الطريق الطويل إلى الوطن: أربعة عشر عاماً في المنفى وقبرٌ طال انتظاره

فضل عبد الغني

في مثل هذا اليوم من العام الماضي، تحررت سوريا من أحد أشد الأنظمة وحشيةً وإجراماً في التاريخ المعاصر؛ لقد مثَّل سقوط حكم بشار الأسد نهاية حقبةٍ من الرعب والإذلال. وبالنسبة إليّ، فقد كان كذلك نهايةً لغربةٍ شخصية عميقة؛ انقطاعٌ قسري في مسار حياتي بدأ في آذار/ مارس 2011، حين اخترتُ، وبلا رجعة، الوقوف إلى جانب الثورة السورية العظيمة، فخسرتُ بذلك العودة إلى مدينتي وبلدي.
لا أستطيع استحضار ذلك اليوم التاريخي من دون أن تستدعي الذاكرة جرحاً أقدم: مجزرة حماة عام 1982؛ لقد نشأتُ في مدينةٍ حملت شوارعها صمت الأحياء المدمَّرة، وغياب الآباء، وعائلاتٍ تعلّمت التعايش مع القهر والفقدان. حافظ الأسد الذي ذبح الناس، وأيضاً، دفن الحقيقة تحت الركام. ثم جاء الابن وارثاً للسلطة، حاملاً معه جهاز القمع بكامل عتاده. بالنسبة إليّ، كان نظام الأسد الوحشي واقعاً يومياً تشرّبته مدينتي قبل أن يتشكّل وعيي السياسي بزمنٍ طويل.
حين اندلعت الثورة السورية في آذار/مارس 2011، كنتُ أعرف موقفي بوضوح، انضممت إليها بوصفي إنساناً رسمت جرائمُ هذا النظام مسار حياته سلفاً؛ ومنذ اللحظات الأولى، انحزتُ إلى مطالب الكرامة والحرية وإنهاء الاستبداد الوراثي. في غضون أشهر قليلة، صرتُ مطلوباً لأجهزةٍ أمنية عدة.
تجلّى ثمن هذا لاحقاً بصورةٍ موجعة؛ ففي السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2011، رحل والدي. في الظروف الاعتيادية، يرافق الابنُ أيام والده الأخيرة، يمسك بيده، يودّعه، ويقف إلى جانب أسرته عند القبر؛ حُرمتُ من ذلك كله. لم أستطع العودة إلى حماة، ولم أتمكن من الوقوف بجانب والدتي في تلك اللحظات العصيبة. لم أشارك في موكب الجنازة، ولم أصلِّ عند القبر، ولم أضع يدي على التراب الذي أُهيل حديثاً.
في حزيران/ يونيو 2011، وفي خضم هذا الاضطراب، أسستُ “الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان”؛ وُلدت الشَّبكة من ضرورةٍ أخلاقية، استجابةً لما يتعرض له السوريون من قتلٍ واعتقالٍ وتعذيبٍ واختفاءٍ قسري في أرجاء البلاد كافة. ما بدأ مبادرةً متواضعة سرعان ما تطوّر ليصبح إحدى أبرز منظمات حقوق الإنسان السورية ومرجعاً أساسياً للمعلومات عن الانتهاكات. من خارج البلاد، شرعتُ مع زملائي في مسيرة التوثيق: سجّلنا الأسماء والتواريخ والأماكن والظروف، وجمعنا الشهادات، وحفظنا الأدلة، وأصدرنا التقارير. وحرصنا على الدقة والمهنية في بيئةٍ كان الإنكار والتشويه والمحو من أبرز أدوات النظام الأسدي فيها.
غير أنَّ عملي لم يُعرّضني وحدي للخطر؛ فبحكم دوري وحضوري العلني، باتت عائلتي هدفاً محتملاً. لقد واجهت والدتي وشقيقي الأكبر، معتز، تهديداً حقيقياً لمجرد بقائهما في سوريا بينما كنتُ أقود منظمةً تفضح جرائم النظام الأسدي أمام العالم. اضطرّا إلى مغادرة منزليهما ووظيفتيهما وحياتهما المستقرة، والانضمام إلى صفوف اللاجئين.
على امتداد السنوات التالية، تصاعد العنف إلى مستوياتٍ فاقت أسوأ مخاوفنا الأولى: حصاراتٌ خانقة، وقصفٌ عشوائي، وبراميل متفجرة، وأسلحة كيميائية، وتعذيبٌ ممنهج في مراكز الاحتجاز، ونزوحٌ جماعي غير مسبوق. امتلأت قواعد بياناتنا بمئات الآلاف من السجلات؛ كل سجلٍّ منها حياةٌ بوجهها وعائلتها ومستقبلها الذي انتهى.
في لحظاتٍ كثيرة، بدا النظام الأسدي عصياً على السقوط؛ محمياً بالشلل الدولي، وتوازنات القوى، وإرهاق العالم من “مأساةٍ سورية أخرى”؛ ظنّ كثيرون أنَّ شيئاً لن يتغيّر، وأن قبضة آل الأسد على السلطة ستصمد أطول من اهتمام العالم. ومع ذلك، واظبتُ على التوثيق والتحدث لمختلف دول العالم، وتقديم الإحاطات الدورية. كان يقيني واضحاً: حتى لو تأخرت العدالة، فإنَّ الحقيقة يجب ألَّا تُهمَل، والأدلة يجب أن تُصان، وأصوات الضحايا يجب ألا تغرق في صخب الجغرافيا السياسية.
على خلفية تلك المعاناة الممتدة والجمود الظاهري، بدا سقوط نظام الأسد أمراً شبه مستحيل، إلى أن وقع، وحين تأكّد نبأ انهيار النظام ونهاية حكم بشار الأسد، اجتاحني طوفانٌ من المشاعر المتداخلة. من ناحية، كانت تلك اللحظة التي حلمتُ بها منذ فجر الثورة: نهاية استبدادٍ وراثي حكم سوريا بالدم والرعب أكثر من خمسة عقود. ومن ناحية أخرى، كان ذلك انتصاراً شخصياً عميقاً على نظامٍ نفاني، وهدّد عائلتي، وحرمني فرصة وداع والدي.
لكن فرحتي لم تكن خالصةً ولا خفيفة الحمل؛ كانت فرحةً ممزوجة بذكرى الشهداء والمختفين والمهجَّرين. كنتُ أدرك أنَّ أي إعلانٍ، مهما بلغت تاريخيته، لن يُعيد أولئك الذين قضوا تحت التعذيب، أو طُمروا تحت أنقاض بيوتهم، أو فارقوا الحياة في المنافي متطلعين إلى عودةٍ لم يُكتب لهم أن يشهدوها. لم يمحُ سقوط النظام الندوب التي خلّفها في جسد البلاد وروح شعبها. ومع ذلك، أصبح بمقدور السوريين، للمرة الأولى منذ عقود، أن يتخيّلوا مستقبلاً سياسياً لا يدور حول استمرار عائلةٍ واحدة في السلطة.
بعد تحرير سوريا، تمكّنتُ من فعل ما ظلّ مستحيلاً لسنوات: العودة إلى وطني؛ عبوري الحدود كان إنهاءً لمنفى قسري، واستعادةً لروابط قطعها نظامٌ مجرم، وتوجّهتُ إلى حماة، مدينتي التي نجت من مجزرة 1982 وكل ما تلاها. عدتُ أمشي في شوارعها وفي داخلي طبقاتٌ متراكمة من الذكريات، وثقل السنوات التي قضيتها بعيداً عنها.
وكانت المحطة الأثقل والأعمق دلالةً في تلك الرحلة: قبر والدي؛ وقفتُ أمامه بعد سنواتٍ طويلة من العجز التام عن زيارته، وبكيتُ بمرارة. كانت دموعي على ما سلبته الدكتاتورية من حياتنا: اللحظات الأخيرة التي لم أحظَ بها معه، والجنازة التي غبتُ عنها، والسنوات التي عجزتُ فيها عن مواساة والدتي في حزنها. عند ذلك القبر، كفَّ سقوط النظام عن كونه حدثاً سياسياً محضاً، وتحوّل في وجداني إلى فعل استردادٍ شخصي عميق.
لذلك، فإنَّ فرحتي الغامرة بسقوط نظام الأسد هي فرحة سوريٍّ أمضى سنواتٍ في مواجهة جرائم النظام بالتوثيق والشهادة؛ فرحة من شهد عن قرب الثمن الباهظ الذي دفعه الضحايا والناجون وذووهم؛ فرحة إنسانٍ رفض التسليم بأنَّ بلاده محكومةٌ أبداً بالخضوع للسلالة ذاتها التي ذبحت مدينته عام 1982، ودمّرت سوريا في العقود اللاحقة.
وفي الوقت نفسه، أدرك تماماً أنَّ التحرير ليس سوى بداية المسار؛ نهاية حكم الأسد لا تضمن بذاتها عدالةً أو مصالحةً أو إصلاحاً مؤسسياً. علّمني عملي في الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ غياب المساءلة يجعل تكرار دورات العنف أمراً مرجّحاً؛ سقوط نظامٍ مجرم يفتح نافذة فرصة، لكن ما يملأ الفراغ يتوقف على الخيارات التي سيتخذها السوريون والمجتمع الدولي في السنوات المقبلة. بالنسبة إليّ، لا تنفصل فرحة التحرير عن مسؤولية مواصلة العمل من أجل مسار عدالةٍ انتقالية شاملة تُكرّم الضحايا، وتصون الحقوق، وتُعيد بناء المؤسسات على أُسسٍ سليمة.
بعد عامٍ من سقوط نظام الأسد، أتأمل هذه الرحلة بمزيجٍ من الحزن والاعتزاز والعزيمة. أحزن على والدي، وعلى مئات الآلاف من السوريين الذين لم يُمهلهم القدر ليشهدوا سقوط الدكتاتورية. وأعتزّ بأنَّني، رغم الكلفة الفادحة، اخترتُ الوقوف مع الثورة، وكرّستُ حياتي لتوثيق الحقيقة والدفاع عن حقوق الإنسان، وأظلّ مصمماً على ألَّا تتحول هذه اللحظة التاريخية إلى فصلٍ آخر من مأساةٍ لم تكتمل.
قصتي واحدة من ملايين القصص السورية، لكن من خلالها يتجلّى المعنى الأشمل لسقوط النظام: قصة إنسانٍ نُفي لأنَّه طالب بالحرية، ثم عاد إلى مدينته وقبر والده، لا متخفياً ولا مستتراً، في سوريا التي كسرت أخيراً قيد الاستبداد الوراثي. فرحتي بسقوط بشار الأسد هي، في جوهرها، فرحة الإيمان بأنَّه بعد كل ما احتملناه، بات بوسع سوريا أن تبدأ التنفس أخيراً كوطنٍ حر.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى