالبية قطاعات الشعب الفنزويلي (حتى المُعارِضة منها لمادورو) لا تتفق مع طروحاتها، وتنظر إليها دمية عميلة لواشنطن. وتقف تلك القطاعات في مواجهة أي تدخل أميركي في شؤون بلادهم. ويقول ناشطون مستقلّون معارضون إنه إذا كان تغيير مادورو مطلوباً فليكن بيد الفنزويليين أنفسهم، وليس بيد قوة أجنبية تغزو بلادهم، وأمام أعينهم تجربة العراق التي أطاحت نظامه الوطني وأمعنت في خرابه ودماره.
وبالعودة إلى فنزويلا، لا يمكن تحليل سردية ترامب باعتبارها تهديداً خطابياً يسعى إلى فرض حالة معيّنة في الحيّز الجيوسياسي الذي ترى واشنطن أنه يمثّل ملكيةً خاصّةً لها لا تنازعها فيها قوة أخرى. بل هي سعي ديناميكي محموم ومحسوب لنزع الشرعية من فنزويلا دولةً ذات سيادة، وتحويلها إلى كيان إجرامي لا مجال للتفاوض معه أو إلزامه باتباع قواعد معينة. وهنا يسوق إجراءات غير شرعية قيد التطبيق: الحصار، مصادرة السفن، استخدام القوة؛ في مسار عملي يريد من خلاله تقرير واقع مغاير، ليس لفنزويلا فحسب، إنّما للقارّة اللاتينية كلّها، ويعيد تشكيلها حديقةً خلفيةً لأميركا كما كانت في مرحلة سابقة. وهذا هو ما لوّحت به الاستراتيجية الأمنية الجديدة المتوافقة مع طموحات ترامب الشخصية في قيادة العالم والهيمنة على مقاديره وثرواته.
كما لا يمكن فصل هذا المسار عن مسارات أخرى تعمل الإدارة الحالية على تسعيرها في الشرق الأوسط، وفي أفريقيا وآسيا، وحتى في القارّة الأوروبية التي لا تتفاعل مع سياسات ترامب وطروحاته بالقدر الذي يطمح إلى الحصول عليه.
المصدر: العربي الجديد






