
إنه سؤال “المليون” في سوريا اليوم، بعد قرار المشغلَين الوحيدَين، المنفردَين بسوق الاتصالات السورية، رفع أسعار باقات الاتصالات والانترنت، بنسب تراوحت بين 70 إلى 100%، وحتى 200% في بعض الباقات.
ويمكن قول الكثير مما يعبّر عن الحنق حيال أداء الشركتَين الاحتكاري. من ذلك، أنهما تصدران قرارات رفع الأسعار بالتزامن، وكأنهما شركة واحدة. ناهيك عن تقاسمهما للمواقع الجغرافية، وتعاونهما الفني والإداري في كثير من الأحيان، وفق المعلومات المتاحة. لكن، في الوقت نفسه، يصعب وضع كل “بيض الاتهام” في سلّة الشركتَين، كما أرادت أن تفعل وزارة الاتصالات، في بيانها، الذي زاد الطين بلّة.
الوصف الذي ورد في بيان الوزارة، بأن الشركتَين خاصتَان، مستقلتان مالياً وإدارياً، وتتحملان تكاليف تشغيلية فعلية، لم يكن موفقاً البتة. ذلك أن ملكية الشركتَين، اليوم، موضع اشتباه، نظراً للمعلومات المتاحة، التي تربطهما بأعلى هرم السلطة القائمة اليوم. واللافت أنه حتى في برنامج “على الطاولة”، الذي يقدمه الإعلامي معاذ محارب، على “الإخبارية السورية”، لم يجرؤ أحد من الضيوف على التطرق على نحو مباشر إلى هوية “المالك الحقيقي” للشركتَين. ناهيك عن أن الشركتَين، وكذلك وزارة الاتصالات، رفضوا إرسال من يمثلهم في حلقة البرنامج التي تناولت القضية الأكثر سخونة لدى السوريين، اليوم. كذلك وردت إشارة غير موفقة أخرى، في بيان الوزارة، بخصوص التكاليف التشغيلية الفعلية التي تتحملها الشركتان، في تبرير لرفع الأسعار. إذ، ووفق الخبيرة الاقتصادية، الدكتورة رشا سيروب، فإن أرباح “سيريتل” الصافية كانت في النصف الأول من العام الحالي، 465 مليار ليرة سورية (نحو 38 مليون دولار). في حين أنَّ أرباح “إم تي إن سوريا”، عن الفترة نفسها، بلغت 130 مليار ليرة سورية (نحو 11 مليون دولار). وكما هو معلوم، فإن الشركتَين تقدمان إفصاحات دورية بخصوص وضعهما المالي، بوصفهما مدرَجتين في سوق دمشق للأوراق المالية. لذا كان من الغريب أن يلمح بيان الوزارة إلى عجز الشركتَين، مالياً.
وناهيك عن التدني الشديد في جودة الخدمات المقدمة من الشركتين، تأتي الأسعار الجديدة لتضع تكاليف الاتصالات في سوريا على قدم المساواة مقارنة بتكاليفها في دول جارة أو حتى في دول غربية، مستقرة، ووسطي الأجور فيها أعلى من سوريا، بعدة أضعاف –إن لم نقل بعشرات الأضعاف-.
وبالعودة إلى “سؤال المليون”. من يملك شركتَي سيريتل وإم تي إن سوريا؟ فكما هو معلوم، قبيل سقوط نظام الأسد، كانت الشركتان خاضعتين فعلياً لرأس النظام، بشار، وزوجته، عبر شخصيات، أبرزها، يسار إبراهيم، خازن أموال السلطة يومها. فسيريتل، انتُزعت حصص ملكيتها الرئيسة من رامي مخلوف، ابن خال الأسد، منذ العام 2020. ثم، أُخضعت إم تي إن سوريا، للحراسة القضائية، بعد فشل مفاوضات الاستحواذ عليها من شركتها الأم، الجنوب إفريقية. لتصبح تحت إدارة واجهات محسوبة على يسار إبراهيم، أيضاً. أي إن الشركتَين ليستا خاصتَين. ولم تكونا مستقلتَين مالياً وإدارياً، كما ادّعى بيان وزارة الاتصالات. إلا إن بيعتا لجهات خاصة، من دون إعلان رسمي، من جانب سلطات “العهد الجديد”!
ولا توجد أية معلومات رسمية توضح من يملك “سيريتل” و”إم تي إن سوريا”، اليوم. ومع غياب الشفافية المطلق هذا، تشيع المعلومات غير الرسمية، الصادرة عن وسائل إعلام عربية أو أجنبية. أبرز من قدم تفاصيل عن إدارة شركتَي الخليوي في سوريا، هما تحقيق لـِ “درج” في حزيران الفائت، وآخر لـِ “رويترز” في تموز الفائت. كشف التحقيقان أن الشركتَين خاضعتان فعلياً لإدارة لجنة تابعة للقصر الجمهوري، تدير إرث “الأسد” الاقتصادي والمالي. ووفق ما ورد في تحقيق “رويترز”، فإن شقيق الرئيس أحمد الشرع، الأكبر، هو من يدير هذه اللجنة. ووفق تحقيق “درج”، فإن إيرادات الشركتَين مخصّصة لتمويل رواتب عناصر الأمن والدفاع في الدولة.
قد يكون من الصعب على ممثلي السلطة الراهنة، أن يقولوا للشعب، إننا نموّل رواتب عناصر الأمن والدفاع، من جيوبكم، على نحو مباشر. خصوصاً مع ما يتم تداوله عن رواتب مجزية للغاية، في هذين القطاعين. كذلك لا توجد أرقام أكيدة، أو معلومات رسمية عن جداول الرواتب في هذين القطاعين. وتُلتقط المعلومات من مصادر غير رسمية. وبالرغم من صعوبة مصارحة الشارع بذلك، فإن النتيجة، المزيد من تفعيل الشائعات والأقاويل، وصولاً إلى اتهام الذمة المالية لكبار رجالات “الدولة” اليوم. نظراً لغياب أية تفاصيل عن كيفية إدارتهم لواحدة من أبرز مصادر الدخل للدولة في سوريا، تذهب تقديرات غير رسمية إلى أنها تصل إلى نحو 12% من الإيرادات.
إحدى حيثيات هذه القضية، الوعد بتحسن مرتقب لجودة خدمة الإنترنيت، على غرار التحسن الذي طرأ على خدمة الكهرباء، والتي تراجعت ساعات التقنين فيها، على نحو نوعي، بُعيد رفع أسعارها، مؤخراً. وهو الرفع الذي ما يزال يثير استياء كبيراً في الشارع السوري. وقد ألمح بيان وزارة الاتصالات لذلك، عبر إلزام شركتَي سيريتل وإم تي إن سوريا، بتحسين جودة الخدمة خلال 60 يوماً. أما الحيثية الأخرى، فتتعلق بجذب الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع الاتصالات، على غرار ما حدث في قطاع الكهرباء. إذ بعد أيام فقط من رفع أسعار الكهرباء، وُقّعت الاتفاقيات النهائية لإنشاء أربع محطات كهرباء باستطاعة إجمالية تبلغ 5000 ميغاواط وبقيمة 7 مليارات دولار، مع تحالف الشركات الدولية الذي تقوده “أورباكون” القابضة –القطرية-.
وفي الوقت الذي يمكن فيه تفهّم معضلة الحاجة لتمويل أجنبي لإعادة إعمار البنية التحتية لقطاع الاتصالات، المتهالكة والمدمرة في كثير من المناطق، لا يمكن في الوقت نفسه، تفهّم حالة “الاستغباء” التي وُوجهَ الشارع بها. خصوصاً في عصر الإعلام المفتوح وغير الرسمي. لذا كانت على السلطة أن تملك الجرأة على مصارحة السوريين، بأنها بحاجة لتحسين خدمات قطاعات سيادية كالأمن والدفاع وأدائها، بتمويل من السوريين أنفسهم، إلى حين تحسّن الأوضاع. بدلاً من رمي الكرة في سلة شركتَين، يديرهما أشخاص معينين أساساً، من جانب الممسكين بزمام الحكم في البلاد.
المصدر: المدن




