الفساد وارتفاع الأسعار. يحبطان محاولات إعادة الاعمار في سورية

منصور حسين

بينما يشتكي النظام من أن العقوبات الغربية المفروضة عليه تؤدي إلى تعثر إطلاق عملية إعادة الإعمار في سوريا، تكشف المعطيات عن وضع هذا النظام العراقيل أمام التجار ومتعهدي البناء المحليين، والمواطنين الراغبين في إعادة بناء ممتلكاتهم المدمرة بسبب الحرب، من خلال رفع أسعار مواد البناء المنتجة محلياً، ومنع الاستيراد وتعزيز هيمنة المتنفذين من رجالات النظام على السوق، بالإضافة إلى تزايد عمليات تهريب هذه المواد رغم الحاجة الماسة لها.

وزارة التجارة الداخلية في سوريا قررت مؤخراً رفع سعر طن الاسمنت بنسبة 40 في المئة، ليصل إلى 70 ألف ليرة، ورغم تبريرها القرار ب”محاولة خلق توازن بين سعر التكلفة والمبيع”، إلا أن زيادة الطلب على المادة مقابل انخفاض الانتاج المحلي وازدياد حركة التهريب إلى العراق، إضافة إلى عوامل أخرى، قد ساهمت برفع سعر الاسمنت.

وتعرضت المؤسسة العامة لصناعة الاسمنت إلى ضربات كبيرة أتت على غالبية منشآتها خلال السنوات التسع الماضية، ما أدى إلى تراجع إنتاج القطاع العام إلى مليون طن سنوياً، والقطاع الخاص إلى مليوني طن، بعد أن كان الإنتاج السنوي يزيد على 5,6 مليون طن. ولم تحقق محاولات النظام استجرار عقود استثمار لتنمية المؤسسة أي تقدم، نتيجة العقوبات الأميركية على النظام والسيطرة الايرانية على منشآتها، وهيمنة شخصيات نافذة في النظام على السوق الذي شهد هجرة كبيرة من المنتجين والتجار بسبب ذلك.

الفساد وهيمنة الميليشيات
ورغم أن العقوبات الأميركية والأوروبية المشددة، التي فُرضت على نظام الأسد، قد أسهمت بانسحاب العديد من الشركات، وعلى رأسها الشركات الصينية، من سوق الاستثمار في مجال البناء وإعادة الإعمار، خشية تعرضها للعقوبات، إلا أن ما سبق لا يُعتبر السبب الحقيقي في الإضطراب التي تشهده السوق المحلية على هذا الصعيد.

فقد تراجعت شركة “سينوما أوفر سييز ديفيلوبمينت” الصينية  النشطة في الشرق الأوسط، والتي تُعتبر من أكبر الشركات المتخصصة بمواد البناء، عن خطتها للاستثمار في مصانع الاسمنت السوري، رغم توقيعها اتفاقاً مع حكومة دمشق من أجل إعادة تأهيل ثلاثة من أكبر مصانع الاسمنت في سوريا، وهي معامل عدرا وطرطوس وحماة، إضافة إلى انسحاب شركة “النسر الذهبي” الصينية المصنعة لآلات ومعدات البناء عن تزويد المصانع بالآلات الجديدة، وهو ما أرجعه مراقبون إلى الخشية من العقوبات الغربية.

لكن الخبير الاقتصادي السوري الدكتور أسامة القاضي يرى أن السبب الحقيقي لارتفاع أسعار مواد البناء في سوريا وهرب المستثمرين المحليين والأجانب هو الفساد المستشري والهيمنة على هذا السوق من قبل حلفاء النظام، وخاصة روسيا.

ويضيف “ربما يكون انسحاب الشركة الصينية وإغلاق المؤسسات المحلية التابعة للقطاع الخاص خطوة تمهيدية لدخول شركة (ناش برويكت) الروسية التي أبدت استعدادها في كانون الثاني/يناير عام 2018 للدخول في مجال صناعة الحديد والاسمنت، وعرض في حينها نائب مدير الشركة ألكسندر إياشين لمجالات عمل الشركة ورغبتها في المساهمة في مرحلة إعادة الاعمار في سوريا، من خلال إقامة مصانع في مجال صهر الحديد وإنتاج البيليت وقضبان التسليح”.

لكن الأرجح، حسب القاضي، أن الفساد هو سبب التضييق على مصانع الحديد والاسمنت في سوريا، واحتكار النظام ومنظومة فساده لتلك الصناعة، من خلال فرض أتاوات كبيرة على الصناعيين، وبسبب ذلك أعلن في كانون الثاني 2019 أكثر من 30 معملاً ومنشأة صناعية كبيرة ومتوسطة مختصة بانتاج مواد البناء إغلاق أبوابها، نتيجة ضغط وتسلّط مليشيات النظام على أصحاب المنشآت منذ منتصف العام 2018، حين فرضت عليها ضرائب ترسيم مرتفعة على عمليات توريد وشراء الخردة اللازمة لتشغيل معامل الحديد، وفي مقدمة هذه الميليشيات الفرقة الرابعة.

التهريب الجائر
وقائع وإجراءات جعلت السوريين الراغبين بإعادة إعمار منازلهم بالاعتماد على أنفسهم ومواردهم الخاصة يتوقفون عن تنفيذ خططهم بهذا الصدد، ما جعل السوق المحلية تشهد ركوداً متوقعاً لكن من دون أن يتوقف الطلب المتزايد على المادة في السوق السوداء.

معادلة غريبة لكنها منطقية بالنظر إلى توسع عمليات التهريب وخاصة إلى العراق، الذي يعتبر الوجهة الأكثر استجراراً لمادتي الاسمنت والحديد المصنعتين في سوريا.

وتشهد الحدود السورية العراقية مؤخراً كثافة في توافد الشاحنات المحملة بالاسمنت لنقله إلى الجانب العراقي عبر معابر غير رسمية، قرب محافظة دير الزور تسيطر عليها مليشيات ايرانية وعراقية من الجانبين، وذلك بعد توقف حركة التهريب بين مناطق النظام و”قسد” من خلال المعابر المائية.

ارتفاع أسعار مواد البناء
التبرير الحكومي لقرار رفع أسعار مواد البناء الأخير بأنه يأتي كمحاولة لخلق حالة من التوازن بين التكلفة التي تقارب 48 ألف ليرة وسعر المبيع الذي كان 47 ألف ليرة، لم يقدم أي ضمانات بوصول المادة إلى الحرفيين أو المواطنين بالسعر المعلن عنه، لاسيما بوجود شخصيات نافذة تسيطر على العقود الخاصة بالبيع، وتعتبر المورد الرئيسي للمادة في السوق السوداء.

وبسبب ذلك، فإن الأسعار الحقيقية لمادة الاسمنت في السوق المحلية تتجاوز المعلن عنه بكثير، مثلها أيضاً مثل أسعار مادة الحديد، إذ يباع طن “المبروم” حالياً بنحو 1.6 مليون ليرة، وبشكل عام فإن سعر طن الحديد ارتفع بنسبة 315 في المئة مقارنة بأسعار 2018.

وكانت اللجنة الاقتصادية في حكومة النظام قد منعت استيراد حديد البناء (اللفائف الأملس والمحلزن)، مرجعة الأسباب إلى حماية الصناعة الوطنية ووجود إنتاج محلي وفق معايير عالمية، إضافة إلى إيقاف بيع مادة الاسمنت من خلال البطاقة الشخصية وحصره بأصحاب الرخص.

وتعتبر مادة الاسمنت التكلفة الأساسية في عملية البناء، وقد ساهم ارتفاع سعرها في السوق السوداء من 120 ألف ليرة إلى 140 ألف ليرة بعد قرار الحكومة الأخير، إلى زيادة أسعار باقي المواد التي يدخل الاسمنت في تصنيعها بنسبة 20 في المئة، إضافة إلى ارتفاع أسعار العقارات بنسبة 10 في المئة في المناطق الشعبية و20 في المئة في مناطق المشاريع السكنية.

ويقول عدد من متعهدي البناء في مناطق سيطرة النظام ممن تواصلت معهم “المدن” إنهم يعتمدون على العلاقات الخاصة والسوق السوداء لتأمين حاجتهم من الاسمنت والحديد ومواد البناء الأخرى، خاصة وأن القطاع الحكومي لايؤمن سوى 30 في المئة فقط من حاجة السوق، وهي نسبة يتم توزيعها عبر مراكز شركة عمران، لكن الجميع يعرف أن عقود هذه الشركة محصورة بعدد من رجال النظام الذين يفرضون بيعها بالسوق السوداء بأسعار مرتفعة، أو يعملون على تهريبها إلى دول الجوار ومناطق سيطرة “قسد”.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى