
وجد الإعلام البريطاني أخيراً ضالّته لكسب رضا جمهور بات يشكّك في مصداقيته إلى حدٍّ كبير. رجل أسود مدان باعتداء جنسي يُطلَق سراحه خطأً عوضاً عن ترحيله، وتحتلّ قصّته صدارةَ النشرات والبرامج الإخبارية أيّاماً عديدة. في البلد نفسه، أمير من سلالة ملكية خالصة كان يحتلّ مركزاً متقدّماً في وراثة العرش متورّط في ما يمكن اعتباره فضيحةَ العصر الجنسية مع مجموعة من كبار النُّخب السياسية والاجتماعية، بمَن فيهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب. حازت قصة اللاجئ الأسود المُعتدي ما يقارب حجم الاهتمام نفسه بقصّة الأمير الذي قرّر أخيراً شقيقه الملك تشارلز نزع الألقاب الملكية كلّها عنه، بما يشبه نفيه من العائلة الملكية.
الإثيوبي هادوش كيباتو، الذي شغل النشرات الإخبارية، سُجن لاعتدائه جنسياً على فتاة تبلغ 14 عاماً، وامرأة، في أثناء إقامته في فندق لجوء في منطقة في مقاطعة “إيسيكس” شرقي البلاد. أُطلق سراحه من طريق الخطأ من موظفي السجن، ليُعاد اعتقاله بعد يومين وترحيله إلى بلاده في إجراء عاجل بعد موجة اعتراض واسعة على ما اعتُبر فضيحةً كبرى للحكومة. تضاربت رواية الشرطة مع إعلان اللاجئ غير الشرعي الذي قال إنه استغرب الإفراج عنه، حتى إنه حاول تسليم نفسه لضابط شرطة لإعادة اعتقاله، لكن الأخير تجاهله، الأمر الذي نفته الشرطة. أثارت قصة اللاجئ غير الشرعي المُعتدي جنسياً جنوناً إعلامياً تُرجِم في نشرات وبرامج إخبارية خصّصتْ كلَّ مساحاتها لتحرّي خطأ الشرطة في إطلاق سراح اللاجئ: من اتخذ قرار الإفراج ولماذا؟ كيف يمكن لنظام السجون أن يرتكب خطأً كهذا؟ هل كان الخطأ مقصوداً؟ هل يصحّ أن يقبض الأخير مبلغ 500 جنيه إسترليني مقابل ترحيله السريع، ما اعتبرته زعيمة المعارضة من حزب المحافظين “إهداراً فظيعاً لأموال دافعي الضرائب”؟ وغيرها من الأسئلة التي تناولها الإعلام على مدى أسبوع.
حين يتعلّق الأمر بلاجئ أسود، يصبح الخطأ الإداري “فضيحة دولة”؛ وحين يتعلّق بأمير أبيض، لا تتحرّك ماكينة الفضيحة إلا بعد أن يضحّي به القصر
جاءت قصة اللاجئ الأفريقي هديةً للطبقة الإعلامية والسياسية التي تحاول أن تهدّئ من خطاب اليمين المتطرّف المتصاعد عداءً للمهاجرين بأنواعهم، لتتيح لهم النسج على منوال الخطاب نفسه. التركيز في اللاجئ جاء امتداداً لجنون شارع اليمين المتطرّف، إذ أثارت حادثة الاعتداء التي ارتكبها فور وصوله إلى البلاد على متن قارب صغير سلسلة من الاحتجاجات شملت حرق فنادق تؤوي طالبي لجوء في جميع أنحاء البلاد، بعدما نجح اليمين، واليمين المتطرّف، في استغلالها مثالاً على الخطر الذي يجلبه هؤلاء على ثقافة البلاد وأمنها. وكان الإثيوبي البالغ 41 عاماً يقضي حكماً بالسجن 12 شهراً. واستُخدمت قضيته في فرض تعديل قانوني مثير للجدل يهدف إلى تشديد أمن الحدود، وبموجبه لن يكون بمقدور المهاجرين المدانين بجرائمَ جنسيةٍ طلب اللجوء في البلاد، وبذلك سيُعاملون أسوةً بمجرمي الحرب ومرتكبي “جرائم خطيرة للغاية”، الذين يشكّلون خطراً على المجتمع.
جاء الجنون الإعلامي حول هروب اللاجئ ليؤكّد القوالب الجاهزة للرجل الأسود العنيف والمخيف، بما في ذلك خطأ الإفراج المبكّر عن المعتدي، الذي يُظهر بحسب المعلّقين مدى انهيار نظام اللجوء كما نظام السجون في البلاد. لعبت وسائل الإعلام على الغضب الشعبي، ليس فقط عبر إفراد مساحات واسعة للحدث الجلل، بل أيضاً عبر التركيز في صورة المُعتدي وبثّها وإعادة بثّها، وكأنها تريد أن تؤكّد ارتباط الجريمة (الاعتداء الجنسي) بملامح المدان، لون بشرته ووضعه القانوني باعتباره لاجئاً يعيش على نفقة الدولة. في المقابل، مشهد آخر وجريمة مماثلة، وإن كان من المفترض أن تكون أكثر جاذبيةً للإعلام، لم تستحوذ بما يفترض من متابعة من الإعلام نفسه، إلى حين صدور الإعلان الملكي في الأسبوع نفسه من الملك تشارلز بنزع الألقاب الملكية كلّها عن أخيه الأمير (سابقاً) أندرو، عقاباً له على تورّطه في فضيحة اعتداءات جنسية على قُصَّر، لعلاقته الحميمة مع رجل الأعمال الأميركي جيفري إبستين الذي قضى منتحراً في سجنه في نيويورك عام 2019. الأمير السابق الذي بات الإعلام يطلق عليه اسم “أندرو ماونتباتن ويندسور” لم يحظَ بنقمة الجنون الإعلامي قبل صدور القرار الملكي، رغم أن علاقاته القريبة بإبستين، وبصديقته السابقة التي تقضي عقوبة بالسجن 20 عاماً في نيويورك، كانت معروفةً منذ عام 2019 بعد المقابلة الكارثية التي أجرتها معه محطة “بي بي سي” (برنامج نيوزنايت)، وفيها اعترف بعلاقاته الوثيقة بالثنائي رغم نفيه باستمرار تورّطه في أي اعتداء جنسي على قُصَّر. لم يجرؤ الإعلام آنذاك على ملاحقة الأمير الذي حظي بدعم والدته الملكة الراحلة التي اقتصر عقابها على نزع بعض الألقاب العسكرية منه.
ركّز الإعلام على لون بشرة المُعتدي ليُثبّت صورة الرجل الأسود العنيف والمخيف ويقدّمه دليلاً على انهيار نظامَي اللجوء والسجون
أقام الإعلام البريطاني موازنةً غير مسبوقة بين تغطية إعلامية واسعة لهرب لاجئ أفريقي مدان بالاعتداء الجنسي على قاصر، وأمير متورّط في فضيحة العصر الجنسية في الاعتداء على فتيات قُصَّر من مجموعة من النُّخب. شكّل خروج مذكّرات فرجينيا جيوفري، الضحية الأبرز التي لاحقت أندرو قضائياً في السابق، مناسبةً للضغط من أجل إخراج الأمير نهائياً من العائلة الملكية. اتهمت فرجينيا في مذكّراتها الصادرة بعد وفاتها أندرو بأنه “يشعر بالاستحقاق، كما لو كان يعتقد أن ممارسة الجنس معي حقّه الطبيعي”، وفقاً لمقتطفات من الكتاب نشرتها صحيفة الغارديان قبل صدوره (“فتاة لا أحد”). لم يجرؤ الإعلام البريطاني على ملاحقة الأمير قبل أن تقوم بذلك الضحية التي اختارت الانتحار. الآن وقد أصدر الملك حكمه بنفي شقيقه من الأضواء، سوف تسقط البقرة أخيراً، كما يقول المثل، ويكثر ذابحوها في قاعات التحرير البريطانية.
المصدر: العربي الجديد






