محصّلة عام في سورية

سميرة المسالمة

يمكن للسوريّين، على اختلافاتهم وتباين أحوالهم، تأريخ استعادة بلدهم من لحظة إعلان انهيار نظام الأسد (الأب والابن)، وهروب أزلامه، بغضّ النظر عن تصوّراتهم لشكل الحكم الذي يريدون تبنّيه في المرحلة المقبلة من عمر سورية، فمهمّة إعادة تعريف الهُويَّة الوطنية، وتشبيك الرؤى الجمعية، بعد زوال السبب الذي أعاق ذلك كلّه ستّة عقود عجاف، مريرة وقاسية، تأتي لاحقاً للاعتراف بأن سورية الجديدة بدأت مع حلول يوم تحريرها وانتصار ثورتها، التي استمرّت جذوتها منذ 18 مارس/ آذار 2011 وحتى لحظة سقوط النظام، وزوال آل الأسد من القاموس السوري الجديد يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024… هكذا، يمكن القول إن الخلاص من نظام الأسد “الأبدي” البائد هو ما يفسّر حالة الفرح عند معظم السوريين، الذين شعروا أنهم نجوا من الجحيم، فمنحوا ثقتهم للقيادة الانتقالية الجديدة، على أمل أن تعبُر بهم وببلدهم بأمان، أو بأقلّ قدر من الأثمان، المنعطفات الخطيرة والمعقّدة والمؤلمة، الناجمة عن تركة الدم والطائفية والخلافات المرجعية القومية الثقيلة التي خلّفها النظام الساقط، وعن التبعات الإقليمية المترتّبة من ذلك، بحكم موقع سورية الجغرافي ودورها عبر التاريخ، ونظراً إلى حال التنوّع في مجتمعها، إلا أنّ الثقة التي يضعها معظم السوريين في القيادة الانتقالية ليست مطلقةً أو بلا حدود، بل مشروطةٌ نابعةٌ من رغبتهم في فتح صفحة جديدة، فالسوريون، من خلال دعمهم هذه القيادة يعبّرون، أولاً، عن رفضٍ قاطعٍ للعودة إلى الوراء، سواء إلى شكل النظام السابق أو إلى أيٍّ من بقاياه. وفي الوقت نفسه، تعكس هذه الثقة آمالاً كبيرة بأن تتمكّن القيادة الانتقالية من التعامل بجدّية ومسؤولية مع التحدّيات السياسية المُعقَّدة التي تراكمت خلال سنوات الأزمة. إنهم ينتظرون منها طرح حلول واقعية، وإطلاق مسارات سياسية قادرة على بناء مستقبل أكثر استقراراً وعدلاً، بما يعيد إلى الدولة والمجتمع القدرةَ على النهوض من جديد.
«الخلط بين العدالة الانتقالية والانتقام أو التعويض عن الظلم وصفةٌ لدوام التشرذم، بل لوصفة حرب أهلية أيضاً
بعد عام على تحمّل السلطة الجديدة المسؤولية، بات من الممكن تقديم بعض الملاحظات على أدائها، من خلال أسئلة من نوع: أين أصابت وأين أخفقت؟ وكيف يمكن الخروج من المأزق في هذه المسألة أو تلك؟ وبموضوعية شديدة، وفي محاولة لتوخّي الدقّة (وبقدر كبير من المسؤولية) يجدر بنا قبل الحديث عن التحدّيات التذكير بأن السلطة الانتقالية تحكم بلداً مُفقَراً، ومُدمَّراً، ومُفكَّكاً، سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وأمنياً، مع واقع من تدخّلات خارجية، دولية وإقليمية، مؤثّرة، وصاحبة قرار ونفوذ في الأرض السورية. وفوق ذلك كلّه، أنها تسلّمت مؤسّساتٍ حكوميةً متهالكة، ونظاماً عامّاً معظمه مُخترَق بالفساد والمحسوبيات، وفي حالة انهيار مع افتقارٍ إلى الموارد، وبنىً تحتيةً متهالكةً، وتدهوراً عامّاً لمستوى المعيشة، وفقداناً للطبقة المجتمعية الوسطى في مقابل بروز طبقة واسعة تحت خطّ الفقر، تُقدَّر بنحو 90%، وطبقة أثرياء حرب مُتنفِّذة.
القصد من الحديث الاعتراف بأن ما بين يدي السلطة الحالية (أو تحت حكمها) ليس دولةً طبيعيةً، ما يعني أن عليها مهمّة إعادة بناء الدولة والمجتمع، ربّما من نقطة الصِّفْر أو ما دونه، وهو ربّما يفسّر ثغراتٍ أو تخبّطاتٍ عديدة اكتنفت عمل الإدارة السورية الجديدة ومواقفها، خاصّةً ما يتعلّق بمسألة العدالة الانتقالية، وغيرها من قضايا ما زالت عالقة، وهو ما يحاول المقال التعرّض له.
احتلت مسألة العدالة الانتقالية حيّزاً كبيراً في خطابات السوريين، واستقطبت اهتماماً واسعاً من مسؤولين في القيادة الجديدة، إلا أن هذه المسألة ما زالت تواجه العثرات والقيود، منها الاجتماعية والقانونية. والسؤال: هل يقع التقصير على عاتق السلطة فقط، أم يشمل ذلك المجتمع السوري، وضمنه نخب المُعارَضة، أو المثقّفين أو المنظّمات المعنية؟ ومع تأكيد ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية، تحتاج هذه المسألة إلى أدواتها المؤسّسية التي لا تزال قيد إعادة البناء، أو في مرحلة الاستعداد لها على قاعدة فصل السلطات، وتأكيد حقوق المواطنة المتساوية، فلا يستثني مفهوم العدالة الانتقالية أحداً، لأيّ سببٍ كان. وفي المقابل، التمييز بين القتال من أجل تحرير سورية من النظام الأمني القاتل، وقتل النظام الأسدي السوريين على خلفية معارضتهم السياسية له.
في معظم الأحوال، يجري نوعٌ من الخلط في التعامل مع فكرة العدالة الانتقالية. أولاً، باعتبارها نوعاً من انتقامٍ أو تعويضٍ عن ظلم، في حين يتعلّق الأمر بالإنصاف وتحكيم القانون. وثانياً، بإضفاء نوع من التعميم أو التنميط على طرف مُعيَّن، في حين يُفترض ملاحظة أن هذا التعميم بمثابة وصفة لدوام التشرذم في مجتمع السوريين، عدا عن أنه وصفة لنوع من حرب أهلية، الأمر الذي يتطلّب توضيحَ أن العدالة الانتقالية تشمل الطبقة السياسية التي كانت تتحكّم في القرار السياسي في البلد، في الحقبة السابقة، والشخصيات العسكرية أو الأمنية أو المليشياوية التي ارتكبت جرائم موصوفة ومحدّدة بحقّ السوريين. في السياق نفسه، من المفيد إدراك أن العدالة الانتقالية، في الخصوصية السورية المشار إليها أعلاه، لا يمكن أن تنبثق إلا ضمن حقوق المواطنة بالاستناد إلى دستور، ما يتطلّب تعزيز ثقافة الاعتراف والاعتذار والقبول المتبادل، على الصعيد الجمعي، وتأصيلها في القيم السائدة، وفي ذاكرة السوريين، واحدةً من الإجماعات الوطنية، التي تحول دون إعادة إنتاج نظام الاستبداد السابق، الذي عزّز مكانته بالقمع والفساد ونشر الكراهية.
ثانياً، ظلّت فكرة اللامركزية تلقي بظلالها السلبية الانفصالية في التفكير السياسي لدى المعارضة السائدة، وهذا ما انتقل أوتوماتيكياً إلى القيادة الانتقالية الجديدة، رغم محاولاتها التكيّف مع تلك الفكرة بشكلٍ ما، ردّاً على التحدّيات الناشئة في الجنوب والغرب والشمال الشرقي. بيد أنه كان يجدر النظر إلى هذا المصطلح باعتباره شكلاً من أشكال النظام السياسي، الذي يتمتّع بالمرونة في الإدارة، ومراعاة التمثيل، وتوزيع الموارد، وهي صفاتٌ تقوّي الدولة التي تفرض سيادتها في الأراضي السورية، وتمتلك الأجهزة المركزية والجيش والأمن والقرار السياسي والتمثيل الخارجي والثروات الباطنية وتوزيع الموارد المالية.
تتأسس المسألة الكردية في سورية على الاعتراف بحقوق المواطنة للكرد أسوةً بالسوريين الآخرين
وفي كل الأحوال، معظم الدول القوية اليوم فيدرالية، أو لا مركزية، وبالإمكان النظر إلى نشوء نوع من النظام اللامركزي الإداري في سورية باعتباره استجابةً لمصلحة الشعب السوري كلّه، ولمصلحة الدولة، وحالةً من حالات تطوّر النظام السياسي ومنع تهميش المناطق البعيدة عن العاصمة. وللتوضيح، ما أتحدّث عنه نظام لا مركزي يتأسّس على الجغرافيا (تطوير قانون الإدارة المحلّية الحالي)، وليس على أساس قومي أو طائفي أو عشائري. ثالثاً، من فكرة اللامركزية إلى المسألة الكردية في سورية، التي خلقها النظام السابق، بمنعه حقوق المواطنة، وحرمانه لأكرادٍ كُثُرٍ من الجنسية، ومن الحقوق القومية. لذا، الانطلاق هنا من أن الكرد شعب ينتمي إلى قومية كبيرة، جُزِّئت بين دول عدّة، تماماً مثلما أن السوريين العرب ينتمون إلى أمّة كبيرة، لذا يفترض تفهّم أن استعادة ثقة الكرد، وصدّ النزعات الانفصالية، تتأسّس على الاعتراف بحقوق المواطنة لهم، أسوة بالسوريين الآخرين، بمعنى الاعتراف بحقوقهم مواطنين أفراداً، وبحقوقهم جماعةً قوميةً تشكّل جزءاً من الشعب السوري، أو الأمّة السورية، في دولة مواطنين.
رابعاً، مشكلة الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، وارتباط هذا الأمر بالموقف الأميركي تجاه المنطقة عموماً، إذ تسعى الأطراف الدولية والإقليمية إلى هندسة الشرق الأوسط بعد اندحار المشروع الإيراني، وبعد تقويض قدرات الأذرع الطائفية التي تعمل في خدمة سياساتها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الشرق الأوسط شهد تصاعدَ لاعبٍ جديدٍ ديناميكيٍّ هو السعودية، إلى جانب القوة الإقليمية التي تمثّلها تركيا الداعمة للحكومة الانتقالية، أي إن سورية بات يمكنها، في صدّ التدخّلات الإسرائيلية السياسية والأمنية، الاستناد إلى قوة عربية (السعودية وقطر) وقوة إقليمية، وهذا ما استثمرته السلطة الجديدة على أحسن وجه، بدلالة الموقف الأميركي الذي يشتغل بالتناغم مع الطرفَيْن المذكورَيْن لكبح جماح إسرائيل. إلا أن ذلك كلّه لا يغني القيادة الانتقالية الجديدة عن تعزيز شرعيتها وتقوية موقفها إزاء إسرائيل بالاعتماد أولاً على شعبها، وتعزيز نقاط قوتها ببناء رصيدها الشعبي من مختلف أطياف السوريين، بإقامة دولة تكون فيها المواطنة متساوية، وهي دولة المؤسّسات والقانون. وتالياً، التمسّك بمواقف الشرعية الدولية بخصوص حقّها في الجولان السوري المُحتَلّ، وفي شأن القضايا الدولية عموماً، ومنها دعم حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى