تغيرات الأجيال والأفكار والوعي والسياسة

نبيل عبد الفتاح

فى عصر السرعة الفائقة، والثورات العلمية والتقنية والرقمية، والذكاء الاصطناعى التوليدى، تبدو التغيرات نوعية ، وتشمل العقل والوعى الإنسانى الاجتماعى، والسياسى، وفى الأذواق والانفعالات، والاختيارات الفردية، وبعض الجيلية، بحيث يبدو عالمنا مختلفا عما ألفناه فى العقود الماضية، فى ظل تحولات فائقة السرعة فى التطورات التقنية الناعمة التى تعيد تشكيل عقل الأجيال الجديدة، واللغة، والوعى من ثم نحن سنكون إزاء أنساق لغوية رقمية في الأجل المتوسط داخل كل لغة تتشكل، وأيضا سيتشكل نسق لغوى كونى، ومن ثم أنماط جديدة من التفاعلات الرقمية عابرة للغات وللجيوسياسة، والدول والمنظمات الدولية والإقليمية ولغة السياسة والعلوم الإنسانية .
من ثم ستتنامى مساحات التلاقى بين الأجيال الرقمية (z)، وآلفا ثم بيتا فى تبادل الآراء والانطباعات والوقائع والأخبار فور وقوعها أيا كانت طبيعتها سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وفنية..الخ.
لم تعد الأجيال الرقمية تعتمد على وسائل الإعلام التقليدية المرئية، والمسموعة والمكتوبة إلا قليلاً جداً.
انعكاسات الأخبار، والحروب، والنزاعات الأهلية الدينية والمذهبية باتت سريعة جدا فى تأثيراتها على الأجيال الرقمية، وردود أفعالها، والمشاركة فى الجدل حولها، أيا كانت مستوياته من حيث السطحية ، اوالموضوعية، والدقة والمعرفة بخلفياتها التاريخية وتطوراتها.
ثمة جدالات وسجالات تنشب بين الأجيال القديمة والجديدة، وبين بعضهم بعضا على أسس دينية ومذهبية وهوياتية نمطية، بينما آخرين يحاولون تجاوز ذلك، وفق توجهات إنسانية وأخلاقية فى مواجهة دولهم، ونخبهم الحاكمة لاسيما فى الدول الأكثر تطوراً فى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، ودول أخرى فى آسيا وجنوب العالم على نحو ما فعل طلاب الجامعات، وبعض من القوى الحية الإنسانوية والأخلاقية تجاه سياسة الإبادة، والتطهير العرقى، والحصار الجماعى للدولة الإسرائيلية المحتلة للضفة الغربية وقطاع غزة بعد عدوان الخامس من يونيو 1967.
أيضا ظهرت انعكاسات الثورة الرقمية فى انتفاضات جيل (z) –الأشخاص الذين ولدوا مباشرة من عامى 1997-2012 بعد جيل الألفية (y) – هذا العام 2025 فى عدة دول مثل نيبال والبيرو والمغرب، ومطالباتهم بإصلاحات اجتماعية، واقتصادية، وارتفاع بعض معدلات التضخم، وتدهور الخدمات العامة فى الصحة، والتعليم، ونقص فرص العمل والبطالة والفساد، وإصلاحات التقاعد فى البيرو مثلاً، وتم تنظيم هذه التظاهرات عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعى وإجادة التعامل معه، فى مواجهة أنظمة الرقابة السياسية والأمنية الرسمية.
التغيرات الجيلية أحدثت فجوات بين العقل السياسى للقادة السياسيين فى الغرب والعالم، وبين جيلى z وآلفا ، ولم تستطع اللغة الرقمية، وسياسة المنشورات والتغريدات والفيديوهات الوجيزة المنظمة التى تعدها بعض الشركات، أو الأجهزة الرسمية –لاسيما فى دول الجنوب- قادرة على بناء الثقة لدى بعض من هذين الجيليين، أو تزييف وعى بعضهم السياسى والاجتماعى، ومن ثم تزداد الفجوات معهم ، وهو ما يؤدي إلى تفاقم مشكلات المحكومية السياسية، ولا مبالاة هذه الأجيال النسبية ببعض المؤسسات السياسية والأحزاب، والقادة، ومرجع ذلك انعكاسات السياسات النيوليبرالية ، وتراجع بعض من مفاهيم دولة الرفاهة، لاسيما فى سياسة الضمان الاجتماعى، وفرص العمل، والبطالة، فى ظل هيمنة الاستهلاك المكثف والتطورات التي ستشمل أسواق العمل مع الذكاء التوليدي والروبوتات . من هنا بدأت مؤشرات أولية عن بعض التواجهات الجديدة لدى بعض من جيل (Z) إزاء التحيزات الموروثة والمستمرة للاتجاهات الصهيونية المسيحية المناصرة والداعمة لإسرائيل وسياساتها العنصرية، وللدعم العسكرى، والمالي والاقتصادي الأمريكى والأوروبى لها، وذلك من بعض ميزانيات هذه الدول.
من تجليات رفض جيل z) ( ، وبعض من جيل (y) تمثلت فى رفض بعض من سياسات ترامب الاقتصادية والاجتماعية التى ترتكز على الشعبوية والعرقية والهوياتية التى تنطوى على تحيزات للعرق الأبيض، فى مواجهة التعدديات العرقية، والهوياتية الأخرى فى المجتمع الأمريكى، وإزاء الهجرة من المكسيك، وأمريكا اللاتينية ومن البلدان الأخرى.
ظهرت بعض الغرائبية السياسية الموظفة والمكثفة من ترامب وإدارته الجمهورية فى انتخابات عمدة مدينة نيويورك –التى يقطنها 8 ملايين نسمة فى ولاية تتكون من 20 مليون نسمة، والناتج المحلى لها وفق الإحصائيات 2 تريليون دولار، والمدينة نحو تريليون ونصف دولار –وهى المدينة ذات الثقل الاقتصادى والسياسى والثقافى، التى باتت فى نظر بعضهم مدينة العالم، من حيث التعددية.
فى أثناء العملية الانتخابية، ترشح زهران ممدانى المهاجر ذو الأصول الهندية والأفريقية ، والحاصل على الجنسية الأمريكية عام 2018، والمولود فى أوغندا عام 1991، الذى شكل تحديا للسياسة الترامبية من خلال حملة انتخابية غير تقليدية، ارتكزت على برنامج إصلاحى فى مجال السكن والإيجارات، ومواجهة غلاء المعيشة من خلال محال لتوزيع السلع والخدمات تديرها البلدية، ومضاعفة الحد الأدنى للأجور، فضلا عن تأمين خدمات مجانية لرعاية الأطفال، وتمويل هذه الخدمات الاجتماعية من خلال رفع معدلات الضرائب على الشركات. من ناحية أخرى رفض سياسة الإسلاموفوبيا، والعداء للسامية، ودعم الفلسطينيين، ورفض سياسة الإبادة الجماعية لإسرائيل. من خلال برنامج إصلاحى يقف على يسار الحزب الديمقراطى، ومعه السيناتور بيرى ساندرز.
كشفت الماكينة الانتخابية التى ارتكزت على أعداد كبير من المتطوعين، عن رفض لسياسة ترامب، ودعمه لخصمه آندرو كومو، واتهامه للمدانى بأنه يكره اليهود، بل وصف المؤيدين منهم للمرشح المسلم بأنهم أغبياء، ودعم مليارديرات عديدين لخصمه ، فضلا عن تهديد ترامب بحجب التمويل الاتحادى عن المدينة فى حال فوزه . حصل ممداني علي النصر الانتخابي فى ظل إقبال من الناخبين هو الأعلى منذ عقود وتجاوزه 50% من عدد الأصوات، والأهم حصوله على 30% من أصوات الناخبين اليهود فى المدينة وهو علامة تغيير في اتجاهات بعضهم خاصة في ظل هجومه علي السياسة الإبادية الإسرائيلية .
مرجع فوز ممداني تكوينه المتعدد الأسيوى/ الأفريقى/ المسلم، ومن ثم تعبيره عن التعدديات الهوياتية، ومن ثم كان ولايزال تعبيرا عن تعددية مدينة نيويورك، وفى ذات الوقت مهاراته الخطابية، فى التأثير المباشر على الناخبين، والأهم نزعته الإصلاحية داخل يسار الحزب الديمقراطى – وصفه ترامب بالشيوعي – ، مع بعض من الشعبوية المضادة للشعبوية النيوليبرالية العرقية والغرائبية الوظيفية لترامب، من خلال شعبوية إصلاحية تعددية، ضد معاداة السامية والاسلاموفوبيا ، ومع التحول الجنسي، وحقوق المثليين. خطاب سياسى مباشر، ومن خلال حملة انتخابية غير تقليدية قادرة على جذب الناخبين.
لا شك أن نجاح ممدانى ارتكز أيضا على الفجوات الجيلية بين النخب الديمقراطية، والجمهورية، وبين بعض الأجيال الجديدة الشابة ذات الهويات المتعددة داخل مدينة نيويورك، وهى أجيال عالم المابعديات، والتغيرات الاجتماعية، وفى التحولات الجنسية، وتغير نسبي فى وعيها السياسى والاجتماعى، عن أجيال النخبة الديمقراطية والجمهورية الأكبر سنا، والتى لا تزال تدور فى دوائر شبه تقليدية فى فكرها السياسى والاجتماعى النيوليبرالى، وورائهم مليارديرات الشركات الكونية الكبرى.
واكب فوز ممدانى بموقع عمدة مدينة نيويورك، ذلك أبيجيل سبانبرج الديمقراطية بحاكم ولاية كاليفورنيا، والديمقراطى أندريه ديكنز بولاية ثانية فى رئاسة بلدية اتلانتا، وفازت غزالة هاشمى عضو مجلس الشيوخ بمنصب نائبة حاكم ولاية فرجينيا، وفاز الديمقراطى كورى أكورنو برئاسة بلدية بيتسبرج، هذه النتائج الانتخابية شكلت مؤشر إيجابي للحزب الديموقراطي ، وشبه صفعة لسياسة ترامب والحزب الجمهورى الحاكم.
لا يمكن تعميم نتائج بلدية مدينة نيويورك على كافة الولايات والمدن الأمريكية، والأهم السياسة الأمريكية، وتركيبة النخب الأمريكية، إلا أن نتائج عمدة نيويورك تشير إلى مؤشر قد يتنامى مستقبلا مع الأجيال الجديدة لاسيما (z)، وآلفا، وبيتا فى المستقبل ، والتغيرات فى اللغة والوعى السياسى والاجتماعى الرقمى والذكاء التوليدى لدى بعض هذه الأجيال، لاسيما طلاب جامعات النخبة على نحو ما أظهرته تظاهراتهم ضد حرب الإبادة الإسرائيلية، وبعض هذا الجيل فى الانتخابات التى جرت فى مدينة نيويورك، وأيضا على ما ستسفر عنه إدارة ممدانى للمدينة وإنجازه لبرنامجه الانتخابى.
ثمة بوادر تغيير نسبى يحدثه فى عالمنا مع الأجيال الجديدة، ومن ثم مع عقل مغاير لما ألفناه ما بعد الحرب الباردة.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى