الثامن من كانون الأول 2024.. يوم دُفنت السلطة الأسدية بلا عزاء

د. طلال المصطفى

لم يكن يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 يومًا عاديًّا في التاريخ السوري المعاصر، ولا محطة عابرة في سجلّ نظامٍ استبدادي عاش نصف قرن يفرض نفسه على كل شيء: على السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والثقافة، والمجتمع، والذاكرة، والتاريخ، واللغة، وحتى على الصمت.
في هذا اليوم انكشف القناع الأخير عن السلطة الأسدية؛ السلطة التي ادّعت البقاء إلى الأبد، فإذا بها تُدفن فجأة إلى الأبد، بلا جنازة ولا عزاء. لم تكن الوفاة حدثًا منفصلًا، بل كانت النتيجة الطبيعية لمسار طويل من التحلّل. فمنذ ثورة آذار/مارس 2011 بدأت السلطة الأسدية تتآكل، لا من أطرافها فقط، بل من قلبها، من المنطقة التي كانت تصوّرها دائمًا على أنها “مركز القرار وموطن الاستقرار”. حكمت بالحديد والنار، ودفعت المجتمع السوري إلى حافة التشظّي، ثم اشترت الوقت بدماء السوريين، وبصفقات اقتصادية ومالية مكشوفة مع ميليشيات داخلية وخارجية، حتى غدت دولةً تُدار من تجار الحرب والميليشيات أكثر مما تُدار من مؤسسات الدولة نفسها. لم يعد بالإمكان الحديث عن “دولة” بالمعنى السياسي أو القانوني، بل عن كيان هشّ قائمٍ بالاسم فقط، وممدودٍ بالحياة بأجهزة التنفس الروسية والإيرانية.
من شرعية الاستثناء إلى تفكك المركز
لم تستمد السلطة الأسدية شرعيتها من عقد اجتماعي أو عملية سياسية طبيعية، بل من الاستثناء بوصفه قاعدة دائمة للحكم. فحالة الطوارئ غير المعلنة، وخطاب الخطر الوجودي، والحالة الأمنية المستمرة، وتبرير التضييق بوصفه ضروريًا للحفاظ على الاستقرار المجتمعي؛ كل ذلك شكّل أساسًا لشرعية مصطنعة. لكن في علم السياسة لا يمكن لنظام يقوم على الاستثناء أن يؤسس استدامة طويلة، فهو يعمل عبر إنتاج الخوف والعنف لا عبر إنتاج العقد الاجتماعي.
ومع الزمن تصدّعت هذه الشرعية، وتحوّل الاستثناء من أداة سيطرة إلى علامة عجز، فقد انتقلت السلطة بعد ثورة 2011 من دولة الأجهزة الأمنية إلى دولة الميليشيات.
عندما ابتلعت السلطة الأسدية الدولة
منذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970 لم تُبنَ الدولة السورية بوصفها تعبيرًا عن المصلحة العامة، بل كامتداد لشبكات السلطة. فقد اختُزلت الدولة في السلطة، واختُزلت السلطة في العائلة، واختُزلت العائلة في شخص واحد. وهكذا تحولت سوريا إلى “سوريا الأسد”: دولة شكلية، في حين الواقع كان نظامًا سلطويًا شخصانيًا.
في هذه البنية لم يكن المواطن شريكًا بل تابعًا، ولم تكن المؤسسات أدوات خدمة بل أدوات مراقبة وضبط. وحين ضعفت السلطة ظهر الفراغ: دولة بلا جهاز فعّال، وكيان قانوني بلا قدرة تنفيذية. ما انتهى في كانون الأول 2024 لم يكن “الدولة السورية”، بل الشكل السلطوي للدولة، ذلك الشكل الذي صادرها وحوّلها عن وظيفتها العامة.
فقدت السلطة سلاحها الأكثر فعالية: الخوف. ومع تراجع الخوف تآكلت الطاعة، ومع تآكل الطاعة انهار الاستبداد نفسيًا قبل انهياره سياسيًا.
حين تحوّلت السلطة إلى شبكة مصالح
شهدت السنوات الأخيرة تراجع منطق الشرعية السياسية أمام منطق المنفعة. فقد أصبحت السلطة شبكة مصالح متقاطعة بين ضباط الأمن، ورجال الأعمال التابعين للسلطة، والوسطاء، وأمراء الحرب، والميليشيات الطائفية المحلية والخارجية.
لم يعد الحكم تعبيرًا عن “المصلحة الوطنية”، بل عن: حصة كل فاعل. وفي ظل هذه البنية لم يعد ممكنًا استعادة المعنى الوطني. لقد أصبحت السلطة شركة احتكار سياسي واقتصادي، وحين تطغى المنفعة على المصلحة العامة لا يسقط النظام دفعة واحدة، بل يتفكك تآكلًا… كما حدث بالفعل.
الانهيار البطيء للسلطة الأسدية
في البداية كان القرار متركزًا في يد واحدة: بشار الأسد ومن حوله. ثم بدأ المركز يتفكك تدريجيًا؛ فقدت السلطة قدرتها على إدارة الأزمات، ثم على ضبط الاقتصاد، ثم على السيطرة على أطراف البلاد، ثم فقدت لاحقًا احتكار العنف نفسه لصالح قوى مسلحة خارج المؤسسة الرسمية.
تراجع المركز لصالح الأطراف — بعضها خارجي (روسيا وإيران)، وبعضها داخلي (ميليشيات الحرب). لم يكن الانهيار حدثًا فجائيًا، بل عملية طويلة امتدت لسنوات. لم يسقط النظام بسلاح واحد، بل مات بألف اختراق وتصدّع، حتى أصبح مركز القرار مجرد عنوان بلا مضمون، وقشرة بلا قلب.
موت الاستبداد في الذاكرة الجماعية
يموت الاستبداد — سوسيولوجيًا — حين تُكسر سطوته في الوعي قبل كسرها في الواقع. وفي هذا اليوم تحديدًا حدثت لحظة قطيعة رمزية: لم يعد النظام صورة أسطورية. لم يعد “الأب”، ولا “الحامي”، ولا “القدر”. صار مرئيًا في هشاشته، بشريًا في ضعفه، بلا هالة.
فقدت السلطة سلاحها الأكثر فعالية: الخوف. ومع تراجع الخوف تآكلت الطاعة، ومع تآكل الطاعة انهار الاستبداد نفسيًا قبل انهياره سياسيًا. وحين يموت الاستبداد نفسيًا، يكون موته السياسي مجرد إجراء شكلي. لقد انتهى زمن الخوف غير المرئي، وصار السوريون قادرين على النظر إلى السلطة الأسدية لا بعين الرعب، بل بعين التفكّه. وهذه نهاية أعظم من أي هزيمة عسكرية.
موت السلطة الأسدية لا يعني تلقائيًا بداية الديمقراطية. فالمرحلة الانتقالية ستكون معقدة ومليئة بالتحديات: صراع النخب، إرث العنف، هشاشة الاقتصاد، وانقسام المجتمع.
لماذا لم يظهر الحزن؟
ببساطة: لأن معظم السوريين لم يكونوا يومًا أصحاب السلطة، ولا شعروا بأنها تمثلهم. فالحزن يحتاج إلى علاقة انتماء وشعور بالخسارة، وهذا لم يكن موجودًا.
السلطة التي حكمت بالقهر لا تُفتقد، والسلطة التي استنزفت المجتمع لا تُرثى. تحمّل السوريون عقودًا من الإذلال الممنهج، وتجنّبوا المواجهة حفاظًا على البقاء، لكنهم لم يمنحوها حبًا أو ولاءً حقيقيًا. وعندما انتهت، كان الشعور السائد أقرب إلى الراحة الداخلية، وربما الانتقام الرمزي بتحطيم مجسّمات العائلة الأسدية في المؤسسات والساحات.
إن الاستبداد الذي يقطع صلته بالشعب يخسر حقه في الفقدان، ويغادر المسرح بلا تصفيق، بلا احترام، وبلا أي أثر عاطفي يُذكَر.
ما بعد الموت: استعادة الدولة
موت السلطة الأسدية لا يعني تلقائيًا بداية الديمقراطية. فالمرحلة الانتقالية ستكون معقدة ومليئة بالتحديات: صراع النخب، إرث العنف، هشاشة الاقتصاد، وانقسام المجتمع. لكن السوريين اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بما يتجاوز حكم الفرد والحزب الواحد.
الخيار المطروح ليس بين الفوضى والاستبداد، بل بين إعادة إنتاج السلطة القديمة بصيغ جديدة، أو بناء مشروع وطني جامع. المستقبل سيحدده ميزان القوى بين إرادة المجتمع وإرادة بقايا السلطة. وإذا استطاع السوريون تحويل الذاكرة المؤلمة إلى تجربة تعلّم تاريخية، فسيكونون قادرين على صناعة نمط جديد للحكم لا يقوم على الهيمنة بل على المشاركة.
سوريا ما بعد السلطة الأسدية صفحة لم تُكتب بعد، لكنها — للمرة الأولى منذ عقود — صفحة مفتوحة على إمكانية قيام دولة طبيعية: دولة مواطنين لا رعايا، ودولة قانون لا أجهزة أمن، دولة تنتمي لشعبها… لا لعائلة حاكمة.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى