“الدستور الاقتصادي السوري”.. نحو هوية اقتصادية دستورية

د. أسامة القاضي

يغيب تفصيل البعد الاقتصادي عن الكثير من الدساتير في العالم، فيُذكر باقتضاب كما لو أنه يبدو هروباً من هوية الدولة الاقتصادية، ومبرره لدى بعض فقهاء الدستور أنه نوعٌ من ترك هامش حرية لواضع السياسات التفصيلية في اختيار السياسة التي يجدها مناسبة، ويُترك الأمر مرناً طبقاً لمقتضى الحال.
ويضمن بذلك هامش حرية لصانع السياسات الاقتصادية للتأقلم مع أية ظروف محيطة، إضافة إلى أن هنالك من فقهاء الدستور من يميل إلى اختصار النص الدستوري إلى أقل ما يمكن، فيذكر الحد الأدنى المتفق عليه بين المواطنين.
هنالك دساتير كثيرة تحمل تفصيلات في صلب الفلسفة الاقتصادية للدولة، فليست كل دساتير العالم مثل الدستور الأميركي صغيرة الحجم؛ حيث بلغ عدد صفحاته 19 صفحة، ولم يذكر فيه كلمة اقتصاد ولا مرة، ولكن ذُكر المال 6 مرات، والضرائب 10 مرات. أما الدستور الألماني الذي بلغ 140 صفحة (لم يكن مختصراً) فذكرت مفردة اقتصاد 24 مرة، والتنمية 11 مرة، والضريبة 90 مرة، والعمل 3 مرات.
إن أطول دستور في العالم هو الدستور البريطاني الذي بلغ عدد صفحاته 709 صفحات، وذكرت فيه مفردة الاقتصاد 36 مرة، والتنمية 54 مرة، والعمل 32 مرة، بينما بلغ تكرار مفردة “الضرائب” رقماً ساحقاً، فوصلت إلى 125 مرة، ومفردة المال 99 مرة، ومفردة الزراعة 29 مرة.
لقد نَحَتَ مصطلح “الاقتصاد الدستوري” في عام 1982 الاقتصادي الأميركي ريتشارد ماكنزي، ومن ثم طوّره اقتصادي أميركي آخر هو جيمس م. بوكانان (1919-2013) أستاذ الاقتصاد في عدة جامعات أميركية، والحاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عن كتابه “تطوير الأسس التعاقدية والدستورية لنظرية اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية” في عام 1986.
انصبّ اهتمام معظم المقترحات المطروحة للدستور السوري القادم بعد الثورة على المسائل السياسية، والحريات، وحقوق الإنسان، والفصل بين السلطات، وآلية صناعة القرار التشريعي والسياسي، وتداول السلطة، و”الجندرة”، ولم يكن هنالك أي جهد حقيقي في التعريف بالأبعاد الاقتصادية للدستور السوري القادم.
وهذا يجعل الرؤية المستقبلية للاقتصاد السوري ضبابية وغير واضحة المعالم، مما يثير مخاوف الشعب السوري الذي عانى من عقدة التوجه الاقتصادي الاشتراكي لعقود، حيث كانت الدساتير “البعثية” السورية سابقاً، وخاصة في مادته الثامنة سيئة الذكر التي تشير إلى أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع”! تذكر بوضوح أن طبيعة الاقتصاد السوري “اشتراكي”.
كما ذكرت المادة الأولى من الدستور السوري أن “الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها”، ولكن المادة 13 كانت أوضح، حيث أشارت إلى أن “الاقتصاد في الدولة اقتصاد اشتراكي مخطط يهدف إلى القضاء على جميع أشكال الاستغلال”، والمادة 49 تُعنى بكل وضوح بـ”بناء المجتمع العربي الاشتراكي وحماية نظامه، تخطيط وقيادة الاقتصاد الاشتراكي”.
إن الشعب السوري ذاق الأمرّين من جرّاء تلك السياسة “الاشتراكوية” وما أتى به البعث من سياسات عشوائية اقتصادية قاتلة، حتى عندما أريد إدخال سياسة “اقتصاد السوق الاجتماعي” فقد تم تقديمها للشعب السوري بشكل مشوه، فلم تستطع الحكومة “لبرلة” الاقتصاد ضمن حوكمة رشيدة، حيث الشفافية والنزاهة واحترام القانون.
وأصرت الحكومة على تجاهل الشق السياسي وحقوق الإنسان، مما جعل تطبيق أي سياسة اقتصادية حقيقية سواء اشتراكية أو ليبرالية مصيرها الإخفاق، والهمّ الحقيقي الوحيد هو إثراء الحلقة المقربة من صانع القرار على حساب إفقار بقية الشعب وإهماله.
فضلاً عن ذلك، مرّ الاقتصاد السوري تاريخياً بمحنة التأميم الذي دمّر الاقتصاد السوري وكبح جماح نموه، ونفّر المستثمرين والصناعيين ورجال الأعمال السوريين قبل غيرهم. ذلك التأميم – سيء الصيت – الذي فرضته الوحدة السورية ـ المصرية عام 1958. ثم التأميم الذي فرضه حزب البعث في 8 آذار عام 1963.
حيث تم تأميم عدد من الشركات والمؤسسات الصناعية الكبيرة، والخدمات المصرفية وقطاع التأمين بالكامل، بذريعة التوجهات الاشتراكوية الرعناء، كما جرّد الإصلاح الزراعي مُلّاك الأراضي من ممتلكاتهم، وقام بتأميم الخدمات المصرفية التجارية والتأمين بالكامل.
وفي عام 1965، أُمِّمت معظم الشركات الكبيرة كليًا أو جزئيًا، وبحلول عام 1966 توسع الجسد الحكومي ودخل في كل مفاصل النشاط الاقتصادي السوري.
ينبغي تكريس التوجه الاقتصادي الليبرالي – الحر دستورياً، في سياسة اقتصادية تشابه نموذج ألمانيا وفنلندا وكندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، شريطة عدم وجود احتكار وترك آليات العرض والطلب تحدد الأسعار، وحماية الصناعة الوطنية، وضبط الحدود والجمارك منعاً لسياسة الإغراق، وكذلك مراعاة الطبقة الأقل حظاً في المجتمع، واتّباع سياسة أبوية حكومية تخص التعليم والصحة بحيث يكون لدينا نظام مختلط مجاني عام وكذلك قطاع خاص.
كما ينبغي رعاية العمال من خلال تأهيلهم وتشجيع خلق فرص عمل دائمة، وتأمين إعانات البطالة لهم، وكذلك دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويجب على الحكومة الالتزام استراتيجياً بتوسيع الطبقة الوسطى إلى 70 بالمئة.
إن الالتزام بالتنمية المتوازنة بين المحافظات وكذلك تنمية كل القطاعات وتبني سياسات الحوكمة الرشيدة والحريات الاقتصادية والإنتاجية والكفاءة، كله عبر مؤشرات، يجب تبنيه دستورياً، لأن منزلة الدول لا تنفك عن حجمها ودورها الاقتصادي في العالم، ومساهمتها في وضع بصمتها الخاصة وطرح سلعها المنافسة المتميزة في السوق العالمية، مما ينعكس في صورة مؤشرات اقتصادية وتنموية واجتماعية وتعليمية.
هذه السياسات يجب أن يكون منصوصاً عليها بصراحة دون مواربة أو تحذلق، بحيث لا تحتمل بنود الدستور القادم أكثر من معنى، فيكفي السوريين ما أضاعوه خلال عمر دولتهم الفتية منذ الاستقلال، وآن الأوان لتلتحق سوريا بركب الاقتصاد العالمي، وتكون واحدة من الاقتصاديات الناشئة، واستثمار ما حباها الله من موارد مادية وبشرية لم تتوفر لكثير من الدول التي نهضت وباتت علامة فارقة اقتصادية في العالم.
من هنا، انبثقت فكرة “الدستور الاقتصادي السوري” التي اقترحها كي نرسم ملامح الاقتصاد الوطني في المستقبل، ونضعه بين يدي فقهاء الدستور في أثناء صياغتهم للدستور السوري القادم، خاصة أن تاريخ سوريا المعاصر ينبئ بأن “السياسي” الذي استلم دفة الحكم بالضرورة لم يكن مؤتمَناً على اقتصاد سوريا، بل كانت بوصلته الاقتصادية خليطاً من كثير من التوجهات العشوائية دون النظر لمآلات القرارات الاقتصادية التي تشكّل كيان الدولة الرئيسي وتُحرك كل مفاصل المجتمع، وتلعب دوراً حيوياً في تموضع الدولة تنموياً واقتصادياً ضمن دول العالم.
ساهم الاقتصاد الدستوري في رأب الصدع بين علماء الدستور والاقتصاديين، حيث سمح نهج الاقتصاد الدستوري بإجراء تحليل اقتصادي ودستوري مشترك، بمعنى مقاربة الدستور ببعديه الاقتصادي والقانوني، ليتمتع بالمرونة الكافية حتى يصلح للأجيال القادمة ويحقق التوازن بين مصالح الدولة ومصلحة المجتمع، خاصة الاقتصادية منها.
دعا بيوكانان إلى أن لا يكتفي الاقتصاديون بتقديم المشورة للسياسيين، بل عليهم أخذ الهيكلية السياسية بعين الاعتبار وهم يصوغون دراساتهم ونظرياتهم، بل ذهب لأبعد من هذا من خلال تشجيع الاقتصاديين ليساهموا في تطوير “نظرية الدولة”.
لقد اقترحت في دراستي للدستور الاقتصادي السوري حوالي 70 مادة كي نحدد هوية الاقتصاد السوري، وأتمنى على برلمان جمهوريتنا الثالثة أن يتبناها.

المصدر: صحيفة الثورة السورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى