
واحدة من أركان الأسطورة المؤسسة للولايات المتحدة تتشكل عبر مقابلة بين فساد أوروبا وطهارة العالم الجديدة. خرج المستوطنون أو المستعمرون الأوائل من القارة العجوز، هرباً من الاضطهاد الديني والفساد الأخلاقي والعسف السياسي للملكيات الأوروبية المطلقة، وذلك حتى يقيموا مدناً ومجتمعات فاضلة على الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وفي الأدبيات التأسيسية، لا تندر الإشارة إلى تلك الرحلة بوصفها تكراراً لخروج بني إسرائيل من مصر، أي من أرض العبودية إلى أرض الموعد. في المخيلة الأميركية المحافظة، ثمة شيء فاسد في أوروبا. لكن العلاقة بالقارة الأم ليست بهذه البساطة، فالآباء الأوائل أطلقوا اسم مدنهم الأوروبية على مستقراتهم في الأرض الموعودة، وألحقوا بها صفة الجديد. هكذا، كانت أميركا تجديداً لأوروبا، أو إنقاذاً لها.
في استراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومي الكثير مما يلفت الانتباه، استخدام لغة أكثر حسماً في التأكيد على ما هو معروف سلفاً، إعلان الصين خصماً، والعودة إلى مبدأ “مونرو” بشأن الهيمنة الأميركية في القارة اللاتينية، وتراجع الاهتمام بالشرق الأوسط وإفريقيا. لكن موقع أوروبا في الوثيقة الأميركية للأمن القومي لفت القدر الأكبر من الاهتمام. لدى الإدارة الأمريكية الحالية العديد من نقاط الخلاف مع الأوروبيين، على رأسها الاتحاد الأوروبي نفسه، والقيود الأوروبية على الشركات الرقمية الأميركية، و”التطرف المناخي”، وميزانيات الدفاع التي داوم ترامب على مطالبة نظرائه الأوروبيين برفعها. لكن النقطة الأكثر صدامية التي أشارت إليها الاستراتيجية هي مسألة الهجرة، حيث تحذر واشنطن الأوروبيين من أن التغيرات الديموغرافية في القارة العجوز، والتي تنذر بـ”محو الحضارة”، ومن أن يصبح غير الأوروبيين أغلبية في حلف الناتو.
مرة أخرى، تتصدى الولايات المتحدة لمهمة إنقاذ أوروبا من نفسها، أو من “الانتحار الحضاري” كما يصفه نائب وزير الخارجية الأميركي، كريستوفر لاندو. لا يتعلق الأمر بالمصالح هنا، ولا حتى بالأوروبيين بوصفهم حلفاء استراتيجيين، بل بإنقاذ الحضارة، أو بالأحرى سيادة الرجل الأبيض. فالواضح أن للحضارة تعريفاً عرقياً ضيقاً لدى واضعي الاستراتيجية الأميركية. وفي هذا السياق، تكرر نظرية المؤامرة المعروفة باسم “الإحلال الكبير”، وتحتفي باليمين الأوروبي الصاعد بوصفهم حركة “مقاومة” ضد التراجع الأوروبي.
بالفعل، تشهد القارة الأوروبية معضلات ديموغرافية مزمنة، تتعلق بانخفاض مستويات الخصوبة والشيخوخة السكانية، حيث ترتفع بشكل متتابع نسبة كبار السن مقارنة بنسبة السكان القادرين على العمل. والهجرة ليست المشكلة بل واحدة من أدوات التعامل مع تلك المعضلات والتخفيف من آثارها طويلة المدى. لكن الهلع الأميركي لا يتعلق بالديموغرافيا الأوروبية في الحقيقة، بل بالتغيرات السكانية المحلية. فمن المتوقع بحلول عام 2045، أن يصبح البيض الأميركيون أقلية في البلاد. بالفعل أصبح البيض أقلية في الولايات المتحدة بين الأجيال الأصغر سناً. ومن المتوقع أن يكون الجيل “زد” هو آخر جيل يشكل فيه البيض نسبة أعلى من النصف، وسيفسح ذلك الطريق لجيل ألفا من مواليد ما بعد 2012، حيث سيدشن واقع جديد، هو “أغلبية الأقليات”.
في الولايات المتحدة كما في أوروبا، لم تعد معدلات المواليد قادرة على معادلة الوفيات السنوية، ويتم تعويض التراجع السكاني عبر الهجرة. الهلع العرقي تحت لافتة “إنقاذ الحضارة” على ضفتي الأطلسي يشوش على مناقشة الأسباب الحقيقية لتراجع معدلات الخصوبة في المجتمعات الغربية. ثمة أسباب ثقافية بالطبع، مثل صعود أنماط العيش الفردية وتحرر النساء وتراجع الدين ونموذج الأسرة النووية، لكن هناك أسباباً اقتصادية حاسمة. بلا شك ارتبطت الطفرة السكانية المرتبطة بـ”جيل البيبي بومرز”، بفترة الانتعاش الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن لاحقاً قادت سياسات النيوليبرالية التقشفية منذ مطلع الثمانينات واتساع التفاوتات الهائلة في الثروة إلى خفض نسب الخصوبة.
هكذا تمثل استراتيجية الأمن القومي الأميركية هروباً مزدوجاً من مواجهة الواقع. أولاً بإسقاط المعضلات المحلية على القارة الأوروبية، وثانياً بلوم الهجرة أو “الغزو” كما تسميه الوثيقة، بينما يتواصل التوسع في السياسات الاقتصادية التي قادت بالأساس إلى معضلة الانكماش السكاني.
المصدر: المدن






