في أهمية زيارة الشرع واشنطن

عمر كوش

حظيت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع واشنطن باهتمام ومتابعة كبيرين، خصوصاً من قطاعاتٍ واسعةٍ من السوريين، نظراً إلى أهميتها الاستثنائية، فهي جديرةٌ بأن توصف بالتاريخية، ولا تنحصر أهميتها في أنها أول زيارة رسمية لرئيس سوري إلى واشنطن منذ الاستقلال، بل لأنها ترقى إلى مصافّ الحدث السياسي شديد الحساسية، ونقطة تحوّل في وجهة سورية الجيوسياسية، وفي مسار العلاقات السورية الأميركية، إذ أنهت عقوداً عديدة من التأزّم والقطيعة. وبالتالي، تُطرح أسئلة كثيرة بشأن الحيثيات والدوافع وراءها، والمكاسب التي ستجنيها سورية والولايات المتحدة منها، وماهية الفرص التي ستفتحها أمام الجانبين، فضلاً عمّا ينبغي فعله في مرحلة ما بعد الزيارة، كي تتحوّل من مجرّد استعراض رمزي إلى نافذة فعلية لإنتاج نتائج ملموسة لصالح الشعب السوري.
مهدت واشنطن للزيارة باتخاذها خطواتٍ ملموسة لإنجاحها، وضمان عدم عرقلة ما تنوي إبرامه مع سورية، وكان منها مشروع القرار الذي صوت عليه مجلس الأمن بالإيجاب عشية الزيارة، وقضى بإزالة العقوبات المفروضة على الرئيس الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب، وتبعته إزالة وزارة الخزانة الأميركية اسمي الرجلين من قائمة العقوبات. وسبق أن بذلت الإدارة الأميركية جهوداً من أجل دفع الكونغرس إلى إزالة قانون قيصر، بالتزامن مع نداءات وجهتها الجالية السورية الأميركية، إضافة إلى حملات قادتها غرفة التجارة الأميركية ومنظّمات إنسانية تطالب برفع العقوبات “من دون شروط”، لتمكين الشعب السوري من العودة إلى الحياة الطبيعية. وقد دفعت كل هذه الجهود الكونغرس إلى اتّخاذ خطوة حاسمة، إذ أقرّ مجلس الشيوخ تضمين قانون “تفويض الدفاع الوطني” إلغاء قانون قيصر. وبعد نهاية اللقاء بين الرئيس ترامب مع الرئيس الشرع، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية تمديد تعليق هذا القانون ستة أشهر إضافية، الأمر الذي سيشكل حافزاً لإلغائه من مجلس النواب الأميركي، ما يعني إزالة جميع العقوبات الأميركية التي أثقلت كاهل السوريين، وشلّت الاقتصاد السوري برمته.
جاءت الزيارة إلى واشنطن بعد لقاءين سابقين بين الرئيسَين، الأميركي دونالد ترامب وأحمد الشرع، أولهما في الرياض، وبترتيب إقليمي، وشكّل اعترافاً أميركياً أولياً بشرعية القيادة السورية الجديدة، وثانيهما في نيويورك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، التي شكلت مناسبة كي يروي الشرع، في كلمته أمام جمعيتها العامة، حكاية سورية للعالم أجمع، بوصفها دولة طبيعية، تعتمد على لغة الحوار مع دول جوار الإقليمي والعالم، وتبحث عن الشراكات والمنفعة المتبادلة مع دول العالم أجمع. غير أن اللقاء الثالث جرى هذه المرّة تحت قبة البيت الأبيض، ما يعني الانتقال من مرحلة الاعتراف بالشرعية إلى مرحلة البحث عن شراكات سياسية وأمنية. وبالتالي، لم تعد الإدارة الأميركية تنظر إلى سورية بوصفها ملفاً أمنياً عليها معالجته، بل بصفتها دولة فاعلة لها دور في رسم وصياغة مستقبل المنطقة.
يمكن اعتبار انضمام سورية إلى التحالف الدولي خطوة ضمن مسارٍ أوسع تسعى منه سورية إلى القطع مع ماضيها، وإعادة تثبيت موقعها فاعلاً داخل النظامَين الإقليمي والدولي
تفيد تصريحات ترامب، عقب الاجتماع الذي جمعه وطاقم إدارته مع الشرع والوفد المرافق له، بأن الولايات المتحدة ستبذل كل ما في وسعها من أجل أن تنجح سورية، ما يعني مساعدتها في كل الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية “من أجل جعلها دولة ناجحة”. ولا يعود الأمر إلى ثقة الرئيس ترامب بالرئيس السوري فحسب، بل إلى أن الإدارة الأميركية ترى أن استقرار سورية ومعها منطقة الشرق الأوسط يضمن تحقيق مصالحها ومصالح إسرائيل أيضاً.
وقد اعتبر الرئيس الشرع في تصريحاته أن زيارته تشكل بداية لعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، وأن سورية بات حليفاً جيوسياسياً لها. وكشف أن المفاوضات مع إسرائيل صعبة، لكنها مستمرّة بدعم أميركي، ولم يتردّد في القول إن أي اتفاق مع إسرائيل سيتطلب انسحابها من المواقع التي احتلها بعد سقوط نظام الأسد.
يبدو أن الملف الأمني كان في صدارة أولويات اجتماع الرئيسَين، إذ بالإضافة إلى بحث الاتفاق الأمني مع إسرائيل جرى الاتفاق على انضمام سورية إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إذ كتب وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى على منصة إكس أن سورية وقعت اتفاق تعاون سياسي مع التحالف الدولي، فيما اعتبر المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، توم برّاك، أن الحكومة السورية أضحت شريكاً “أساسياً للولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم الدولة والحرب على الإرهاب”.
يمكن اعتبار انضمام سورية إلى التحالف الدولي خطوة ضمن مسارٍ أوسع تسعى منه سورية إلى القطع مع ماضيها، وإعادة تثبيت موقعها فاعلاً داخل النظامَين الإقليمي والدولي، فبعد سنوات من الحرب والعزلة، تحاول سورية أن تجد لنفسها موقعاً مناسباً، مستفيدة من حاجة القوى الإقليمية إلى تثبيت الاستقرار، كي تتمكّن من إنعاش اقتصاداتها، ومن حاجة الولايات المتحدة إلى الدولة السورية شريكاً، يمكنه إدارة ملفات الأمن والمصالح على الأرض. إضافة إلى أن الانضمام السوري إلى التحالف سيؤثر على حاجة واشنطن للتعامل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ككيان مستقلّ أو شريك مباشر خارج إطار الدولة السورية، الأمر الذي يفضي إلى إعادة تعريف الولايات المتحدة لدورها ضمن هيكلية أمنية موسّعة على الأرض السورية.
تلقف المحيط العربي التغيير السوري واحتضنه من دون شروط
اللافت عقد اجتماع عمل موسع، ضم وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيريه الأميركي ماركو روبيو والتركي هاكان فيدان، “بتوجيه من ترامب”، لمتابعة ما جرى الاتفاق عليه بين الرئيسين، الأميركي والسوري، ووضع آليات تنفيذ واضحة له. ويطاول الأمر، حسب الخارجية السورية، التوافق على المضي في تنفيذ اتفاق 10 مارس (2025)، بما يشمل دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري، في إطار توحيد المؤسسات وتعزيز الأمن الوطني. إضافة إلى الاجتماع تناول الوضع في الجنوب السوري.
تبدو المقاربة الأميركية للوضع في سورية، بوصفها امتداداً لنمط مؤسّساتي في إدارة النفوذ، يهدف إلى تحقيق إنجاز اختراق سياسي في الشرق الأوسط، بالنظر إلى موقع سورية فيه، فالتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية ليس أداة سياسية أو عسكرية فحسب، بل إطار جيوسياسي واسع الاستخدام، توظّفه واشنطن لإعادة توزيع الأدوار الإقليمية والاصطفافات، بما يخدم أهداف سياساتها الرامية إلى الحدّ من النفوذ الإيراني، وتأمين أمن إسرائيل وحدودها، وترسيخ قيادتها في النظام الدولي. وفق هذه الرؤية، ترسم الإدارة الأميركية حدود شراكة مع الإدارة السورية الجديدة، بوصفها جزءاً من رؤية أمنية متكاملة.
في المقابل، سعى الرئيس الشرع إلى استغلال الزيارة من أجل دفع الإدارة الأميركية لتنفيذ الرفع الكامل للعقوبات المتبقية على بلاده، وخصوصاً قانون قيصر، ومساعدة سورية في النهوض اقتصادياً، والمساهمة في مشاريع التنمية وإعادة الإعمار السوري، فضلاً عن الحصول على مساعدات أميركية ودولية. ولعل نتائج الزيارة لن تنعكس جميعها بشكل آني على الوضع في سورية، خصوصاً وأن مهامّ عديدة تنتظر الإدارة السورية في الوضع الداخلي، الذي يتطلب اتخاذ مزيدٍ من الخطوات في اتجاه توسيع المشاركة وفق مبدأ المواطنية المتساوية، وتوفير البيئة المناسبة أمنياً واقتصادياً لجذب الاستثمارات الضرورية للشروع في ملف إعادة الإعمار والتنمية.
تحاول سورية أن تجد لنفسها موقعاً مناسباً، مستفيدة من حاجة القوى الإقليمية إلى تثبيت الاستقرار، كي تتمكّن من إنعاش اقتصاداتها
أخيراً، تكتسي زيارة الشرع واشنطن أهمية خاصة من أنها تتوّج مساراً متكاملاً على المستويَين، الداخلي والخارجي، بدأ منذ سقوط نظام الأسد البائد، إذ أرسلت القوى الجديدة إشارات طمأنة إلى الداخل والخارج، بأنها لن تعتدي على أحد، ولن تشكل تهديداً لأيٍّ من دول الجوار، وتريد إعادة بناء ما دمّره نظام الأسد. وقد تلقف المحيط العربي التغيير السوري واحتضنه من دون شروط، وأسهمت دول هذا المحيط، خاصّة السعودية وقطر وتركيا في دفع الإدارة الأميركية إلى رفع العقوبات عن سورية وبناء شراكات معها، الأمر الذي تقاطع من رغبة الإدارة الأميركية في استقرار المنطقة ضمن مشروعها ومصالحها الحيوية.
المستغرَب أن معلقين سوريين اعتبروا أن الزيارة تدخل ضمن نهج إرضاء الخارج الذي تحوّل إلى سياسة للاستقواء في الداخل والقبض عليه. وذهب أحدهم إلى اعتبار أن كل ما تقوم به السلطة الجديدة في سورية من دبلوماسية نشطة من أجل تطبيع علاقتها مع دول الجوار والعالم، هو محاولة منها للحصول على الدعم الخارجي في معركتها من أجل البقاء في السلطة، وتوسيع مناطق النفوذ والسيطرة، على حساب جماعاتٍ محليةٍ أخرى. ولم يكلف هؤلاء عقولهم بالتفكير في مدى انعكاس تطبيع العلاقات مع دول العالم وإزالة العقوبات على حياة الشعب السوري، الذي ينتظر تحسّن الأوضاع المعيشية، بعد أكثر من خمسة عقود من الدمار الذي سبّبه نظام الأسد البائد.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى