إسرائيل تخشى من “بعث سوريا”

عبدالله مكسور

منذ الثامن من ديسمبر 2024، تشهد سماء سوريا غارات إسرائيلية لا تهدأ، وتوغّلاً برياً لا يعرف الخجل. عشرات الطائرات الإسرائيلية تعبر الأجواء، لا تعترضها رادارات ولا تُقلقها خطوط حمراء، دبابات وآليات تابعةٌ للاحتلال تعبر خطوط الهدنة، وكأن الأرض مفتوحةٌ على خيانة الجغرافيا، والسماء مؤجرة بموافقة غامضة.

لكن، هل حقاً هذه الضربات هي مجرد ردع تكتيكي تمارسه إسرائيل من خلال اقتناص لحظة سوريا الضعيفة الغارقة بأزماتها؟. أم أن سوريا كانت – وما تزال – جرحاً مفتوحاً في صدر المشروع الصهيوني، وميداناً رمزياً في خريطة الهوس الإسرائيلي بالسيطرة وإعادة تشكيل الشرق؟

سوريا المفيدة لإسرائيل

لا نريد سوريا ضعيفة فقط، نريدها ميتة بفعل الزمن

هذه العبارة قد لا نجدها حرفياً في مذكرات غولدا مائير أو كتابات زئيف جابوتنسكي، لكنها تُستنبط من مواقفهما. رئيسة وزاراء إسرائيل السابقة قالت إنَّ الحدود الإسرائيلية لا تُرسم بالحبر، بل بالنار. أما جابوتنسكي، فقد كان أكثر فجاجة حين قال صراحة في مقالته الشهيرة “الجدار الحديدي” عام 1923م بأن العرب لن يقبلوا المشروع الصهيوني، لقد استخدم عبارة: “لا نريدهم أن يقبلوا، بل أن يُجبروا على قبوله تحت وطأة القوة.”

يمكن طرح السؤال بشكل مباشر: لماذا سوريا تحديداً؟ ولماذا الآن؟ سوريا بالنسبة لإسرائيل ليست جاراً، بل حجراً في رقعة الشطرنج الصهيونية، هذا ما على السوريين والسوريات إدراكه بشكل واضح ولا لبس فيه. فتاريخياً، لم تكن سوريا بالنسبة للمشروع الصهيوني مجرد دولة مجاورة، كياناً عابراً يمكن التعايش معه، بل كانت مركزاً معنوياً واستراتيجياً في تصورات الصهيونية منذ ما قبل إعلان دولة إسرائيل. هذا يظهر بشكل جلي في الخطاب الصهيوني المبكر، فقد كانت سوريا تُصوّر بوصفها جزءاً من “إسرائيل الكبرى”، وهي فكرة لم تُمحَ تماماً من الخيال السياسي لأوساط اليمين واليسار الإسرائيليان.

تاريخياً، لم تكن سوريا بالنسبة للمشروع الصهيوني مجرد دولة مجاورة، كياناً عابراً يمكن التعايش معه، بل كانت مركزاً معنوياً واستراتيجياً في تصورات الصهيونية منذ ما قبل إعلان دولة إسرائيل

الوثائق الصهيونية

الوثائق الصهيونية في مطلع القرن العشرين، خصوصاً مراسلات حاييم وايزمن مع البريطانيين، تكشف أن سوريا بجغرافيتها الحالية كانت هدفاً بعيداً واستراتيجياً بذات الوقت، حدث هذا في لحظة مفصلية كانت فيها الخرائط تُرسم على طاولات لندن وباريس بالحبر. الوثائق تكشف أيضاً عن رغبة من الطرف العربي حينها في التعاون مع المشروع اليهودي في فلسطين شريطة قيام دولة عربية واسعة تشمل سوريا والعراق والحجاز، هذه الملاحظة كُتِبت باللغة العربية تحت بنود الاتفاق المشار إليه.

بناء على ما سبق يمكن القول إن الصهيونية المبكرة رأت في سوريا مركز الثقل في الشام، ومفتاح التوازن في الهلال الخصيب. فمن يملك دمشق، يملك مفاتيح النفوذ على تخوم فلسطين ولبنان وأبواب العراق. ومن يُخضع دمشق، يُخضع القاهرة عن بُعد، ويراقب أنقرة من علٍ.

 وإن تأخّر هذا المشروع عن الظهور أو التحقق إنما يعود لأسباب كثيرة. مع حضوره بشكل دائم ففي مذكرات موشيه ديان يقول: “من مرتفعات الجولان نسمع صوت دمشق تخفق كقلب”

لم تكن حرب 1967 فقط لحماية “حدود إسرائيل” وفق السردية الإسرائيلية، بل كانت ـ كما دوّن موشيه ديان ـ خطوة استراتيجية لفرض معادلة ردع تُقصي دمشق من معادلة التأثير الإقليمي. وأستحضر هنا ما كتب ديان في مذكراته: “سوريا خطرٌ لأنها لم تتوقف عن الحلم. كانت تدعم الفدائيين، وتبث الدعاية، وتُبقي بندقيتها مشتعلة في الليل. كان لا بد من كسر عنقها من الهضاب.”

واستمر الكسر. فبعد سيطرة إسرائيل على الجولان، تحولت المنطقة إلى قاعدة للمراقبة والتجسس على كامل الجغرافيا السورية. ومنذ عام 2011، ومع اندلاع الثورة السورية، أدركت إسرائيل أن اللحظة التي انتظرتها الصهيونية منذ عقود قد حانت. فالفوضى السورية ليست تهديداً في عين إسرائيل، بل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الواقع السوري والإقليمي ربما، وفق ما يناسب أمن تل أبيب ونفوذها وهيمنتها.

لم تعد إسرائيل تخشى من الدولة السورية كما كانت عقب النكبة الفلسطينية وحتى السبعينات، لكنها تخشى من فكرة “بعث سوريا” بعد أن تحرر السوريون من عباءة البعث

وفي هذا السياق يمكن اعتبار الضربات الإسرائيلية ليست ردعاً عسكرياً فقط بل هندسة استراتيجية، فمنذ ديسمبر 2024 وحتى اليوم، تجاوزت الغارات الإسرائيلية على سوريا الطابع التقليدي. كسرت كل قواعد الاشتباك التي عُمِل بها لزمن طويل، ووفقاً لتقارير استخبارية منشورة في الصحافة الإسرائيلية فإن الضربات لم تقتصر على شحنات سلاح إيرانية، بل شملت أيضاً مراكز تكنولوجية ومقار قيادية سورية قد تُمكّن البلاد من استعادة قدراتها العسكرية. يمكن الإشارة هنا إلى الإنزال المظلي البري في نواحي مصياف بحماة في الثامن من سبتمبر لعام 2024م أي قبل سقوط نظام الأسد بثلاثة أشهر للدلالة على اتجاه إسرائيل لتغيير قواعد الاشتباك مع السوريين.

بعث سوريا

إذاً لم تعد إسرائيل تخشى من الدولة السورية كما كانت عقب النكبة الفلسطينية وحتى السبعينات، لكنها تخشى من فكرة “بعث سوريا” بعد أن تحرر السوريون من عباءة البعث. أي أن تقوم هناك دولة مستقرة، مستقلة، قوية، متماسكة، ذات جيش وطني، وعقيدة واضحة. تلك الفكرة بحد ذاتها تُخيف وترعب المشروع الصهيوني، لأن سوريا تاريخياً، وعلى الرغم من كل تعثراتها، والإجرام الذي مارسه نظامها، ظلت ترفض التطبيع، وتُبقي على المقاومة متقدة، ولو رمزياً. يمكن في هذا المقام الإطلالة على مذكرات نائب الرئيس السوري ووزير الخارجية السابق فاروق الشرع “الرواية المفقودة” الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث يُبرِز الكتاب تعقيدات مسار عملية السلام بين سوريا وإسرائيل، ويوضِّح أن المفاوضات لم تكن مجرد لقاءات دبلوماسية، بل كانت ساحة لصراع الإرادات والمصالح. وهذه المذكرات تظلُّ شهادة حية على مرحلة مهمة من تاريخ سوريا والشرق الأوسط، وتوفر فهماً أعمق للمواقف السورية والإسرائيلية تجاه السلام والحرب وفكرة الاشتباك.

المعادلة الصعبة

 كيف تريد إسرائيل أن تكون سوريا؟ بوضوح ومباشرة إسرائيل لا تريد سوريا صديقة، ولا عدوة. تريدها شبحاً لدولة، أرضاً بلا سيادة، سلطةً مشلولة، ومجتمعاً متخلفاً منقسماً على ذاته. سوريا قوية تُخيفها، وسوريا متماسكة تُهدد مشروعها التوسعي القائم على الاستيلاء والسطو، وسوريا ذات سيادة تُقلِق الركن الأمني فيها، وسوريا قومية تُعيد تذكيرها بخطابات تشحن الجماهير. وسوريا دينية تستحضر كلّ موروث المواجهة الحتمية.

إسرائيل تريد سوريا مفتتة إلى كيانات بانتماءات ضيِّقة، كي تُصبح إسرائيل “بشكل شرعي” من هوية المنطقة والجغرافيا، متماهيةً مع كلِّ زاويةٍ فيها.

ولهذا فإن الاستراتيجية الإسرائيلية الآن هي هندسة “اللامركزية السورية” وإدارة الهشاشة السورية،  أي دعم القوى التي تُبقي على الانقسام، وفي سبيل هذا تضرب نواة الجيش الجديد، وتُجهض أي مشروع نهضوي على كامل التراب السوري. تلوِّح بحماية مكوِّنٍ سوري وتحاول أن تُظهِرَ بخبثٍ تماهيه معها، لذلك يمكن وضع الاعتداءات الإسرائيلية ليس فقط في خانة الغارات الجوية والتوغل البري المجرَّد، بل في سياق إعادة تشكيل لملامح الشرق بالكامل.

هذا التشكيل بدأ منذ وقت مبكر في الذهنية الصهيونية. ففي عام 1949م، وُقّعت اتفاقية الهدنة بين سوريا وإسرائيل في رودوس، والتي حددت خطوط وقف إطلاق النار بين الجانبين. لاحقاً، في 31 مايو 1974م، تم التوصل إلى اتفاقية فض الاشتباك، التي نصت على فصل القوات المتحاربة بوساطة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مع التأكيد على أن هذا الاتفاق الذي أتى عقب حرب تشرين أكتوبر ليس اتفاق سلام، بل خطوة نحو سلام عادل دائم كما تم توصيفه. لاحقاً ومع سقوط نظام الأسد أعلنت إسرائيل انهيار هذه الاتفاقية، وشرعت بشكل مكشوف بتنفيذ استراتيجيتها تجاه سوريا، والتي تمحورت حول إنهاء القدرات العسكرية للدولة الجديدة، ومنعها من تشكيل تهديد مستقبلي. وتجلّى هذا سلوكاً في الغارات الجوية المتكررة التي استهدفت مواقع عسكرية سورية، لم تتدمر في سنوات الثورة، بهدف منع إعادة تأهيلها، أو تعزيز أي نفوذ آخر في المنطقة بما في ذلك النفوذ التركي.

تطرح إسرائيل هنا فلسفة المناطق العازلة بوصفها جزءاً أساسياً من هذه الاستراتيجية، حيث سعت إسرائيل إلى إنشاء منطقة عازلة جنوبي سوريا، ليس فقط لإبعاد القوات السورية، بل أيضاً لتوطيد نفوذها في المنطقة ومنع حضور أي نفوذ آخر. يمكن هنا الإشارة لما نشرته يديعوت أحرونوت في مطلع شهر نيسان أبريل الجاري، عمّا وصفته قلق العقل الأمني في إسرائيل من محاولة أنقرة ملء الفراغ الناتج عن سقوط نظام الأسد، وتقديم نفسها قوة بديلة في سوريا.

هل من أفق للمواجهة؟

الإدارة السورية اليوم تقف بين أنقاض الدولة، وتحت مرمى صواريخ إسرائيلية بدعم أميركي، أسلحة دقيقة لا تُخطئ. تحمِّل الماضي نتائج كل الأخطاء والتراخي، لكنّ هامش الفعل السوري لا يزال موجوداً، ولو ببطء. ليس عن طريق تحالفات هشة مؤقتة تحكمها مصالح ضيقة بالطبع، لأن التاريخ علّمنا أن الشعوب لا تموت، وأن الخرائط التي تُرسم بالنار قد تُمحى بالماء، والحل يكمن في أن تمتلك سوريا مشروعاً جامعاً، لا طائفياً، ولا انتقامياً. والخطوة الأولى تبدأ بإعادة بناء مشروع وطني، لا يعتمد على محور بعينه، بل ينفتح على الإقليم ككل، ويعيد الاعتبار إلى الدولة ككيان جامع. سوريا لا تحتاج إلى حلفاء بالمعنى التقليدي الكلاسيكي، بل إلى مساحة فعل مستقلة، تستثمر في الذاكرة وفي الحاضر معاً، وترفض أن تُعامل كـ”جبهة منسية”.

الخطوة الأولى تبدأ بإعادة بناء مشروع وطني، لا يعتمد على محور بعينه، بل ينفتح على الإقليم ككل، ويعيد الاعتبار إلى الدولة ككيان جامع. سوريا لا تحتاج إلى حلفاء بالمعنى التقليدي الكلاسيكي، بل إلى مساحة فعل مستقلة

إسرائيل بوصفها كياناً عنصرياً استعمارياً استيطانياً توسعياً عدوانياً، لم تكن هامشاً في الوعي السوري، وسوريا لم تكن أبداً هامشاً في الوعي الصهيوني. لقد كانت دوماً عقدة، ومركز ثقل، وميدان صراع على الرموز والمعاني. واليوم، في لحظة السقوط المؤقت، تعود إسرائيل لتقول لسوريا: “لقد كسرنا سيفك” و”أعدنا معادلة الردع”، لكن ذاكرة التاريخ تقول عكس ذلك. وذاكرة الأرض لا تخون، فمن يعرف السوريين والسوريات، يدرك أنهم حين ينهضون، ينهضون كالعاصفة. والعاصفة، كما يعرف جابوتنسكي، لا تُردّ بالجدار الحديدي، بل تُسقطه!.

ينهضون وفي الذاكرة  صورة جدهم – ابن الساحل السوري- عز الدين القسام الذي أدرك مبكِّراً جداً خطر المشروع الصهيوني، فقاد ثورة في فلسطين، واستشهد بأحراش يَعبَد في قضاء جنين.

ينهضون وقد أسقطوا عائلة الأسد، ولا يتذكرون جابوتنسكي وجداره الحديدي، بل يحضر في أذهانهم إبراهيم طوقان -الذي توفي بالقدس بعد استشهاد القسام بست سنوات- صارخاً: هو بالباب واقف/ والردى منه خائفُ/ فاهدئي يا عواصفُ/ خجلاً من جراءته/ صامتٌ لو تكلَّما/ لفظ النار والدما/ قل لمن عابَ صمتَهُ/ خُلِقَ الحزم أبكما.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى