سورية؛ استقرار ضعيف وموقَّت

حازم نهار

تتصرف الدول، اليوم، على الأقل ظاهريًا، على أساس أن الحرب الداخلية السورية قد انتهت، وأن الآفاق مغلقة أمام مواجهات عسكرية بين الدول المتدخِّلة في سورية، كما بدت الخريطة السورية لكثيرين مستقرة نوعًا ما، ما دفعهم إلى القول إن الحرب قد انتهت، وإن هذا يمكن أن يزيد من احتمالات نجاح السياسة والتفاوض والاتفاق. ولذلك تعمل الدول والسائرون في ركابها على تنشيط اللجنة الدستورية، وتحقيق التوافق بين قوى سياسية أو عسكرية سورية، وآخرها الاتفاق بين (مجلس سورية الديمقراطية) و(حزب الإرادة الشعبية)، وقبلها الحوار الكردي-الكردي، وغيرها.

لكننا نعتقد أن هذا الاستقرار الظاهري ضعيف ومؤقت، ويمكن أن تنفجر الصراعات الظاهرة أو الكامنة مجدّدًا عندما تنضج أسبابها، فالوضع السوري أصبح منتجًا للصراعات إلى أمدٍ غير واضح حاليًا، وهناك اليوم صراعات عديدة تحفل بها الأرض السورية، داخلية وإقليمية ودولية، لا يُستبعد أن تتطور إلى حروب فعلية في لحظات معينة.

من الواضح أن خريطة توزّع القوى ومناطق النفوذ على الأرض السورية أصبحت معقدة جدًا، لكن يبقى مفتاح قراءة مسار الوضع السوري وصراعاته مرتبطًا، بصورة أساسية، بالسياسة الأميركية، على الرغم من فاعلية الدول الأخرى، وهذا كان صحيحًا طوال العقد الفائت أيضًا على الرغم من حالة عدم الاكتراث الأميركي، ظاهريًا على الأقل، لما يحدث في سورية. أما المقاربات الأخرى فهي جزئية بالضرورة، تعالج أو تحاول قراءة لحظة من لحظات الصراع، وترتبط بهذه المنطقة السورية أو تلك، أو بهذه الدولة أو تلك.

يمكن القول إذًا إن التحركات السياسية والدبلوماسية الحالية، ومنتجاتها، لا تقدِّم شيئًا مفيدًا في معرفة مآلات الوضع السوري، فكلها تجري في الهامش، ولا تكتسب أي أهمية عملية إلا بمقدار بعدها أو قربها من الاستراتيجيات المتحكِّمة في الوضع السوري، وفي المركز منها الاستراتيجية الأميركية.

لم تكن هناك استراتيجية أميركية واضحة خلال مرحلة أوباما، لكن كانت هناك أربعة ثوابت أميركية؛ الثابت الأول هو عدم التدخل العسكري، وكان هذا واضحًا ومدركًا من جانب النظام السوري الذي ظل مطمئنًا ومطلق اليدين في التصرف بسببه، فيما لم يكن كذلك بالنسبة إلى المعارضة التي أنهكت نفسها في انتظار التدخل أو الصراخ ضده. وكان الثابت الثاني، ترك الوضع السوري ليسير باتجاه التفسخ والإنهاك، لكن ضمن عددٍ من المحدِّدات الحاسمة المتعلقة بنوعية الأسلحة المستخدمة، بما يضمن بقاء الحرب داخل سورية، ومنع سقوط النظام دفعة واحدة. وكان الثابت الثالث محاربة تنظيم “داعش” والتنظيمات القريبة منه نهجًا وممارسة، فيما كان الثابت الرابع مراعاة المصالح الإيرانية في سورية مقابل التوصل إلى اتفاق معها بخصوص ملفها النووي. وعدا عن ذلك، لم تكن للإدارة الأميركية استراتيجية واضحة، واكتنف أداءها الغموض في كثير من الأحيان، ما أربك الدول الخليجية والإقليمية والأوروبية التي لا تستطيع تنفيذ طموحاتها إلا بالتقاطع أو التشارك مع الولايات المتحدة.

في عهد إدارة ترامب، لم تتغير السياسة الأميركية كثيرًا، ربما باستثناء الضغط الأميركي المتزايد على إيران. هناك فريق في إدارته يريد البقاء في سورية إلى الأبد، وفريق آخر يريد البقاء مدة زمنية محدّدة، فيما ترامب نفسه يريد الرحيل نهائيًا وترك سورية؛ لأنها -بحسب تعبيره- مجرد رمال وموت.
منذ نحو العام، بدأت ملامح خطة أميركية جديدة بالظهور، لكنها لا تتعلق بسورية بقدر ما تتعلق بالمتدخِّلين فيها والمتصارعين على أرضها؛ ترتكز الخطة على توجه رئيس يتمثل بمواجهة أميركا للقوى المعادية أو المنافسة لها على الأرض السورية، وهو ما تجلّى بإنهاء أو عرقلة الوجود الإيراني، خصوصًا في جنوب سورية، وتقليص النفوذ الروسي، وإجبار النظام السوري على تغيير سلوكه، ودعم التوافق الكردي الكردي، ومن ثمّ التوافق العربي الكردي في منطقة الجزيرة السورية.

بينما روسيا ترى أنها انتصرت في سورية؛ فقد نجحت خلال السنوات الخمس الماضية في إنقاذ النظام السوري، وترجيح كفته العسكرية في مواجهة خصومه، والسيطرة على نحو 65 في المئة من الأرض السورية، وحصر معارضيه في أماكن محدَّدة. لكن هذا الانتصار الروسي ما زال منقوصًا، ويحتاج إلى توافر ثلاثة عوامل/ أهداف ليكتمل؛ السيطرة على المساحة المتبقية من سورية، عودة الحياة الطبيعية وبدء عجلة الاقتصاد بالدوران، انطلاق عملية إعادة الإعمار، ما يعني أن روسيا لديها خوف فعلي من تحول سورية إلى أفغانستان، وترغب في تحقيق الاستقرار لقواعدها العسكرية وشركاتها في سورية، فضلًا عن سعيها لجعل سورية نموذجًا إيجابيًا للجهد الروسي بما يحسِّن من صورتها، ويفتح لها أبواب المنطقة.

هذه الأهداف الروسية تصطدم بالممانعة الأميركية، فأميركا لا تريد لروسيا أن تنجح كليًا في سورية، وعملت على حرمانها من ثمار انتصارها العسكري، لأن روسيا، وإلى جانبها الصين، يشكلان أكبر تهديد لأمنها القومي على المديين المتوسط والبعيد، وقد عبَّر المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، عن هذا في 13 أيار/ مايو الماضي، بقوله “إن مهمتي هي أن أجعل سورية مستنقعًا لروسيا”.

لقد عرقلت أميركا استكمال سيطرة النظام على الأرض السورية عندما دعمت، مؤخرًا، تركيا في مواجهة محاولة روسيا والنظام استعادة إدلب وشمال سورية، وسيطرت على آبار النفط في الشمال الشرقي لحرمان النظام من موارد النفط التي يمكن أن تساعده في حروبه، وأفسدت خطط روسيا التي قامت على أساس تأمين عودة النظام إلى مناطق الشمال الشرقي، مقابل الاستجابة لعددٍ من مطالب سكانها من العرب والكرد.

وأفسدت أميركا أيضًا، من خلال العقوبات الاقتصادية ضد النظام السوري، وآخرها قانون قيصر، هدفَ الروس في إعادة الاقتصاد السوري إلى العمل، ووضعت أيضًا “فيتو” على عملية إعادة الإعمار، بوصفها الدولة التي تملك المال أو الدولة التي تملك مفاتيح خزائنه، بحكم تأثيرها في دول الخليج وأوروبا والمؤسسات الدولية.

إعادة الإعمار مشروطة إذًا بالرؤية الأميركية لسورية، والتي تتحدَّد، على الرغم من عدم وضوحها، بإخراج إيران من سورية الذي يكاد يكون مستحيلًا في الوقت الراهن، وجعل نفوذ روسيا في سورية محلَّ تفاوض، وهو مستبعد إن أخذنا في الحسبان القواعد والعقود والمصالح الروسية التي تراكمت في سورية، وأخيرًا تغيير سلوك النظام السوري، وهو ما يبدو بعيدًا، لأن أي تغيير حقيقي قد يؤدي إلى انهياره. يعني هذا كله أن أميركا استطاعت تخريب الأهداف الروسية والإيرانية في سورية، لكنها في المقابل لا تستطيع تحقيق أهدافها من دون روسيا وإيران، وكذلك تركيا ودول الخليج وأوروبا.

لقد تحوّلت سورية، بحكم سياسات النظام السوري أولًا، والبيئة الإقليمية والدولية المتخمة بالصراعات والتنافسات ثانيًا، والسياسات السطحية والخاطئة للمعارضات والقوى والفصائل السورية ثالثًا، إلى دولة فاشلة؛ سلطة مركزية غير قادرة على أداء مهماتها الطبيعية حتى في المناطق التي تخضع لسيطرتها، مظالم واختلالات هائلة على جميع المستويات في مناطق سورية كلها، خراب اقتصادي وفقر معمّم، احتلالات أجنبية ومناطق نفوذ عديدة…إلخ، ما يشكِّل أرضية خصبة لنمو احتجاجات وصراعات محلية جديدة في مناطق مختلفة، لكن لا يمكن التكهن حاليًا بتوقيتها ومداها ونوعيتها ومآلاتها. ويُضاف إليها الصراع المسلح بين النظام السوري ومجموعات المعارضة المسلحة الذي خفتت حدّته حاليًا، لكنه قابل للاشتداد مرة أخرى، والصراع الكامن بين بعض العرب وبعض الكرد في سورية، والصراع بين النظام السوري وبعض الكرد، والصراع بين الفصائل الإسلامية المعارضة… إلخ.

نحن إذًا أمام مجموعة من الصراعات المحلية والإقليمية والدولية متفاوتة الشدة على الأرض السورية، يبدو بعضها خافتًا أو هادئًا في بعض الأحيان، لكنه قابل للاشتداد والاشتعال في أوقات أخرى، لذلك يصعب القول إن الصراع المسلح قد انتهى، وإن الطريق مفتوح أمام التسويات السياسية. ربما انتقلنا من الصراع الساخن الذي يعبِّر عن نفسه بالحرب والصراع المسلح إلى صراعات منخفضة الشدة، تلك التي تخف حدّتها لكن يستطيل مداها، مع بقاء احتمال انفجارها وتحوّلها إلى حروب ممكنًا في أي لحظة.

تبدو، اليوم، الأهداف الأميركية في سورية مستحيلة، والأهداف الروسية هي الأخرى مستحيلة، ومثلها الأهداف الإيرانية والأهداف التركية، وبالضرورة ستكون أهداف النظام السوري مستحيلة، وأهداف المعارضات والفصائل السورية المختلفة مستحيلة، وأهداف الكرد السوريين مستحيلة. المستحيل هو العنصر المهيمن في الوضع السوري، وهذا يقود الوضع السوري نحو مزيد من انسداد الآفاق والتمزق والتشظي والتدهور، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وديموغرافيًا.

ثمة شيء وحيد يمكن أن يخرق هذه المستحيلات، يبدو اليوم مستحيلًا هو الآخر؛ دخول السوريين طرفًا في معادلات الصراع المهيمنة من بوابة المشاركة في صناعة الوطنية السورية، فمن دون التقدّم خطوات في طريق تحقيق هذا الذي يبدو مستحيلًا الآن، ستظل الصراعات والمستحيلات الأخرى تنقلنا من كارثة إلى أخرى أشدّ قسوة ومرارة، ويبقى أن نفك عقدة “مستحيلنا” أسهل وأكثر جدوى من انتظار تحقّق “مستحيلات” الآخرين.

المصدر: المدن

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى