السودان على مشارف التقسيم مجدّداً

حسان الأسود

ليست مشكلة السودان حديثة، بل هي متجذّرة في أساس تكوينه، وهذه التسمية كانت تُطلق فيما مضى على البلاد الأفريقية الممتدّة من شواطئ البحر الأحمر إلى السنغال على شواطئ المحيط الأطلسي. لكنّ التشكّل الحديث للسودان كان متأخّراً نوعاً ما، وبدأ مع الدخول المصري، بقيادة إسماعيل باشا بن محمد علي الكبير. كانت السلطنة الزرقاء التي تأسّست عام 1505 للميلاد من اتحاد قبائل عربية وقبائل أفريقية وسط السودان الحالي وشماله أول تجليات السلطة القريبة في شكلها من بناء الدولة، لكنّها انهارت تماماً وتلاشت، وكأنها لم تكن مع احتلال قوات جيش محمد علي باشا تلك المناطق عام 1820. دلّ هذا على أنّ بنية التحالف المذكور لم تصل إلى حدّ بناء مؤسّساتٍ لدولة بمقاييس ذلك الزمن. بدأت الإدارة المصرية وضع حجر الأساس للتنظيم في المناطق التي دخلتها قواتها العسكرية، لكنّها لم تكترث آنذاك بجميع المناطق التي تتبع السودان الحالي، فقد كانت دارفور خارج نطاق اهتمام المصريين، نظراً إلى فقرها بالموارد، كما هو حال حوض النيل. ركّز الحكّام المصريون على مسألتين في البلاد الجديدة التي احتلوها، جلب العبيد من الجنوب وتجنيد المقاتلين من باقي المناطق. كانت العبودية آنذاك جزءاً مهمّاً من الاقتصاد العالمي، وكان جيش محمد علي يفتقد العنصر البشري. بعد سنواتٍ من الوجود المصري، بات جيش الخديوي محمد سعيد باشا قادراً على المشاركة في الحملة الفرنسية التي وجّهها الإمبراطور نابليون الثالث إلى المكسيك، وقد أبلت الكتيبة المصرية السودانية أحسن البلاء، وساهمت في انتصار الفرنسيين على أهل البلاد.
بنى المصريون منظومة الإدارة على قياس خدمة مصالحهم، وكان نصيب النخب السودانية من وسط البلاد وشمالها المشاركة في الحكم من خلال علاقات النفوذ القبلية ومراكز الثروة. لكنّ المصريين انهزموا بعد حين أمام الحملة المهديّة القادمة من دارفور غرب السودان في معركة شيكان يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1883، وأبيدت بالكامل حملة الجنرال الإنكليزي هكس الذي كان في خدمة الخديوي آنذاك. تأسّست الدولة المهدية برئاسة محمد أحمد عبد الله الذي ادّعى أنّه المهدي المنتظر. انطلقت الحركة المهديّة أساساً من مدينة أبا جنوب الخرطوم، والمهدي من قبيلة صبرنسى (قبيلة صبر) التي توجد في مناطق دنقلا، ويدّعي أهلها أنهم من الأشراف وينتسبون إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. لكنّ الحركة انهزمت بداية الأمر أمام القوات المصرية، فغادر زعيمها إلى دارفور، وهناك أسّس تحالفه الذي سيحكم من عام 1885 وحتى هزيمته مجدّداً أمام المصريين والإنكليز عام 1898. خلف المهدي في حكمه عبد الله بن محمد التعايشي، وكان قد عيّنه في أثناء حياته وشبّهه بالخليفة أبي بكر الصدّيق. كان التعايشي الخليفة الأول للمهدي والقائد الثاني للدولة المهدية من زعماء قبيلة البكّارة العربية في دارفور، وكان وصوله إلى حكم مناطق وسط السودان وشماله إضافة إلى دارفور بمثابة التأسيس لأول حكم للأطراف في السودان. كانت الأطراف مهمّشة منذ ذلك التاريخ، فالجنوب كان ساحة اهتمام فقط بوصفه خزّاناً بشريّاً يموّل اقتصاد العبودية، والغرب كان مستبعداً لاتساعه وصعوبة حكمه وافتقاره الموارد، كما الوسط والشمال.
في كل مراحل تطوّر السودان، كان الاعتماد على القبيلة باعتبارها عنصر التشكيل الأساس في البلاد
مع انهيار الدولة المهدية، إثر معركة أم درمان في 2 سبتمبر/ أيلول 1898 على يد الإنكليز والمصريين بقيادة الجنرال هيربرت كيتشنر، عاد النفوذ مجدّداً إلى يد النخب السودانية الآتية من وسط السودان وشماله حيث امتداد النيل. بدأ الإنكليز صناعة النخبة السودانية من خلال إنشاء مدرسة التجهيز الأولى عام 1902، والتي سُميّت آنذاك كليّة غوردون التذكارية تخليداً لذكرى الجنرال تشارلز جورج غوردون الذي قُتل في أثناء حصار المهديّة الخرطوم عام 1885، وتحوّلت لاحقاً إلى جامعة الخرطوم. بنى الإنكليز النخبة السودانية بالتركيز على أبناء زعماء لقبائل وأبناء بعض التجار من المناطق الحضرية (وسط وشمال)، واستُبعد من الدخول إليها بطبيعة الحال أبناء الفقراء وأبناء مناطق الجنوب والغرب. أثّر هذا لاحقاً، وبشكل واضح، على تصدّع البنية السودانية وعلى الهويّة الوطنية. وكانت النخبة السودانية تخضع في مدرسة التجهيز لعمليّة تغريب ممنهجة، وجرى بناء أفرادها وتكوينهم انطلاقاً من المقارنة بين واقع مجتمعهم المتخلف والفرص المتاحة لهم شخصيّاً جرّاء الحظوة في أنهم استطاعوا الدخول إلى هذه المدرسة. شكّل هذا عقدة نقصٍ أو اغتراباً بين النخبة السودانية ومجتمعها، فكانت تلك النخبة مرتبكة جرّاء هذا التركيب المعرفي والنفسي الذي نشأت في سياقه. انعكس هذا على المستقبل، فكان تأهيل أفراد النخبة وتدرّجهم في الوظائف تحت قيادة الإنكليز والمصريين عامل إعاقة في تشكيل قيادة وطنية ملتصقة بمجتمعها. من مظاهر التغريب أنّ الغالبية العظمى من هؤلاء قد تزوّجوا من فتيات إنكليزيات، رغم التقاليد التي تعتبر زواج ابنة العم أو القريبة مثل الواجب.
كان الجيش السوداني إحدى المؤسّسات التي ساهمت في تكريس الإقصاء الجهوي، بدل أن يكون أداة صناعة الأمّة
يذكر الباحث السوداني غسّان عثمان أنّ النخبة السودانية كانت تناقش قضايا طبيعة نظام الحكم وهل هو إسلامي أم مدني، وهوية السودان، وهل هي عربية أم أفريقية… في حين أنّ الغالبية الساحقة من الشعب تعاني شظف العيش، إضافة إلى الأميّة بطبيعة الحال. كان الجيش السوداني إحدى المؤسّسات التي ساهمت أيضاً في تكريس الإقصاء الجهوي، بدل أن يكون أداة صناعة الأمّة وتكوين الرابطة الوطنية. كان قادة الجيش أيضاً من مناطق الشمال والوسط، بينما كان نصيب الجنوب والغرب المساهمة بالأفراد. وفي كل مراحل تطوّر السودان منذ الاحتلال المصري الأول، مروراً بعصر الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، كان الاعتماد على القبيلة باعتبارها عنصر التشكيل الأساس في البلاد. تخلى الإنكليز عن بعض سلطات الدولة لزعماء القبائل، ليحكموا من خلالهم، فكان لهؤلاء صلاحيات وسلطات قضائية وتنفيذية. القبيلة في السودان هي الفاعل الأساسي منذ التأسيس.
وعلى اعتبار أنّ القبيلة هي الفاعل الرئيس في البنية المجتمعية والسياسية في السودان، ولأنّ تاريخ التشكّل الأول دفع الأطراف، وخصوصاً الجنوب والغرب، إلى التهميش، ولأنّ النخب السودانية كانت مرتبطة منذ نشأتها بالمستعمر، وكانت متغرّبة إلى حدٍّ كبير، ما أثّر على انخراطها العميق في مجتمعها. وبسبب عوامل عديدة أخرى، ومنها التدخّلات الخارجية والنفوذ الإسرائيلي مع بعض الأطراف، فإننا كنّا قبل أعوام أمام مسألة انفصال جنوب السودان، وقد نكون الآن أمام مأساة جديدة تتمثل بانفصال غرب السودان. حالة التفتت هذه ما إن بدأت لن تتوقف عن التدحرج، خصوصاً وأنّ بنية الدولة السودانية قامت على تهميش بعض الجهات، ولأنّ الجيش نفسه لم يستطع صهر الانتماء الوطني، كما تفعل عادة كل الجيوش، ولأنّ القبيلة نفسها دخلت في الصراعات الراهنة التي هي، بشكل أو بآخر، جزء من المشكلة، لأنها أيضاً ذات طابع جهوي. ليس هذا الأمر مقتصراً على السودان بطبيعة الحال، فعوامل النزاع والصراع موجودة في ليبيا والصومال وسورية ولبنان وغيرها من دول عربية. حمى الله السودان وأهله من كل شر.
المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى