
من دولة الاحتلال إلى نيويورك وباريس، تلقّى الصهاينةُ صدمةً عنيفةً لم يتخيّلوها، صدمة ربّما لم تخطر قط على بال أحدٍ منهم، ولا على بال كثيرين ممَّن يدعمونهم، أن السرديّة الفلسطينية تنتشر بسرعة في كل مكان، لتحرق السردية الصهيونية المُؤسَّسة على المظلومية وعلى الأكاذيب التي يتفنّن عقل سارق الأرض في استنباطها. رأى العالم، عبر شاشات التلفزة، مسارعة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، الذي يدير شخصياً ملفّ “الهاسبارا” (فنون الدعاية)، حالما أنهى خطابه في الأمم المتحدة في نيويورك، إلى دعوة 20 مؤثّراً، وبدأ العمل معهم فوراً لإيجاد الطرق والوسائل السريعة لتفادي التدهور المتسارع لصورة الاحتلال، وتجميل صورته المتهرئة في الرأي العام الأميركي خصوصاً، وفي العالم عموماً. وفي الزيارة نفسها، طلب نتنياهو من الرئيس ترامب تسهيل شراء صديقه المليونير الصهيوني الأميركي لاري إيلسون، صاحب شركة أوراكل، جزءاً من منصّة تيك توك، التي يعتبرها مجرم الحرب السبب الرئيس في احتراق صورة كيانه لدى الرأي العام العالمي، وهو ما تمّ له.
الأخطر من هذا كلّه دعوة ميريام شيلدون، أرملة الملياردير صاحب كازينوهات لاس فيغاس، إلى مؤتمر يشارك فيه كلُّ النُّخب الصهيونية، والساسة المموّلون من “أيباك”، ونخب المعاهد والدراسات، لتشخيص ما حدث، وإيجاد السبل لدحض السردية الفلسطينية وإعادة قصص دولة الكيان الصهيوني وأساطيرها، ةالتي تفكّكت خلال عامَيْن بفضل صمود أهلنا في غزّة وتضحياتهم، وبسالة مقاومتهم التي حرّكت المشاعر والقلوب حول العالم، ودفعت العقول إلى الاستيقاظ والعودة إلى الصواب، وإلى التاريخ الحقيقي وأصل الصراع.
حضر المؤتمر إيلان كار، رئيس المجلس التنفيذي الإسرائيلي – الأميركي، وهيلاري كلينتون، إذ قال كار إن إسرائيل حقّقت انتصارات ضدّ أعدائها، ويجب أن تفعل بالداعمين لأعداء إسرائيل في الداخل والخارج ما تفعله في فلسطين. ليصبح هذا المقطع من المؤتمر المقطعَ الأكثر تداولاً في منصّة إكس، وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، إذ كانت له أصداء غير متخيّلة من التشارك والتعليقات وإثارة مواضيع للنقاش، وحقائق واتهامات تُدين دولة الكيان أكثر فأكثر، وتتهمها بقتل شارلي كيرك، الناشط الإنجيلي الذي انقلب على داعميه الصهاينة بسبب غزّة، وتنفيذ اغتيالات في أميركا لكل من يعارض سرديتها. بل إن الشبكات عجّت بمواجهة إيلان كار وهيلاري كلينتون، التي تحدّثت بخيبة عن خسارة السردية الإسرائيلية في أميركا، وخسارة هذا الجيل الأميركي، وحتى الشباب اليهودي الذين انضمّوا بقوة إلى دعم فلسطين وغزّة منذ عامَيْن. وبغضب، طرح آلاف الشباب سؤالهم: من أنتم كي تفرضوا علينا كيف نفكّر ومن ندعم؟ وهو من الأسئلة نفسها التي يطرحها تاكر كارلسون منذ عامَيْن، ومعه كانديس أوينس وماكس بلومنثال وغيرهم كثيرون ممَّن ينشطون بفعّالية هائلة، تدكّ كلماتهم، وما يفضحونه، جدران السرديات الصهيونية في الوسط الإنجيلي، كما لدى الشعب الأميركي، لتهدمها الواحدة تلو الآخر في مشهد لا مثيل له، ما أفقد حكومة الاحتلال وداعميها في أميركا وأوروبا صوابهم، لأنهم يعرفون أن فقدان السردية الصهيونية لحساب الحقيقة الفلسطينية هو نهايةٌ لمشروعهم ودعاياتهم وثقلهم ومصداقيتهم، خاصّةً في أميركا وأوروبا، أهم داعميهم.
فقدت حكومة الاحتلال وداعميها في أميركا وأوروبا صوابهم، لأنهم يعرفون أن فقدان السردية الصهيونية لحساب الحقيقة الفلسطينية هو نهايةٌ لمشروعهم ودعاياتهم وثقلهم ومصداقيتهم
وفي باريس، جاءت الهجمة الإعلامية الشرسة من استطلاع قام به المعهد الفرنسي للرأي العام (إيفوب). والاستطلاع مجموعة من المواضيع التي سبق للصهاينة استخدامها مراراً لتشويه سمعة المسلمين وتجريمهم، وتخويف الفرنسيين منهم، والتحريض عليهم، وتأجيج الكراهية والعنف ضدّهم. والغريب أن تكرار إثارة هذه المواضيع ونتائجها يمرّ مرورَ رسالة في البريد، كما يقول المثل الفرنسي، من دون تمحيص ولا احتجاج على منهجية الاستطلاع الذي يجرّم المسلمين، وبالأخصّ شبابهم الذين خرجوا لدعم غزّة وفلسطين منذ الانتفاضة الثانية، وخاصّةً في أحداث 7 أكتوبر (2023). شمل الاستطلاع، وهذا غريب وربّما يكون للمرّة الأولى وعن قصدٍ مع سبق الإصرار، توجيه الأسئلة إلى فئة عمرية من 15 إلى 24 سنة، في حين أن أيّ جهة رصينة ترغب بعمل دراسة أو استطلاع تختار فئات فوق الثامنة عشرة، لأن عمر 15 سنة يُعدّ في فرنسا، كما في العالم، قاصراً وغير مؤهّل لإبداء الرأي في أمور جدّية مثل السياسة. أضف إلى ذلك المُستهدَفين من سكّان الضواحي الفقيرة والبسيطة التي لا تدرك بعد تسييس مثل هذا الاستطلاع لصالح أهداف الكيان الصهيوني.
ومع نحو ألف مُستطلَع، تخرج هذه الدراسة المشبوهة، التي طُلب إعدادها من شخص يدعى عثمان تازكرات، وهو قبائلي يدير مجلة محدودة التوزيع اسمها “إيكران فيل” (شاشة المراقبة)، بحسب ما نشرته صحيفة لوموند، التي كشفت تمويلاً إماراتياً للاستطلاع، وكذلك فعل موقع ميديابارت، وغيرهما من الذين استهجنوا هذا الاستطلاع لأنه يستهدف المسلمين، ويخلط عمداً بينهم وبين المواضيع التي يطرحها لاتهامهم بالجهادية والإسلاموية ودعم التنظيمات المُتطرِّفة، وتعاطفهم مع الإخوان المسلمين، ونشر نسب المسلمين الذين يصومون ويصلّون، ومن يأكل لحم الحلال أو لا يأكل، أو من هو مع الحجاب أو ضدّه، ليستنتج الاستطلاع زيادة نِسَب ممارسة المسلمين لشعائرهم، وكأنّ ممارسة الشعائر الدينية أمرٌ ممنوع، وليس من حقّ المسلمين أن يمارسوا شعائرهم مثل غيرهم من أصحاب الأديان في بلد علماني اختار العلمانية لتمارس الأديان شعائرها بحرية كاملة من دون خوف. هذه هي قيم هذه الجمهورية، التي يريد بعضهم أن يتمتّع بها جزء من الشعب الفرنسي من غير المسلمين، في تعامل استعماري وعنصري يعاقب عليه القانون الفرنسي، لحسن الحظ. وقد أرسلت إحصائية إلى الكيان الصهيوني من جمعية يهودية فرنسية تعطي المعلومات نفسها، إضافة إلى قوائمَ بأسماء المسلمين المُسجَّلين ناشطين، حصلت عليها في خرقٍ قانونيٍّ خطير.
تفكّكت قصص دولة الكيان وأساطيرها خلال عامَيْن بفضل صمود أهلنا في غزّة وبسالة مقاومتهم
لم يتوقف الأمر عند هذا الاستطلاع الذي استقبله الرأي العام بغضب، ما عدا الصهاينة وجيوشهم العنصرية، فقد دفع نشره لوران فوكيز (النائب عن حزب الجمهوريين اليميني) إلى انتهاز الفرصة الثمينة مع قرب انتخابات عام 2027، لتحشيد الرأي العام الفرنسي للتصويت لليمين، وليس لحزب فرنسا الأبية، الداعم لنضال الشعب الفلسطيني وحريته. وقدّم مقترحَ قانون لتعديل قانون سابق ضدّ المسلمين، يُمنع بموجبه الحجاب للفتيات أقلّ من 16 سنة في الفضاء العام، ويُمنع ذووهن من السماح لهنَّ بذلك. ومثل هذا الاقتراح، كما كثير من القوانين التي اقتُرحت وصُوّت عليها، هو نوع من “الخرق الحمراء” التي يُلوَّح بها للمواطنين الفرنسيين لتخويفهم والتحريض عليهم. وقد دفع ذلك النائب نفسه أيضاً إلى استهداف زعيم حزب فرنسا الأبية، المطلوب رأسه من الصهاينة بسبب موقفه من غزّة والحرب عليها، ليُستجوَب في لجنة حكومية خاصّة حول ما يسمى بـ”التغلغل الإسلامي” في بعض الأحزاب الفرنسية والحياة السياسية للبلاد، إثر تقرير صدر في مايو/ أيار الماضي عن هذا الأمر، إضافة إلى الاستطلاع المذكور أعلاه. واعتبره الإعلام اليميني المتطرّف والفاشي “نهاية فرنسا” ونظامها، في تهويل وتضخيم على طريقة وزير ألماني سابق. إعلام هزيل لتفاهته وكذبه وتأويله التقرير نفسه، الذي لا يشير إلى أيّ تغلغل. إن التضخيم الإعلامي وتشويه صورة المسلمين عمل مدروس أصبح ممنهجاً منذ سنوات، بشهادة صحافيين عاملين في هذا الإعلام اليميني واليميني المتطرّف المتصهين، إذ أدلى أحدهم بشهادة عن ذلك بقوله إن رئاسة التحرير تقول له: نريد “المسلم، المسلم، المسلم”، من أجل إحداث ضجّة إعلامية جديدة ضدّ المسلمين، وإلهاء العامّة لإخفاء أزمة حكم عميقة يعيشها الرئيس ماكرون والأقلية الحاكمة اليوم، التي وصلت مصداقيتها إلى أدنى مستوى، خاصّةً مع القضية العائلية للرئيس التي انفجرت أخبارها في العالم.
إزاء ذلك، كان استجواب زعيم “فرنسا الأبية”، جان لوك ميلانشون، درساً كبيراً في تاريخ فرنسا المليء بعدم التسامح الديني واضطهاد الأقليات الدينية المسيحية واليهودية قروناً، ودرساً في التنوير الذي أسّس له المسلمون في الأندلس، كما قال ميلانشون، على يد من يسمّيه فلاسفة فرنسا بـ”المعلم الفيلسوف”، ابن رشد، الذي وضع أول لبنات الفصل بين المُقدَّس والدولة، والذي ألهم فرنسا خصوصاً، وأوروبا لاحقاً. ثم فنّد ميلانشون الإسلاموفوبيا والتشريعات المُجحِفة المتعلّقة بالإسلام، موضّحاً بطريقة علمية، ومن خلال الخبرة الشخصية، والعيش في عائلة مسيحية كانت ترتدي الحجاب كما كان يحدث في أوروبا قبل عدّة عقود، أن ذلك تعبير ديني عالمي موجود في كل الديانات، متسائلاً أخيراً: “ماذا تريدون أن تفعلوا في هذا الجانب، خاصّةً أن بلدنا قد فهم ذلك مبكّراً وتحاشى مشاكله بجعل الدولة علمانية غير ملحدة، تحترم كل الشعائر الدينية من دون استثناء؟”.
ما زال طوفان السردية الفلسطينية جارياً، يجرف الأكاذيب تلو الأكاذيب
أمّا الأسئلة الأخرى التي حُضِّرت له من أتباع الكيان عبر النواب، فكانت حول موقفه من غزّة واتهامه بمعاداة السامية، ليجيب النائب بأنه كانت له مواقف تنفي عنه هذه الاتهامات بقوة، وهو الذي تعرّض لمحاولة اغتيال في التظاهرات من أجل فلسطين مرَّتَيْن، حُكم على أصحابها بالسجن 18 عاماً، وعشر سنوات للجاني الآخر، من دون أن يتهم علناً أيَّ حزب. لقد تابع أكثر من مليون فرنسي هذا الاستجواب الفاشل لتشويه زعيم حزب فرنسا الأبية من نواب اللجنة، الذين سألوه حرفياً أسئلة اللوبي التي أصبحت معروفةً للجميع، من دون أن يدركوا أنهم في الحقيقة يبدون للرأي العام منبوذين بلا قيمة، لكذبهم وتشويههم كل من يدعم الشعب الفلسطيني.
قبل “7 أكتوبر” ليس كما بعده. كان نتنياهو وأصدقاؤه مليارديرات نيويورك منتشين بانتصارات التطبيع المُذلَّة التي قادها بعضهم في منطقتنا، فرحين بشراء الذمم في الولايات المتحدة لإعطائهم المزيد من أراضي فلسطين في الضفة الغربية، وفي الجولان ولبنان والأردن، لتشكيل “إسرائيل الكبرى”، ليسدل الستار الإجرامي على الاحتلال ويُطوى تاريخ فلسطين إلى الأبد. لكن من التدمير والإبادة وقتل الأطفال والنساء، ومن تضحيات شعبنا الفلسطيني الصامد المقاوم، وُلد التضامن العالمي الرائع المليء بالإبداع، لتتكسّر الرواية الإسرائيلية يوماً بعد يوم. ربّما لن يفيدها حتى مبلغ المليار دولار الذي خصّصته لها الميزانية الحكومية الإسرائيلية قبل أيام، لأن طوفان السردية الفلسطينية ما يزال جارياً، يجرف معه الأكاذيب تلو الأكاذيب، إلى طلوع فجر حرية فلسطين لتشرق على العالم.
المصدر: العربي الجديد






