حملت الأشهر المنصرمة خلافاً حاداً بين عائلات السلطة في سورية، آل الأسد ومخلوف والأخرس، حيث بدا رامي مخلوف مصمماً على البقاء في السلطة الاقتصادية، بينما السلطة مصرّة على حرمانه الكامل من ثرواتها. انشغلت سورية كلّها بذلك، وتناول النقاش أن رامي مدعومٌ من روسيا، وإلّا لما كان قادراً على تلك المواجهة. ألغت الحكومة السورية أغلبية عقوده معها، والتي تعود إلى عام 2000 بشكل خاص، وأعطيت بعض تلك العقود إلى شخصياتٍ جديدة، التحقت بالنظام، وهناك من ربط بينها وبين نفوذٍ صاعد لأسماء الأسد. في خلفية المشهد، ظلَّ اسم ماهر الأسد مثار حواراتٍ وتقديرات، لم تتبيّن بدقة قوة الرجل ونفوذه وإمكاناته؛ علماً أنه الرجل الأقوى في السلطة، وتحسب له حساباً، كل من روسيا وإيران وأميركا؛ في الخلاف الأخير، طاولته التكهنات، فهو يمسك العصا في المنتصف، ولا يريد التفريط بأيّ من عائلات السلطة، كي لا يَفرِط عقدها الذهبي، ويذهب المجد وكل شيء. وفي هذا نقول إن غياب الإعلام الدقيق هو ما يسمح بالتقديرات الخاطئة، ولكنها الحياة في الدولة المستبدة بامتياز.
أخبرتنا الأيام الأخيرة أن إيهاب مخلوف، وهو أخو رامي، نال بعض عقود الاستثمار، ولا سيما في الأسواق الحرة، وأن الرئيس بشار زار اللاذقية لتهدئة الأجواء المضطربة بين آل الأسد وآل مخلوف، الذين دبّ الخلاف بينهم إثر تصاعده بين رامي والسلطة. الأمران يقولان جديداً، إن الخلاف الأساسي سيُحلّ عبر إخراج رامي من المشهد السوري، ومنها، قياساً على سابقة رفعت الأسد، وإن صفقةً جديدة ستُعقد بين العائلتين، وربما تشمل رامي نفسه، ولكن خارج سورية؛ ففي الأخيرة، لم يعد لائقاً، أن يُعاد نجمه كما كان، حيث كلفة الخروج على الإعلام كبيرة، والعفو يتطلب فعلاً كبيراً، أقله النفي، وهو المرجّح. الحل هذا يشدُّ من أزر عائلات السلطة، وهي تمرُّ في أسوأ مرحلة بتاريخها، وفي الوقت نفسه، يسمح باستمرار العلاقات الخفيّة والسريّة بين العائلتين: الأسد ومخلوف، ويسمح كذلك لعائلاتٍ جديدة، بالاستفادة من السلطة، ونزع الاحتكار الكبير لآل مخلوف عن اقتصاد سورية.
يحاول الأسد بذلك ترميم وضعه هو بالذات، حيث الصفقات بين روسيا وأميركا وأوروبا، وحتى إيران وتركيا، تتناول بقاءه، وأن كل الوضع السوري مرتبط به. ولكن إذا كان ترميم ما عَطُبَ بين عائلات السلطة ممكناً، فما حدث بأحوال سورية يتطلب رؤيةً مختلفةً وسياسات مختلفة، وتبدأ برؤية الواقع جيداً، وما أصبح عليه من احتلالاتٍ، تفرض شروطها على الرئيس ذاته، وعلى أدواته السياسية، العسكرية والأمنية، وكذلك خروج أكثر من ثلث سورية عن سيطرة النظام، وتقع تحت الاحتلال التركي مباشرة، أو الأميركي، والأسوأ أن الاحتلالين، الروسي والإيراني، يمسكان بالسلطة، ويفاوضان بقية الاحتلالات، وليس فقط بما يخصّ سورية، بل وبما يخص مصالحهم الإقليمية والدولية. إذاً لم يعد باليد شيء!
هل يستطيع النظام رؤية ذلك؟ لم يعد النظام متماسكا، بعد تعاظم الدورين الروسي والإيراني، في تقرير شكل سلطته، وكيفية إدارته شؤون سورية. ولم يعد في مقدوره أن يضع سياسات مستقلة لمستقبله، وهو محقٌّ بأن يرى مستقبله مرتبطاً بالروس والإيرانيين؛ هذا الوضع بالذات هو ما يمنعه من التفكير بسياساتٍ مستقلة، وهو ما يهدد مستقبله في آن واحد. وعلى الرغم من ذلك، حاولت روسيا بالتحديد، سنواتٍ متتالية، عبثاً، تعويمه، واخترعت له مساري الآستانة وسوتشي والصفقات القذرة لمناطق خفض التصعيد، ولاحقاً اللجنة الدستورية، ورفضت عروضاً دولية متعدّدة، علنية وغير مباشرة، تفترض تغيير رأس النظام وبعض سلوكياته، وأن ذلك سيقابله إشراف روسي، أقرب إلى الانتداب على سورية؛ أميركا وأوروبا، هي التي قدّمت صفقاتٍ كهذه، ولكن عبثاً.
السياسة الروسية القائمة على أن النظام سيعاد إنتاجه، تُقابَل بما ذكرت، وبسياسة الصبر الاستراتيجي، الأميركية خصوصا، وأن عدم تنفيذ روسيا الشروط الأميركية سيعمّق الشروخ السورية، وربما يغير السياسة الأميركية حيال فكرة الإشراف. وهناك قانون قيصر، وأخيرا عقود النفط مع قوات سورية الديمقراطية (قسد) والتطبيع بين الإمارات وإسرائيل، وسواها كثير؛ روسيا بكل هذه السياسات تخسر أوراقاً جديدة باعتمادها سياسة التعويم تلك.
ضعف دور المعارضة، وترهلها، ورداءة ممارساتها، تعطي قوةً للنظام، فيظهر وكأنّه هو الشرعي. والأفضل؛ لنلاحظ قصة تبديل الطرابيش، بين نصر الحريري، الذي كان رئيساً لهيئة التفاوض وصار رئيساً للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وحدث العكس مع أنس العبدة. أيضاً لنر مسألة “تعطيش الحسكة”، وتحميل ذلك للفصائل التابعة لتركيا، وكذلك تعميم النظام حملةً واسعةً ضد التعطيش، والغرض من خلفها أن النظام وحده يضمن إرواء الحسكة وبقية المدن، وأن “قسد” والفصائل فاشلة بامتياز، ولا تهتم بشؤون الناس. قضية التعطيش هذه، تدخلت فيها أميركا وتركيا وروسيا، فأين النظام الوطني والمستقل؟ طبعاً هناك مسلّمة أن الحياة في إدلب كارثة حقيقية. يحاول النظام بذلك تعويم نفسه، والأنكى أن المعارضة التي تدّعي سيطرتها على مناطق واسعة، كجرابلس وعفرين والباب وإعزاز وسواها، ولديها حكومة مشلولة، أثبتت فشلاً مهولاً في آليات سيطرتها؛ فحياة الناس في تلك المناطق عرضةٌ لكل أشكال الفوضى، بما فيها القتل والاعتقال العشوائي والنهب، وهناك الالتحاق المنحطّ بالأتراك.
إذاً، تتأتّى عناصر قوة النظام من رداءة سياسات المعارضة، ومن الخلاف العميق في السياسات الدولية والإقليمية إزاء مصيره، وكيفية إيجاد بديل عنه. وعدا ذلك، الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تتضاعف، وفيروس كورونا يفتك بالمدن، وليس من وقايةٍ أو علاجٍ طبيِّ يعتد به. “الطقوس” السياسية المكرّرة في ممارسات النظام، وأنه شرعي؛ كانتخابات مجلس الشعب، أو إقالة حكومة وتعيين بديلة عنها، كما تمّ أخيرا، وكذلك المشاركة في نقاشات اللجنة الدستورية في جنيف؛ أقول، كلها لا تفيد شيئاً، والأسوأ أن ليس فيها أية أبعاد جديدة في سياسات النظام، أو تلمس أن الوضع السوري أصبح كارثياً بجدارة، وأن تغييره غير ممكن عقودا طويلة. الاحتلالات ستتبادل المصالح على حساب السوريين، والحروب التي اندلعت، أو قد تندلع، ستزيد المأساة كارثيةً عمّا تحقّق، وستكون بإشراف تلك الاحتلالات!
هل ينجح الأسد في تثبيت سلطته عبر تجسير الخلافات بين عائلات السلطة؟ العوامل المذكورة أعلاه قد تساعد في تأجيل حسم مصيره، ولكن ليس لوقتٍ طويل، والاستمرار في ممارساته ذاتها يضيّق الخناق عليه. الأسوأ بالنسبة له أنه غير قادر على تغيير خياراته، وتبنّي خيارات جامعة للسوريين، وهو حال المعارضة الفاشلة. ومثالنا هنا الفشل الكامل للتفاوض في اللجنة الدستورية، وقبله فشل كل أشكال التفاوض بين الطرفين.
يرمّم النظام ذاته في اللحظة الراهنة في الوقت الضائع. وفشل المعارضة وانعدام وزنها الإقليمي والعالمي، لن يزيداه قوةً ولن يعوماه بحالٍ من الأحوال. إن مستقبل النظام والمعارضة وسورية أصبح كلّه بيد الاحتلالات بكل مرارةٍ وبساطة.
المصدر: العربي الجديد