
يميل بعض السياسيين إلى المبالغة في تقدير ما ترتّب عن حدثين بارزين في الشهور الماضية: الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، والإشارة الواضحة إلى مفهوم الدولة الفلسطينية في قرار مجلس الأمن المتعلق بغزّة وربطه بإصلاح السلطة الفلسطينية. ويحمل الاعتراف الدولي قيمة رمزية كبيرة، وربما تاريخية، لكنّ أثره سيبقى محدوداً ما لم يُبنَ عليه سياسياً ومؤسّسياً، ويتحوّل إلى مسار فعلي يغيّر موازين القوى على الأرض.
في المقابل، لا يمتلك الفلسطينيون اليوم الأدوات أو المسارات الكفيلة بالتعامل مع هذا المأزق الكبير، فمصطلح “إصلاح السلطة الفلسطينية” تحوّل إلى كلمة حقٍّ يراد بها باطل، لا لشيءٍ إلا لأنه يُستخدم للدلالة على عدم وجود طرف فلسطيني جاهز لإقامة الدولة، من دون طرح السؤال الأكثر واقعية: أين الطرف الآخر؟ هل حكومة بنيامين نتنياهو تمثّل الشريك المنشود لمثل هذا المسار؟ بل هل ثمّة أي تيار سياسي حاكم أو مؤثّر في إسرائيل، في مركز خريطة السياسة داخل تل أبيب، يعترف بفكرة الدولة الفلسطينية أو يذكرُها أصلاً في سياق سياسي جاد؟ الجواب الواضح أنّ ذلك غير قائم، بل بعيد المنال تماماً.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل أنّ التحوّلات التي أعقبت “طوفان الأقصى” كبيرة ومهمة، وأنّ ثمة تبدّلاً ملحوظاً في بعض الأوساط الأميركية والغربية في النظر إلى القضية الفلسطينية، وفي الموقف من السلوك الإسرائيلي الراهن. بالتوازي، برزت المجموعة العربية الإسلامية محوراً إقليمياً واسعاً يحاول إعادة بناء موازين القوى في مواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، التي تعمل على إعادة تعريف مفاهيم الردع والأمن في المنطقة، وتقود نحو صياغة نظام إقليمي جديد، تكون لإسرائيل اليد الطولى فيه.
بالرغم من هذه التحولات المتشابكة، لا تزال إسرائيل تستند إلى مصادر ضخمة من القوة، في مقدّمتها الدعم الأميركي الكبير، خصوصاً من إدارة ترامب، وهو دعم سياسي واستراتيجي لا تبدو له حدود واضحة. وحتى في حالات الخلاف الظاهر بين ترامب ونتنياهو، يكون الخلاف غالباً لمصلحة إسرائيل، كما حدث في اتفاق غزّة، ولا توجد مؤشّرات حقيقية على احتمال تراجع هذا الدعم في المستقبل المنظور.
على الجانب الآخر، لم تترجم بعد التحولات الدولية والإقليمية، على أهميتها، إلى تغيّر فعلي في موازين القوى المادية أو في معادلة الردع، فالدول العربية والإسلامية التي تتوافق اليوم على رؤية سياسية عامة لا تزال تعاني تناقضاتٍ كبيرة في المصالح والأولويات، وتفاوتاً واضحاً في القدرة على الوقوف في مواجهة إسرائيل أو صياغة موقف موحّد قادر على الضغط الحقيقي.
في الخلاصة، تبدو الحالة الفلسطينية اليوم مكشوفة استراتيجياً بصورة غير مسبوقة. وإذا كان من السهل الإشارة إلى مأزق حركة حماس بعد الحرب، وما يحيط بها من تحدّيات معقدة، فإنّ وضع السلطة الفلسطينية ليس أفضل حالاً، بل ربما أسوأ. فالمشروع الذي قامت عليه السلطة، أي التسوية السلمية مع إسرائيل، انهار فعلياً. وهناك إنكارٌ مطبقٌ لدى مختلف التيارات الإسرائيلية لفكرة الدولة الفلسطينية، بل وحتى لضرورة الإبقاء على السلطة بشكلها الحالي، ونتنياهو نفسه يعتبر اتفاق أوسلو خطأً تاريخياً، فيما يذهب وزراء في حكومته إلى أبعد، مثل تصريح وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، قبل أيام، بأن لا داعي لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية أو حتى نسخة جديدة من حركة حماس، وأن الدولة الفلسطينية “القائمة فعلاً”، وفق تعبيره، موجودة في الأردن، حيث الأغلبية من أصل فلسطيني.
بناءً على ذلك كله، أي قراءة استراتيجية للمرحلة المقبلة، في ما يتعلق بمستقبل السلطة الفلسطينية أو بآفاق إقامة الدولة، إن لم تنطلق من إدراك واضح وصريح أنّ المسار السلمي بصيغته التقليدية قد انتهى إسرائيلياً وأميركياً، فإنها ستظل قراءة قاصرة. حلّ الدولتين، بمعناه الكلاسيكي، بات أشبه بجثة ميتة في الغرفة. الجميع يعرف هذه الحقيقة، لكن الجميع يتجنّب الاعتراف بها علانية خشية الاستحقاقات الثقيلة التي تترتّب عن هذا الاعتراف.
المصدر: العربي الجديد






