الاعتراف والاشتراطات الأميركية.. مفترق طرق بالعلاقات مع سوريا

بشار الحاج علي

منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لم تعد العلاقات السورية – الأميركية تدار وفق قواعد ما قبل التحول. دخلنا مرحلة جديدة، عنوانها الحذر الأميركي، ومفرداتها تجريبية، تراقب وتختبر وتُبقي على الباب مواربًا دون أن تفتحه بالكامل.

في هذا السياق، يمكن فهم الخطوة الأميركية الأخيرة المرتبطة بوضع بعثة سوريا الدائمة في نيويورك، والتي تتجاوز مسألة تأشيرة دبلوماسية لتكشف عن موقف سياسي غير معلن بعد، لكنه يتبلور بهدوء وثبات.

من التأشيرة إلى الرسالة الحديث عن تغيير نوع تأشيرات أعضاء البعثة السورية من فئة G1 إلى فئة G3 قد يبدو تفصيلاً تقنيًا، لكنه في واقع الأمر يعكس موقفًا قانونيًا وسياسيًا بالغ الدلالة.

فالفئة الأولى تُمنح لبعثات الدول التي تعترف بها واشنطن رسميًا، في حين تُخصص الفئة الثانية لممثلي حكومات لا تحظى بهذا الاعتراف.

ما جرى أن وزارة الخارجية الأميركية أبلغت بعثتها في الأمم المتحدة – في الثالث من نيسان/أبريل – بتغيير نوع التأشيرة السورية، استنادًا إلى تقييم داخلي سابق صنّف الحكومة الانتقالية المؤقتة في سوريا على أنها امتداد لهياكل غير مقبولة أميركيًا، وتحديدًا من حيث علاقتها المفترضة بفصائل مصنفة على لوائح الإرهاب.

بعيدًا عن الجدل التحليلي، فإن الوثائق والمراسلات المتبادلة بين الجهات المعنية، بما فيها وزارة الأمن الداخلي وإدارة الهجرة والجنسية، أكدت أن القرار لا يعبّر عن رغبة في القطيعة، بل يعكس تريثًا في الاعتراف الكامل، فسوريا الجديدة تُرصد حركتها، ويُسجَّل عليها، لا لها، أن تبدو مختلفة جذريًا عن كل ما سبق، وهو ما لم يتحقق بعد بما يكفي ليُبنى عليه موقف اعترافي رسمي.

ما يبدو أنه غير مكتمل حتى اليوم ليس مجرد قرار إداري أو إجراء تقني، بل إرادة سياسية تنفتح على مشاركة أوسع للسوريين في إدارة دولتهم، لا سيما في المواقع السيادية.

ما بعد السقوط

سياسة الحذر ومشاغل الاعتراف منذ خروج إيران وسقوط النظام السابق، والحكومة السورية الجديدة تحاول أن تؤسس لتوازن داخلي وخارجي دقيق، يعكس انتقالًا حقيقيًا للسلطة وتوجهاً جديدًا في إدارة الدولة، وعلى الرغم من أن رسائل الانفتاح بدأت مبكرًا – ومنها خطاب التهنئة الذي وجّهه رئيس المرحلة الانتقالية للرئيس الأميركي المنتخب – فإن الاستجابة الأميركية بقيت ضمن حدود العلاقات غير الرسمية، أو ما يُعرف بـ”إدارة الوضع” لا “الاعتراف به”.

في العمق، لا تعني هذه الخطوة الأميركية أن واشنطن لا ترى تحوّلاً، لكنها ترى أن هذا التحوّل لم يكتمل بعد، فالشروط المبدئية التي تنتظرها الإدارة الأميركية وترى أنها ليست تعجيزية، مثل الفصل الواضح عن الجماعات المصنفة، التعاون الأمني، احترام التزامات حقوق الإنسان، كشف مصير مواطنين أميركيين مفقودين، وبلورة إدارة مدنية قابلة للتعاطي الدولي.

ما ينقص الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو القرار السياسي الجريء باستبدال الواجهات القديمة التي لا تزال تمثل بقايا عهد مضى.

التأشيرة كأداة سياسية

ما جرى في نيويورك يحمل رمزية ثقيلة، فالتأشيرة الجديدة تعني انتهاء الامتيازات الدبلوماسية – من الحصانة إلى بطاقات الدخول الخاصة – وتحوّل أعضاء البعثة إلى مجرد مقيمين أجانب، وهو ليس سحبًا للاعتراف، لكنه رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لا ترى حتى الآن أن ما جرى في دمشق كافٍ لتغيير قواعد التعامل معها.

لكن في المقابل، فإن نفس هذه الخطوة تبقي الباب مفتوحًا، فبمجرّد أن يتغيّر التقييم السياسي، يمكن تعديل نوع التأشيرة، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه. أي أن الحركة الدبلوماسية ما تزال ممكنة، لكنها مشروطة، وقابلة للمراجعة بناء على أداء الحكومة الجديدة، وتحديدًا في ملف التمثيل الخارجي، والقدرة على بناء أدوات حكم موثوقة.

في جوهر المسألة.. من يُمثل سوريا؟

في هذه اللحظة، يبدو أن تجديد صورة سوريا في المحافل الدولية يتطلب أكثر من تبديل السفراء أو تصحيح لغة الخطاب، هناك حاجة لمراجعة شاملة لطبيعة التمثيل الخارجي، بحيث يُعبّر فعلًا عن سوريا الجديدة، لا عن استمرار رمزي لأدوات قديمة، أُنهكت بفعل الزمن، أو تقادمت بتغير الظروف. لكن المسألة لا تقف عند حدود السفارات، بل ترتبط بطبيعة القرار السياسي الداخلي نفسه.

ما يبدو أنه غير مكتمل حتى اليوم ليس مجرد قرار إداري أو إجراء تقني، بل إرادة سياسية تنفتح على مشاركة أوسع للسوريين في إدارة دولتهم، لا سيما في المواقع السيادية، إذ لا يمكن لتجديد الواجهة الدبلوماسية أو تحسين الأداء الخارجي أن ينجح ما لم يكن مدعومًا بخيارات داخلية تعكس روح التغيير.

والمشكلة، في جوهرها، لم تعد مرتبطة ببقايا النظام السابق فقط، بل تتصل بطبيعة السلطة الجديدة التي تميل – تحت ذريعة الحاجة إلى المركزية – إلى حصر الصلاحيات من دون وجود آليات رقابة فعّالة، ولا جدول زمني واضح لانتقال كامل وشامل.

هذا يضعف الثقة في المسار الانتقالي، ويؤجج التساؤلات حول جدية المشروع الوطني برمته، داخليًا وخارجيًا. لذلك، لا بد من فتح المجال أمام مشاركة سياسية حقيقية، تتيح تمثيلاً أوسع لمكونات الثورة السورية وكفاءاتها، في السياسات السيادية والدبلوماسية.

فالأمر لا يتعلق فقط بإرسال وجوه جديدة، بل ببناء سياسة خارجية متماسكة تعبّر عن مشروع وطني جديد، قائم على الكفاءة، والتمثيل، والشرعية الأخلاقية.

الاعتراف يُنتزع ولا يُمنح، فالاعتراف الأميركي بالحكومة السورية الجديدة ما زال رهن التفاعل، وهو لن يُمنح تلقائيًا، بل يحتاج إلى أداء سياسي ودبلوماسي رصين، يُقنع لا يُجبر، ويستند إلى ما تفعله الحكومة على الأرض أكثر مما تقوله في البيانات. إنه اختبار لنمط الحكم الجديد، وللشخصية السياسية التي تُراد لسوريا في الإقليم والعالم، والفرصة لا تزال قائمة، لكنها لن تبقى مفتوحة إلى ما لا نهاية.

وما ينقص الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو القرار السياسي الجريء باستبدال الواجهات القديمة التي لا تزال تمثل بقايا عهد مضى، رغم تغير الواقع، وتبدّل السياق، وتطلّع السوريين إلى مشاركة حقيقية تعكسهم في الداخل والخارج على السواء.

المصدر: تلفزيون سوريا

تعليق واحد

  1. هل تغيير صفة فيزا البعثة الدبلوماسية السورية بواشنطن ونييورك هي إجائية؟ أم ضغط من الإدارة الأمريكية على سلطة دمشق؟ الإدارة الأمريكية غير واضحة تجاه نظام دمشق حتى الآن، هل يتطلب من دمشق تغيير وجهها كاملة؟ أم مشاركة العهد القديم؟ أم التقرب من الكيان الصهيوني؟ لترضى عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى