
لم يكن فوز المرشح زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك هو الحدث الوحيد الملفت في سلسلة متغيرات طرأت على المجتمعات الغربية والمجتمع الأمريكي خصوصا .. إنه وإن كان الأكثر تعبيرا عن تلك المتغيرات ؛ فقد كان في ذروة متغيرات أخرى سبقته ومهدت له سبيل النجاح وكانت أكثر أهمية وعمقا منه وذات دلالات مستقبلية أكثر جذرية فيما يتعلق بمجمل وضع النظام العالمي الرأسمالي الفاسد المهيمن وقدرته على الصمود والبقاء وإلى متى..كما تحمل دلالات جوهرية متعلقة بالمشروع الصهيوني في الوطن العربي والتحديات الوجودية التي بات يتعرض لها وتنبئ بحتمية إنهياره وإنهيار دولته الإستعمارية في فلسطين المحتلة..
من المعروف أن مدينة نيويورك هي أهم معقل لليهود في العالم من حيث العدد ومن حيث الإمكانيات والقدرة على الفعل والتأثير في مجريات الأحداث والسياسة..
تقول الإحصائيات عن إنتخابات البلدية أن نسبة عالية من يهود المدينه صوتوا لزهران ممداني..
ومن المعروف أن ممداني يجاهر بإدانته للسياسة الإسرائيلية وحرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها دولة الإحتلال بحق شعب فلسطين..فهو مؤيد متضامن واضح علني وصريح لحقوق شعب فلسطين في التحرر من الإحتلال وبناء دولته المستقلة..فهو إذن ضد ” إسرائيل ” وما تقوم به..ومع ذلك إنتخبه يهود نيويورك وهم في غالبيتهم نخبة متعلمة مثقفة وذات فعالية إجتماعية سياسية وإقتصادية..
ثم أن ممداني مسلم ..وهذا يعني أن تقبل اليهود لرئاسة مسلم يعادي دولة ” إسرائيل ” يعبر عن تغيير بنيوي في عقلية هؤلاء الذين كانوا إلى عهد قريب من الداعمين والمؤيدين ل ” إسرائيل ” على إعتبار أنها دولة قومية ليهود العالم يقوم سندها على مقولات دينية توراتية – تلمودية تستند إلى عقيدتين متكاملتين :
– الأولى : ان إله بني أسرائيل منحهم أرض فلسطين بين النيل والفرات وطنا لهم..
– الثانية : أنهم شعب الله المختار خلقهم و ” كسر القالب ” وجعل غيرهم من البشر بمثابة عبيد لهم..يحق للشعب المختار أن يستخدم هؤلاء ” الأغيار ” ويقتلهم فهو ليسوا مخلوقات بشرية متكاملة الإنتماء الإنساني بل حيوانات تستحق الذبح..
وحينما يصوت كثيرون من اليهود لزهران ممداني ، المسلم المؤيد لفلسطين وحرية شعبها ؛ فهذا يعني تخلي هؤلاء اليهود عن تلك العقيدة المستندة إلى إدعاءات دينية..ويعني أنهم لم يعودوا مؤمنين بالمشروع الصهيوني ذاته..فهو يقوم على تلك العقيدة الدينية الباطلة..وحينما يتخلى هؤلاء اليهود عن مثل تلك الأوهام العقيدية – الدينية فهذا يعني تخليهم عن دولة ” أسرائيل ” وتراجعهم عن الإيمان بها كوطن ليهود العالم يتوجب عليهم دعمه والدفاع عنه وتبرير سياساته..هنا مكمن التغيير الجذري في أسس العقيدة الصهيونية ومشروعها الإستعماري..
يؤدي هذا إلى القول أن هؤلاء اليهود قد أسقطوا من وعيهم كل المقولات التي كانت تسوقها الدعاية الصهيونية لحثهم على تأييد أعمى لدولة ” إسرائيل “..
الجانب الآخر في تلك الظاهرة – المتغيرة تتعلق بمدى تأثير لوبي الضغط الصهيوني المسمى ” آيباك “.. معروف أن آيباك كان ذا سطوة كبيرة على مجمل السياسة الأمريكية لدرجة أن أعضاء الكونغرس جميعا يقعون تحت تأثيره فلا يستطيع أحد منهم توجيه أي نقد لدولة الكيان ..لا بل أنهم يتسابقون لنيل دعمه حتى يستطيعون الوصول إلى الكونجرس وممارسة حياتهم السياسية..الذي حصل ويحصل أن نسبة ليست كبيرة من الأعضاء أو المرشحين تراجعوا عن السعي لكسب تأييد الآيباك..وبعضهم رفض تلقي أية مساعدة مادية منه..كما بات آخرون يجاهرون بإدانتهم لحرب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي تمارسها دولة ” إسرائيل ” ضد الشعب الفلسطيني..
هؤلاء جميعا أسقطوا تهمة معاداة السامية التي كانت سيفا مسلطا على رقابهم يمنعهم من توجيه أي نقد للممارسات الإسرائيلية..
أكثر من هذا ، فإن عددا لا بأس به من المتحمسين ل” إسرائيل ” والداعمين لها والمتبنين لمواقفها والمرددين لمقولاتها ؛ قد غيروا مواقفهم وإنتقلوا إلى صفوف المنتقدين لها أو المعترضين على ممارساتها او حتى إدانة ما ترتكبه من جرائم حرب في فلسطين..
وعلى الرغم من أن مثل هذه المتغيرات قد ظهرت بوضوح في السنتين الأخيرتين وتحديدا منذ عملية طوفان الأقصى وما تلاها و يصاحبها من حرب إبادة شاملة يرتكبها الصهاينة ضد شعب فلسطين ؛ إلا أن أرضية تمهيدية لها كانت تتهيأ في الأوساط اليهودية قبل غيرها..وتحديدا في أوساط نخب يهودية مثقفة بدأت تدرك كذب إدعاءات المشروع الصهيوني وكذب كل ما تأسس عليه من إدعاءات دينية وتاريخية ..راحت تلك النخب تبحث في الوقائع وفي التاريخ رغبة في معرفة الحقيقة بعدما بينت لهم الوقائع الميدانية أن ما كانوا قد تربوا عليه من أفكار تتعلق بفلسطين وشعبها والعرب وهويتهم والمسلمين وعقيدتهم ؛ ليس إلا أكاذيب وإفتراءات صهيونية تستغل الدين لتغطية مشروع سياسي إستعماري..
كان الإحتكاك بالشعب الفلسطيني من جهة وعدوانية وإجرام التعامل الإسرائيلي معه ؛ هما الدافع الأساسي لذلك البحث النخبوي عن الحقيقة بالغوص في التاريخ وفي تحليل الأحداث الواقعية الجارية..فكان هذا الأساس الموضوعي لنشوء ظاهرة : ” ما بعد الصهيونية ” التي رفع لواءها وسوق لها مؤرخون وأكاديميون ومثقفون وإعلاميون يهود ممن نشؤوا في فلسطين المحتلة وعاينوا الممارسات الإسرائيلية بالمعايشة المباشرة..بعضهم غادر فلسطين نهائيا وبعضهم بقي فيها متخليا عن الفكر الصهيوني ليصبح معارضا ناقدا له رافضا لوجوده..
كانت ظاهرة ” ما بعد الصهيونية ” تحضيرا لتبدل في وعي نخب يهودية أسفر دراسات في التاريخ والعقيدة تنسف أسس الفكر الصهيوني برمتها وتبين كذبها ..فكانت جماعة ” المؤرخون الجدد ” في ريادة تلك الظاهرة .برز منها على سبيل المثال المؤرخ إيلان بابيه مؤلف كتاب في غاية الأهمية عنوانه :
” إختراع الشعب اليهودي ” يبرهن فيه بالإثبات العلمي إنتفاء وجود شعب يهودي تجمعه هوية قومية كما تدعي الصهيونية..وأحدث كتبه : فكرة إسرائيل ويشرح فيه تطور فكرة النخب اليهودية عن دولة ” إسرائيل ” وكيف تطورت ظاهرة ما بعد الصهيونية وإلى أين وصلت..
وقد كان للدور الهام الذي أداه المفكر اليهودي الأمريكي نعوم تشومسكي في نقد الفكرة الصهيونية ومشروعها الإسرائيلي ؛ أثر بائن في تهيئة خلفية من الوعي الجديد لدى الشباب الأمريكي وخصوصا اليهودي..وفي التحضير لمنهج مختلف في رؤية الأحداث وتحليلها..
أما نخبة ما بعد الصهيونية فقد إشتملت على مئات من الأكاديميين والمفكرين والمؤرخين وحتى الإعلاميين والفنانين..وكان لهم الدور الأساسي في تغيير وعي الكثيرين من اليهود وصناعة وعي جديد لديهم يقوم على التبرؤ من السياسة الإسرائيلية وصولا إلى رفض قبول دولة يهودية في فلسطين..
وكان للممارسات الإجرامية لدولة إسرائيل خلال السنتين الأخيرتين تحديدا ؛ الدور الأكبر في تفجير غضب شعبي عارم في مجتمعات العالم والغرب وأميركا وعند كثيرين من يهود العالم وكان منهم يهود نيويورك الذين أيدوا زهران ممداني وإنتخبوه..أما المؤرخ نورمان فنكلشتاين فيتابع الأحداث منددا بشكل واع وواضح ممارسات دولة الإحتلال الإجرامية..ومن الإنصاف التذكير بأن المفكر الفرنسي روجيه غارودي كان اول من كتب كتابا بعنوان : الخرافات المؤسسة للسياسة الإسرائيلية في أواخر سبعينات القرن العشرين..يومها قامت عصابات الموساد بآحراق دار النشر التي طبعت الكتاب والمكتبة التي عرضته..أما جرأة استنكار الإجرام الصهيوني وتفكيك المقولات التبريرية للصهيونية ومهاجمة وإدانة عدوانها على شعب فلسطين ؛ فليست إلا دليلا على مدى التغيير الذي أصاب الوعي الشعبي العالمي مكتشفا عدوانية وإجرام الصهيونية ؛ نتيجة لتراكم أعمال ثقافية وفكرية وأبحاث تاريخية ساهم يهود في معظمها فكانت تحضيرا لنجاح ظاهرة زهران ممداني ..
وسط كل هذه الإيجابيات المتلاحقة ؛ يبرز غياب عربي رسمي وشعبي ؛ يتركها للزمن وللناشطين العالميين يدعمونها ويطورونها وصولا إلى إحقاق الحق بحرية فلسطين..المؤسف غياب مؤسسات منظمة التحرير وعجزها عن مواكبة هذه المتغيرات وتجييرها لمزيد من حماية حق فلسطين وحريتها..وما تراخي الموقف الفلسطيني في الخارج العالمي عن بلورة موقف وطني موحد قادر على استرداد المؤسسات الفلسطينية الموحدة ؛ إلا أزمة تنظيمية تحتاج إلى مبادرات جدية..مثلما هو الحال في الواقع الشعبي العربي..
المصدر: كل العرب






