في مأزق الوطنية والمواطنة الشرقية

جمال الشوفي

لطالما حاول الفكر السياسي العربي، والمشرقي خصوصاً، تحديث المفاهيم العصرية التي نعيشها في ظل متغيرات الربيع العربي الهائلة؛ لكنّ جدل الفكر النظري يبدو أنه لم يلامس فعلياً الواقع الاجتماعي والسياسي الذي نعيش ارتداداته في أثناء مسار التغيير القائم. إذ تبرز على ساحات الشأن العام جمل نظرية بقيت، إلى زمن سابق عريض، توصف بالمثاقفة الفكرية والتنازع الأيديولوجي من دون فاعلية أو أثر بالواقع الاجتماعي والسياسي، وإلا لماذا بدأت تطفو اليوم كثير من أنماط العزلة والتفكك وانتماءات ما دون الدولة والعودة إلى الاعتداد بالانتماءات المحلية الطائفية الضيقة، بوصفها وطنية خالصة ومواطنة تستحق السؤال؟

شهدت العراق ولبنان طفواً عمومياً للنزعات الطائفية، أدّت إلى تقويض فكرة الدولة برمتها، ووضعها في مسار المحاصصة من دون بنى الدولة العصرية المفترضة، تعيق التنمية والاستقرار وبناء الدولة العصرية، ومردّ تفسيرها سياسي. واليوم تفصح عن نفسها في سورية، بعد ثورة امتدّت 14 عاماً، النزعات الطائفية الضيقة نفسها. والمدهش فيها أن كل فريق يدعي امتلاكه “الوطنية” المحضة على مقاس انتمائه القَبْلي وحسب، متّهماً الآخر بالعداء وانكار الاختلاف، فإن كانت مرحلة فوضى ما بعد الثورات المرصودة تاريخياً في تاريخ الشعوب السابقة تعمل على تأجيج الصراعات المحلية للاستحواذ على المصالح السياسية والمادية، كما عبر عنها أوغست كونت: “يمكن للثورات أن تسقط الأنظمة، لكنها ليست، بالضرورة، أن تأتي بالبديل المثالي، هي فقط تغير قواعد المصالح المادّية”. ولكن أن يغدو هذا الصراع لا يقتصر على المكاسب المادية العامة على مستوى شؤون الحكم إلى مستوى ثقافي يتناول “الهوية الوطنية”، بحيث تصبح بذاتها تهمة يُرجم أصحابها، وليس فقط، بل تقتصر على “وطنية قَبْلية”، خصوصاً عند بعض النخب السورية وتسويقها في شرائح إثنية أو طائفية ضيقة، تختزل الوطنية عندها، فهذا خطر يجب علاجه والتوقف عنده. فكيف وأن المحتوى الثقافي التاريخي لشعوب هذه المنطقة، من حيث هي قبائل وإثنيات وطوائف، كما وصفها توم برّاك للأسف، فيما بقي مفهوما الوطنية والمواطنة نافلين في هذا السياق، فهل هي جمل نظرية لم تتموضع بعد في شؤوننا السياسية والحياتية؟

وحيث إنه لا بد من مواجهة الواقع التفكيكي السائد بدراسات كمّية ونوعية تحدّد أس المعضلة، وترصد سياقها وطرق علاجها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً. ولكن من الضرورة هنا الإضاءة على مفهومي المواطنة والوطنية والعلاقة بينهما، ومحاولة أسرهما على قدر منظوماتٍ وأطر ضيقة، تعود بنا إلى العصور الوسطى، فمفهوم المواطنة في المبدأ يكتنز حق الاختلاف بالرأي والفكر والتوجه والعقيدة والتدين، ومرتبط جذرياً بنموذج الدولة الحديثة التي كانت هدف ثورات الربيع العربي، حيث الحقّ والقانون الذي يساوي بين الأفراد ويصون الحرّيات ويحرص على الاختلاف جذراً للهوية الوطنية التعاقدية، والمرتبطة بالانتماء والوجود الطبيعي العام، وهو ما يجب علاجه نظرياً وواقعياً.

الوطنية والمواطنة متغايرتان معنى وشكلاً ووجوداً وطريقة حياة وحقوقاً، ولكنهما مرتبطتان عضوياً في الاحتواء والنماء وتجاوز الموروث التقليدي القبلي إلى موضوعة الدولة والدولة الحديثة

في المبدأ العام، الوطنية والمواطنة كلمتان صغيرتان لغوياً، لكنهما كبيرتان في الفعل الزمني، وتحقق الدول في المكان والموطن والحضارة. وهذا مسار طويل وشاقّ، بدأناه مع ثورات الربيع العربي، وما زالت مساراته، رغم حجم تضحياتها الجسام، تفترض الانفتاح على مجريات مختلفة وينابيع سياسية فكرية فيّاضة خلاف مياهنا الآسنة في بؤسنا الأيديولوجي دينياً وسياسياً والمتشدد في صلابته كما يعكسها الواقع اليوم. فالوطنية والمواطنة متغايرتان معنى وشكلاً ووجوداً وطريقة حياة وحقوق، ولكنهما مرتبطتان عضوياً في الاحتواء والنماء وتجاوز الموروث التقليدي القبلي إلى موضوعة الدولة والدولة الحديثة، فالوطنية، من الوطن (Home Land) قيمة حميمية، ارتباط وشكل وجود عاطفيّ يدلّل ثباته على الانتماء والحماية والاستقرار والارتباط الوثيق بالوطن والأرض والتاريخ، وهذا إيجابي ومهمّ، ولكنه جامدٌ لا يتحرّك في المعنى والحضور ومعالجة الاختلاف بجذره الطبيعي. بينما تغدو المواطنة (Citizenship) فعلاً وسياقاً متحرّكاً قابلاً للامتداد والتوسع، وهي انتقال في المكان والزمان نفسيهما، حيث الوطنية والانتماء الحميمي وموازين الحماية والأمان والاستقرار شروط أولية للاستقرار والبناء، إلى الحقوق والاختلاف والتنوّع، إلى تحريك مجاري الحياة كافة، في أطر مختلفة عن تشكّلها الأول، لتصبح الوطنية (Nation) أساساً للدولة (State) القائمة على التعاقد بين المختلفين دينياً وسياسياً وفكرياً، وهذه مصلحة عليا. فالانتماء للقبيلة أو الملّة أو الطائفة أو الأمّة، كمجموع بشري قائم، ضرورة وجود طبيعية، تحرّكها مفاهيم الانتماء والحماية، لكنها لا تبني سوى عقد أهلي على الاحتواء والانصهار في بوتقة اللون الواحد. وهذه كانت وما زالت قابلة للاستثمار فيها بشكل مسيّس، في ثبات الوجود تكريساً لسلطة الحماية وتأمين الأمان والاستقرار، حتى على مستوى القبيلة والعشيرة والطائفة، ما شكّل ويشكّل سُلطاتٍ محلية تشابه تلك الديكتاتوريات وأنظمة التسلّط والعسكر في نموذج الدولة التسلطية المشرقية (بتعبير خلدون حسن النقيب) التي حكمت المنطقة عقوداً بالراية نفسها في الحماية والاستقرار. بينما أية صفة للاختلاف البشري في تعدّد أنماطه وأفكاره وتمدّد حرياته السياسية والفكرية والدينية، فيتم احتكارها وإحالتها أطراً جامدة مقولبة، لا تستوعب فكرة الشعب إلا كرعايا في حلقات الطلائع والشبيبة والنقابات المدجّنة، وكلّهم يهتفون للوطن وقائد الوطن، فالوطنية المقولبة هذه تنزع صفة الوطنية عن أيّ وجود مختلف فكراً أو رأياً، وذلك لخروجه عن نسق الانتماء المحدّد والثابت فئوياً وسياسيا ًودينياً، فكانت سلطات الشرق والفكر السياسي المرافق لها متشاركة في نفي الوطنية، وتخوين المختلف، عن كلّ ما يخالفها القول والتوجّه، ما أقام أعتى أشكال الاستبداد والمعتقلات وجرائم الحرب التي عشناها. فهل نكرّرها بطرق أضيق، ولكن بالمعنى والتوجه والمحتوى نفسه؟

قدّمت الثقافة العصرية في الدول الأوروبية نموذجاً لدولة المواطنة المستقرّة، دولة تجاوزت أسطورة الثبات والوطنية إلى أطر الإنسان وتمايزاته، أفعاله وأفكاره وأحلامه، منتقلة من وجوده الأوّل الطبيعي، وجوده الحقّ والبديهي المعبّر عنه وجدانياً بالوطن والوطنية، إلى وجود يحتوي ويتضمن القدرة على التفرّد وممارسة الحريّة والاختلاف، وسيله متعدّد الاتجاهات: فكراً وسياسية وعلماً وفناً وأدباً وديناً، فبات مواطناً. الانسان هنا وطنيّ بالانتماء والهوية، وكائن مفكّر واجتماعيّ ومبدع له الحقّ بالاختلاف والتحرّك بشتى شؤون الحياة كمواطن ذي شأن وقيمة يمتلك حقوقه ويمارس حريته في الوطن. حينها يصبح الوطن زماناً متحركاً قيمةً وإنتاجاً وطوراً حضارياً، وهذه لا تلغي أبداً قيمة الوطن والأرض والانتماء، بل تضيف إليها الحقوق الإنسانيّة العامة وضرورة احترام الاختلاف والتنوع فيها، فهي عوامل تحفيز وبناء لا عوامل هدم وتفكيك.

لم ننجز الاختلاف بعد، ولم ننجز مشروع التعاقد على دولة وطنية عمومية، وما زلنا نقف على أعتاب ما دونها

في الوطنية المحضة، تنتزع الصفة عن كلّ من يفكّر بطريقة مختلفة، وتهمة الخيانة التي مارستها سلطات الشرق، واليوم تحاولها شبهة السلطات القبلية الطائفية المحلية قيد التشكل، تنزع الفرد من أرضه، من وجوده، من انتمائه الطبيعي الأوّل، وتقيم مذبحة للوطن بأكمله، وما أشدّ بؤس السوريّين لغة وفكراً ووجوداً حين ما زالوا يقفون عند فكرة الوطنية المختزلة بسلطة أو ملة أو طائفة وتنزعها عن الآخرين، فالحدث السوري في المرحلة الانتقالية هذه باتت جملاً واقعية، تستوجب التوقف عندها بمسؤولية وحرص. حيث باتت تظهر للعيان جمل “الوطنية” المحلية الكردية والدرزية والسنية والعلوية وتختزل الوطنية على قدر مساحاتها الضيقة إثنياً، وليس فقط، بل أيضاً تتنكّر للوطنية العمومية السورية، وتنسى عن جهل وإرادة أن الاختلاف كمحتوى أساسي للمواطنة ليس نقيض الوطنية كهوية يجب هدمها، بل حلقة أوسع وأكثر عصرية وحداثة وإنسانية وأكثر عدالة في تحقيق الحقوق والحريات. والعجيب في الموضوع أن جميعها تطرح المواطنة شعاراً وتتنكّر له فعلياً وممارسة، حين تنكر الاختلاف وتحيله إلى خيانة عامة. وكأننا لم نعش تجربة “البعث” الاستبدادية، وما فعلته من ويلات وكوارث، فإن كان اشتداد الصراع المحلي السوري الدموي، بعد سقوط النظام، أعاد موضوعة الحماية الوجودية إلى واجهة الصدارة الثقافية والسياسية السورية اليوم، لكن لم يتسنّ للمجتمعات الإثنية هذه بعد أن تعيش في ظل سلطات اللون الواحد الدينية أو الأيديولوجية، فكيف وأن الشعار المطروح الوطنية أو الخيانة.

لم ننجز الاختلاف بعد، ولم ننجز مشروع التعاقد على دولة وطنية عمومية، وما زلنا نقف على أعتاب ما دونها، فما لم نحسم موضوع المواطنة بالحوار والجدل، بفكر التنوير والتعاقد والتوافق على الاختلافات على أشدها فأخطارنا تزداد مؤشّراته. وللأسف، ننتكس عن عصر التحرّر الوطني منتصف الخمسينيات، حيث سقطنا في مستنقع الاستبداد العسكري، والخشية أن نسقط في مستنقع الاستبداد الإثني والطائفي وادّعاء الوطنية على مقاسه وحسب.

“الزمان مكان سائل، والمكان زمان ثابت”، مقولة ابن العربي محي الدين التنويرية سبّاقة في عصره، وتحاكي أحوالنا في الوطنية والمواطنة اليوم، فحركة الزمان نمو وتقدّم، سيل وانبعاث وتغير. هكذا يكون الماء في أصله، فكيف إن تحوّل المكان، الموطن، إلى سيلٍ قابلٍ للانبعاث وتحريك معطيات المكان إلى وجود قابل للحياة. بينما التقوقع والتصلّب حالة تشكّل وثبات، خصائص قائمة لا تتبدّل، وإن اختلفت أشكال جمادها، فكيف وإن تصلّب الماء، فسيأخذ شكل الإناء الذي وجد فيه. ويضيق الموطن على قاطنيه. من هذه الرؤية، يمكن مقاربة مفاهيم الحداثة المتعدّدة في المواطنة والدولة والقانون وسيادة القانون، فيما ثبات هوياتنا القبلية وتكفير بعضنا بعضاً لمجرّد الاختلاف بالأيديولوجيا والدين هو توقف الزمن وتقدمه الحضاري والثقافي وهذا انتكاس خطر لصفات الوطنية، فكيف وإن اختلفنا بالسياسة والممارسة، فالتهجير والترحيل والتنكيل والتخوين، فهل نستعيد جذوة أهداف الربيع العربي المتمثلة في رفض الاستبداد السلطوي والجمود العقائدي واحتكار الوطنية قبلية كانت أو سياسية أو دينية؟ سؤال برسم الثقافة وعصر ما بعد الاستبداد السياسي والتضحيات الجسام.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى