
بعد عامٍ على التحرير، كثرت الجلسات التقييمية على مختلف المستويات: شعبية ونخبوية، علمية وسياسية، محلية وعالمية. في إحدى هذه الحوارات النخبوية التي حضرتُها، قدّم مطّلعان الرؤية نفسها تقريبًا للواقع السوري الراهن. المفاجأة كانت أن أحدهما خلص إلى أن سوريا في الهاوية وتزداد غرقًا فيها، بينما الآخر – الذي قدّم الرؤية ذاتها – خرج بخلاصة مختلفة جذريًا، إذ بدا سعيدًا بما رآه ومتفائلًا بما تقوم به الإدارة وبمستقبلها. فأين الخلل في التقييم؟ وكيف يمكن للمعطيات نفسها أن تؤدي إلى خلاصات متناقضة تمامًا؟
تكمن المشكلة في تقييم الحالة السورية في أمرين أساسيين. الأول هو التصورات التي ينطلق منها المتحدث أو المفكّر؛ فالسعيد بالوضع الراهن هو، في الحقيقة، ما يمكن أن أسميه “الواقعي” الذي ينطلق من واقع سوريا السابق ومن حالها المتوقّع لو لم يتغيّر النظام البائد. أمّا المتشائم، فمرتكزُه الصورة المتخيّلة لسوريا التي يحلم بها، والتي ربما رأى أطرافًا منها في الخليج أو أوروبا أو تركيا، أو في الماضي السوري الأموي الذي كان يتسيّد العالم.
أما الأساس الثاني فهو النية والانتماء الأيديولوجي والمصلحة الشخصية. فمن يتفق مع القيادة الجديدة أيديولوجيًا يميل إلى تفسير أفعالها من زاوية تفترض حسن النية، فيؤولها إيجابيًا. وعلى العكس من يقف على الضفة الأخرى، فهو لا يقبل من القيادة الجديدة شيئًا، ويتجه نحو تأويل أفعالها في أقسى الاتجاهات السلبية، لا لشيء سوى لاختلاف الأيديولوجيا والنية، وربما المصلحة.
مجرد فتح المجال للتقييم والتصويب وتفاعل الإدارة السورية معه، وحساسيتها واستقبالها للنقد والتجاوب معه أحيانا، هو بحدّ ذاته تطوّر لم نكن نحلم به في سوريا الأمس.
لا يكاد أحد من المقيّمين ينجو من هذين الفخين. فإن استطاع النجاة من الثاني بحيادٍ مطلق، فإنه غالبًا سيقع في الأول.
في الحقيقة، إن أي تقييم موضوعي – أو يحاول أن يكون كذلك – لا ينبغي له إغفال مشهد سوريا زمن الأسد وقصر الوقت الذي تعمل فيه القيادة الحالية. أصحاب الرؤية المتشائمة الذين لا يرون إنجازات للقيادة الجديدة، يغيب عن بالهم، قصدًا أو عن غير قصد، نجاح مشهد الثورة الأخير من دون شلال دماء؛ وهو مشهد نادر في التاريخ، بل معجزة. وقد أعقبه إغلاق ملف السجون السورية المرعبة، ووقف الإعدامات اليومية، وإنهاء ملاحقة السوري في العالم، وإغلاق ملف اللجوء القسري تقريبا، وفتح الباب أمام السوريين لإعادة بناء بلادهم، وفتح باب التواصل الصحي مع الدول العربية على مختلف المستويات، باعتبار أن سوريا قلب التواصل الجغرافي.
لا ينبغي لأي مراقب أن ينسى هذه المشاهد وغيرها، كأننا تخطّيناها وبدأنا نتعامل مع دولة طبيعية في المنطقة نقيمها كما نقيم رئيسًا فرنسيًا أو بريطانيًا منتخبًا اليوم.
صحيح أن الملاحظات على الأداء كثيرة ولا تنتهي تقريبًا لدى الجميع، لكن هناك روحًا واضحة في مختلف الملفات: السعي للتطوير والتحسين، ومسابقة الوقت، وتوسيع الإدارات. وكل ذلك يجري في وقت لا يجب أن ننسى فيه أن النظام السابق قد سقط بالكامل، وأن هناك إعادة بناء لنظام جديد على أسس متهالكة، وتحت ضغط داخلي وخارجي هائل ومتربصين في كل ناحية. لذا، فإن أي تقييم موضوعي للإدارات العامة اليوم سيجد انغماسًا حقيقيًا في العمل ومحاولات متوازنة للخروج من الأزمات.
أضف إلى ذلك أن مجرد فتح المجال للتقييم والتصويب وتفاعل الإدارة السورية معه، وحساسيتها واستقبالها للنقد والتجاوب معه أحيانا، هو بحدّ ذاته تطوّر لم نكن نحلم به في سوريا الأمس.
أما فخ المعايير الموحدة للتقييم – كأن يُضرب مثال بأن بلوغ نظام ديمقراطي هو الهمّ الأوحد الذي يجب تحقيقه فورًا بغض النظر عن الملفات الأخرى – فهو تبسيط مخلّ وجهل بالواقع السوري السابق واللاحق. وهذا يخصّ المنتقدين بشكلٍ أعمى، وهم كُثر.
يجب أن يقوم التقييم أساسًا على حفظ ما تحقق وتثبيته، وهو كثير، وعلى أن يكون نقديًا بما يكفي للحفاظ عليه والبناء فوقه، على الرغم من الصعوبات والتحديات الهائلة.
أما الطرف الثاني، وهم المبالغون في الثناء ورافضو التقييم أو الملاحظات، فإن النقد المرتبط بالتعددية، أو بطريقة التعاطي مع التغول الإسرائيلي، أو بالشفافية، أو بترتيب الأولويات، أو بإشراك السوريين في المرحلة المقبلة من إعادة بناء سوريا – ولو اعتبره بعضهم قاسيا – فإن تجاهله اليوم يدقّ ناقوس الخطر في سوريا كلها، إن لم يكن اليوم فغدًا. فاليوم تُبنى أسس الدولة، ومع أن الإنجازات المحققة خلال سنة واحدة ملحوظة، فإن الأسس تُبنى الآن، وأي انحراف مبكر، أو غرور بالإنجاز، أو تعالٍ وغشاوة في الرؤية أو إعادة بناء هياكل المحسوبية، قد يغلق مسامات استقبال النقد والاستفادة منه ويعاد معه تدريجيا بناء نظام استبدادي فاسد.
عليه، إن أي منتقد لاذع ينسى – أو يتناسى – ما حققته الثورة والقيادة الجديدة، عليه أن يعيد حساباته. وبالمقابل، فإن صمّ الآذان عن النقد الواسع والمهم يفتح بابًا على تآكل الشرعية من جهة، وعلى إعادة إنتاج بنى اجتماعية وسياسية واقتصادية هشّة ومعرّضة لرياح الداخل والخارج من جهة أخرى.
لذلك، يجب أن يقوم التقييم أساسًا على حفظ ما تحقق وتثبيته، وهو كثير، وعلى أن يكون نقديًا بما يكفي للحفاظ عليه والبناء فوقه، على الرغم من الصعوبات والتحديات الهائلة.
فعلى سبيل المثال، في ملف الطاقة، يكون التقييم الحقيقي قائمًا على الثناء ورؤية ما تحقّقه الإدارة الجديدة على مختلف الصعد، وهو أمر واضح، ولكن بالتوازي مع متابعة دقيقة وتصويب للزوايا التي ما تزال غامضة حتى الآن، كمسألة شفافية العقود، أو العدالة الاجتماعية في التسعير، أو بناء هياكل الوزارة والشركات المستجدّة، أو امكانية الانزلاق نحو تصوّرات نيوليبرالية من جهة، أو تصوّرات حالمة تُهمل الواقع السياسي من جهة أخرى. فإن غاب أحد طرفي هذا التقييم، انهار التقييم برمّته، وفُقدت إمكانية إحداث أثر، بل وتعزّز الانقسام بدل أن يُجسره.
المصدر: تلفزيون سوريا






