إنه يوم حزين

د. مخلص الصيادي

يوم الأربعاء الماضي العاشر من يناير الجاري، قبل أن يودعنا العام 2025، أصدرت المحكمة العليا في الجزائر قرارا برفض الطعن بالنقض على القرار الصادر بحق المفكر والباحث الجزائري الدكتور محمد الأمين بلغيث المتهم بقضايا وصفت بالخطيرة لأنها وفق منطوق الحكم تمس ثوابت وطنية مسطرة بالدستور.
الحكم الذي أصدرته محكمة الدار البيضاء يقضي بالحبس خمس سنوات اثنتين منها مع وقف التنفيذ، والتهمة استندت إلى تصريح للدكتور بلغيث في برنامج حواري على قناة سكاي نيوز عربية وصف فيه الأمازيغية بأنها “مشروع صهيوني ـ فرنسي”.
في تلك الحلقة التي أجرتها الإعلامية “فضيلة السويسي” مطلع مايو المنصرم قال بلغيث: إن الجزائر بلد عربي قوي جدا، الذي يستطيع أن يقول لا، وإن فرنسا ستبقى إلى الأبد عدو الماضي والحاضر والمستقبل.
وكباحث قدم رؤيته للدور الفرنسي والموقف الفرنسي من الجزائر، ودور المستوطنين الفرنسيين في الجزائر ويمثلهم في فرنسا اليوم تيار اليمين الفرنسي المتطرف، وهو تيار يقوم على جهود أحفاد أولئك المستوطنين.
وفي إطار الحديث عن الدور الفرنسي جاء على ذكر الأمازيغية كحركة ومشروع باعتبارها تمثل “مشروعا فرنسيا صهيونيا” مؤكدا أنه ليس هناك شيء اسمه الأمازيغية وإنما هناك البربر، وأن الجزائريين عرب.
وهو في هذا الجانب يتحدث يعارض النظرية التي تقول إن الامازيغية عرق مستقل بنفسه، وبلغته، ويتبنى النظرية المقبولة والمتداولة لدى أكثر الباحثين وأوثقهم، والتي تذهب إلى أن الأصل العرقي ل “البربر”، وأصول لغتهم يرجع إلى العرب والعربية، وأن “المشروع الأمازيغي” الراهن لا ينبع من تلك الأصول ولا يعبر عنها، وإنما ينبع من فعل استعماري مباشر يستهدف وحدة الجزائر ووحدة شعبها، وهويتها التاريخية والحضارية.
ومن هنا يظهر أن الرجل يتحدث عن الرؤية التاريخية، أما حديثه عن الحاضر ومهاجمته ل “مشروع الأمازيغية”، فليس حديثا عن البربر وتركيبة المجتمع الجزائري، وإنما حديث عن مشروع فشلت فرنسا في إنباته حين كانت تحتل الجزائر، ثم عملت على ذلك بدأب وإصرار بعد استقلال الجزائر موظفة إفرازات التحرر من الاستعمار” المستوطنين الفرنسيين، والحركيين أي العملاء والخونة” في إيجاد مؤسسات من مراكز أبحاث، ومعاهد، ووسائط اعلام وتوجيه لإعادة الحياة لهذا المشروع.
الحلقة من برنامج “مثير للجدل”، وهو حقا مثير للجدل، ليس فقط لطبيعة ما يتناوله من موضوعات، وإنما لطريقة المقدمة وأسلوبها في “إثارة الجدل”، وفي توجيه الحوار والخطاب.
والحق أن الدكتور بلغيث لم يتجاوز الحقيقة وهو يصف نظرة وموقف فرنسا من الجزائر، ذلك أن فرنسا التي ترفض الاعتذار للجزائر عن مرحلة الاستعمار، والتي ما تزال تحتفظ بجماجم العديد من ثوار الجزائر في متحفها المعروف ب “متحف الانسان / متحف التاريخ الطبيعي”، ومن بين من تحتفظ بجمجمته االشهيد السوري الأزهري “سليمان الحلبي” الذي أقدم على اغتيال الجنرال كليبر في مصر في 14 / 6 / 1800. فرنسا هذه موقفها تاريخي ضد الجزائر وضد العرب، وضد المسلمين، ورغم جهود الجنرال ديغول لتحسين هذه الصورة فإن مآلات الموقف الفرنسي لم تتغير.
والحق أيضا أن الدكتور بلغيث لم يتجاوز الحقيقية التاريخية والراهنة في توصيفه الأمازيغية، وقد أكد في حواره كله أنه يتحدث عن ” الأمازيغية كمشروع” مناهض للمشروع الوطني العروبي للجزائر، وليس حديث عن الأصول العرقية، وبالتالي فإن حديثه يأتي دفاعا عن الوطنية الجزائرية في مواجهة التسلل والتغلغل والضغط الفرنسي. وتجاه مشروع مواز يريد أن يخطف الجزائر عن شعبها وعن حقيقتها الحضارية.
ومن هذه الزاوية فإن الرجل لم يأت بجديد، ولم يكن الرائد في هذا المجال، بل كان يعرض ما اتفق عليه الباحثون، وأكده التاريخ النضالي للشعب الجزائري. وجاء كل الحديث والحوار في سياق الحديث عن توتر العلاقات الجزائرية الفرنسية وسحب السفير الجزائري من فرنسا في 30 / 7 / 2024.
وإذا أراد أحد أن يدين الدكتور بلغيث، فعليه أولا أن يدين علماء الجزائر وقادتها عل الأقل منذ احتلال الفرنسيين للجزائر، بدءا من الأمير عبد القادر الجزائري ورفاقه، وصولا إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس ورفاقه. وقادة الثورة الجزائرية ورجالاتها. فهؤلاء جميعا هم من واجهوا الفرنسية بالفكر والسلاح، وهم من نافحوا عن هويتها العربية الإسلامية، وهؤلاء جميعهم، وفي المراحل كلها، بأصولهم البربرية والعربية عرفوا مداخل المستعمر للسيطرة على الجزائر ولتفتيت منطقة المغرب العربي، وتصدوا له.
تحويل البربرية / الأمازيغية من تعبير عن منابت قبلية وطنية إلى مشروع مضاد، واعتباره المواجه والنقيض للشخصية الوطنية الجزائرية هو فعل من أفعال الوجه الاستعماري الفرنسي للجزائر، وفي فرنسا أقيمت مراكز الأبحاث والدراسات واللغويات التي تدعم هذا التوجه، هذه حقيقة لا تحتاج إلى إثبات، وحين يأتي عالم اجتماع وتأريخ، وباحث ليعرض هذه الحقائق فإن من مؤشرات الخطر والخطأ أن يواجه بالإدانة، وأن يرفع في وجهه سيف القانون، وأن يتهم بتهمة التناقض مع الدستور.
إن الدستور الجزائري الذي تحدث في ديباجته مؤكدا أن الهوية الأساسية للجزائر قائمة على الإسلام والعروبة والأمازيغية، هو نفسه سطر في الديباجة ذاتها أن “الجزائر أرض الإسلام، وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية، وبلاد متوسطية وأفريقية”، وقد ترجم الدستور هذه الديباجة في المادة الثانية من فصله الأول بتحديد أن الإسلام دين الدولة وفي مادته الثالثة أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، وتحدث عن “التنوعات اللسانية للتمازيغيت” المستعملة في الجزائر، وخصص لها المادة “3 مكرر” فقال: “هي كذلك لغة وطنية تعمل الدولة لترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني.
حين قرأت عن الحكم القضائي بحق الدكتور بلغيث، راعني الأمر فاسترجعت تلك الحلقة التلفزيونية علني أفهم دواعي صدور مثل هذا الحكم، فلم أجد لذلك مبررا إلا إذا قطع حديث الرجل عن سياقه، أو قطعت الحلقة عن ظرفها الزمني، وفي الحالتين نصبح أمام تعسف في فهم الحديث، وفي استخلاص نتائج له تدعم إدانة بلغيث بإطلاق تصريحات وأقوال مجرمة بالدستور.
نعم راعني هذا التسييس لحديث عالم وباحث، لأن فيه خطر كبير على السلامة الوطنية، مثلما فيه خطر على حرية الفكر والبحث العلمي، وفيه انتصار للقوى المتربصة بوحدة الوطن وهويته مثلما فيه تثبيط وإرهاب للقوى المدافعة عن هوية الشعب ووحدة الوطن.
في رده على الحكم الصادر بحق الدكتور بلغيث قال محامي الدفاع توفيق هيشور: “إن الأنظار تتوجه إلى رئيس الجمهورية، القاضي الأول في البلاد، أملا في إصدار عفو رئاسي عن ابن الأسرة الثورية البروفيسور محمد الأمين بلغيث”. ومن حق ووظيفة محامي الدفاع أن يتطلع إلى هذه الزاوية أملا في تجنيب بلغيث هذا المصير، لكن من الصعب، ومن المحزن، ومن المحبط، أن يجد المرء نفسه مكرها على اللجوء إلى صلاحية رئيس الجمهورية في وقف تنفيذ حكم في قضية كان يجب في الأصل والمبدأ ألا تصل الى القضاء.
يوم حزين للفكر في كل مكان، وللوطنية الجزائرية، وللعروبة، أن يساق الرجل إلى ساحات القضاء، ومن ثم إلى السجن، لأجل موقف ورأي ورؤية طرحها من زاوية هي محل اجماع وطني، وطرحها في مرحلة تتطلب وضوحا في الرؤية والموقف.
القضية التي تناولها الدكتور بلغيث ليست موقفا من المكون “البربري / الامازيغي”، وليست موقفا من التثاقف “العربي الأمازيغي” الذي يحيط به الإسلام، وتحيط به العربية من كل جانب، ولكنه موقف من المشروع المضاد الذي أطلق عليه خصوم الوطن، اسم “المشروع الأمازيغي”. ولا شك أن هذا اليوم هو يوم فرحة وإحساس بالانتصار لأصحاب هذا المشروع.
نحن في كل وطننا العربي، في كل أقاليمه ودوله، لا أستثني أحدا، نمر في مرحلة من أخطر المراحل التي تم بها الأمم والشعوب، المرحلة التي يصل فيها التساؤل والبحث إلى “الهوية”، هوية الشعب والوطن، وإلى إعادة النظر في مكونات هذه الهوية، هنا الخطر الحقيقي، ـ ونحن الآن في عمق هذا الخطرـ وحين يصل الخطر إلى هذا المستوى يصبح الانفجار، ولأي سبب ممكن، بل ومنتظر، ويصبح توقي ذلك من فروض الوعي بالأمن الوطني والقومي.
بلغيث… نحن معك، في سجنك الداجي معك… حتى يفرج الله عنك وعن كل صاحب فكر حر ملتزم بوطنه وأمته.

إستانبول 13 / 12 / 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى