
رفدت مأساة غزة الكبرى، ولا شك، انتصار عمدة نيويورك الجديد زهران ممداني، نجل البروفسور محمد ممداني الأكاديمي العريق المحاضر في جامعة كولومبيا في الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والدراسات الأفريقية (له مؤلفات مترجمة إلى العربية) والمناضل القديم ضد الاستعمار باحثاً ومحلّلاً لجذوره ومظاهره، وبخاصة في القارة الأفريقية التي عاش فيها وخبر شؤونها وشجونها بالعمق. والابن سرّ أبيه. لطالما كانت قضايا التحرّر في العالم ماثلة في يوميات العائلة المثقّفة بامتياز، فالأم أيضاً سينمائية معروفة عالمياً واسمها ميرا ناير، حازت أفلامها جوائز في أكبر المهرجانات السينمائية من كانّ إلى برلين، ونالت إعجاب النقاد والجمهور. في هذا الجوّ العائلي المثقف والراقي والمدافع عن القضايا العادلة والمناهض للتمييز العنصري والاستعمار والإمبريالية المتوحشة، تشبّع الابن الوحيد زهران بقيم والديه وأفكارهما وثقافتهما والتزامهما الإنسانيّ.
تعود علاقة زهران ممداني بقضية فلسطين إلى زمن سابق بكثير لمأساة غزّة الإبادية، فمذ كان طالباً في كلية بودوين الجامعية مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، انخرط في القضية الفلسطينية وأسّس حركة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، وقاد حملة لإقناع كلية بودوين بالمقاطعة الأكاديمية للمسمّاة “إسرائيل” التي تمارس احتلالاً قمعياً وسياسات عنصرية. وحاولت منظمة “جي ستريت يو” الليبرالية اليهودية المؤيدة كيان الاحتلال والداعمة حلّ الدولتين استمالة ممداني إليها، لكنه انسحب من العرض بأدب، موضحاً أن “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” تتبع سياسة مناهضة للتطبيع، ما يعني أنّها لا تتعامل مع الجماعات التي تدعم “إسرائيل” تحت أي عنوان، وإن يكن “حل الدولتين”. وعلى ضوء هذه الوقائع، يستحيل الظنّ أنّ ممداني “ركب” موجة الاعتراض على الإبادة في غزّة لإرضاء فئة من ناخبيه.
في فترة ترشّحه، بدا دفاعه عن القضية الفلسطينية، وترداده وصف ما يحصل في غزّة بالإبادة، قوة دافعة لحملته الانتخابية وأكبر نقطة ضعف له في الوقت نفسه، إذ كان يخوض (ولا يزال، وفي مقبل الأيام) مواجهة طاحنة وقاسية مع أكثر من جهة متضرّرة من وصوله، وفي مقدّمها اللوبي الصهيوني في عقر داره النيويوركية، والأوليغارشية المالية والطبقة الفاحشة الثراء التي تكره فكرة نجاح شخص يحمل أفكاراً “اشتراكية” تصبّ في مصلحة الطبقتين، المتوسّطة والفقيرة، في المدينة الغالية والمكتظّة، المتهالكة أيضاً، وكثيرة المشكلات الاجتماعية والبنيوية. فأن يأتي شاب بمشاريع اجتماعية ثورية كمجّانية المواصلات والحضانات وإنشاء مخازن منخفضة الأسعار للبقالة والمواد الغذائية، إنما يعني ذلك دخول أكبر مدينة في الولايات المتحدة عصراً جديداً تماماً يكسر هيمنة رأس المال والمحتكرين وكبار الأثرياء الذين يدفعون ضرائب قليلة.
طولب زهران ممداني مراراً بالاعتذار والتراجع عن دعمه غزّة وفلسطين بذريعة أنّه أضحى “بوقاً لحماس”، إلا أنّه رفض بعناد التراجع أو الاعتذار
طولب زهران ممداني مراراً بالاعتذار والتراجع عن دعمه غزّة وفلسطين بذريعة أنّه أضحى “بوقاً لحماس”، إلا أنّه رفض بعناد التراجع أو الاعتذار، واثقاً من أنّه يحظى بتأييد معظم التجمّعات والفئات الشبابية في نيويورك. وقد أظهرت الإحصاءات بعد فوزه أنّ نحو 62% من ناخبيه صوّتوا له بسبب فلسطين، وأنّ جريمة الإبادة في غزّة كانت ذات تأثير حاسم في فوزه، وأنّ 75% من الشبّان بين سنّ 18 و29 صوّتوا له، إضافة إلى 33% من أصوات اليهود في المدينة. بقيت قضية غزّة الكبرى بالنسبة إلى ممداني، ولم يتزحزح موقفه بشأنها. كيف يبدّل موقفه وقد نشأ منذ يفاعه في عائلة تستقبل في بيتها مفكرين فلسطينيين أميركيين، مثل إدوارد سعيد ورشيد الخالدي ومنى الخالدي. في ذلك الوقت كان والده البروفسور ممداني يُنهي دراسة عن الإبادة الجماعية في رواندا التي خلّفها الاستعمار. ولذلك رسخ مفهوم الإبادة في عقل زهران فتًى، وساهم والده في تشكيل نظرته إلى قضايا الاستعمار والإبادات، وإلى الأشكال المتعدّدة للنضال، إذ وقّع والده عام 2002 على عريضة لأعضاء هيئة التدريس في جامعة كولومبيا تدعو إدارة الجامعة إلى سحب استثماراتها من الشركات التي باعت أسلحة لـ”إسرائيل”. وفي ربيع عام 2024، وقف ممداني الابن ملتحفاً الكوفية الفلسطينية وسط طلاب جامعة كولومبيا الذين أقاموا مخيماً اعتصامياً للمطالبة بالأمر نفسه. وجدير بالذكر أن والدة زهران سبق لها أن رفضت علناً عام 2013 دعوة وجّهت إليها لحضور مهرجان حيفا السينمائي الدولي، قائلةً إنها لن تزور كيان الاحتلال قبل زوال نظام الفصل العنصري وسقوط جدرانه، مقارنةً الوضع في فلسطين بالوضع الذي كان في أفريقيا الجنوبية.
يقول محمود ممداني عن الصراع في فلسطين إنه “ليس صداماً بين اليهود والذين يكرهونهم، بل هو بالأحرى بين المستوطنين والمجتمع الذي طردوه”، معتبراً “أن الصهاينة تحوّلوا بإنشائهم دولة يهودية من ضحايا الهولوكوست إلى ممارسين للاضطهاد، يستولون على الأراضي الفلسطينية، ويخلقون بنية قانونية تجعل الفلسطينيين مواطنين من الدرجة الثانية”، داعياً، في كتبه ومحاضراته، إلى إنشاء دولة ديمقراطية علمانية واحدة، على غرار جنوب أفريقيا، حيث درّس هناك في أعقاب زوال نظام الفصل العنصري، مؤكّداً أن الحل السياسي السبيل الوحيد للخروج من المأزق.
خلاصة القول، ليس موقف زهران ممداني من القضية الفلسطينية طارئاً على خطابه المعلن، وليس انتخابياً أو انتهازياً أو شعبوياً، بل هو جزء عضويّ من قيمه وتربيته العائلية، ضدّ الظلم والعنصرية والعنف والقتل والإبادة، موقف ينتمي إلى الفكر التحرّري ضدّ الاستعمار أكثر منه إلى الاشتراكي الذي وُسم به، للإخافة، من حيتان المال والسلطة في نيويورك العظيمة، مدينة الثقافة والأنوار والموسيقى والمسرح والفنون على أنواعها، التي حصل فيها حدث كبير سمّيته “طوفان نيويورك” لأن “طوفان الأقصى” كان أحد روافده، وأمواج غزّة بلغت شواطئ نيويورك.
المصدر: العربي الجديد






