تحدّيات الثورة الرقمية في سياق عربي

أنور الجمعاوي

شهد الاجتماع البشري مع منعطف الألفية الثالثة تحوّلاً جذرياً غير مسبوقٍ في أنماط الحياة والعمل والمعرفة، بفعل الثورة الرقمية التي باتت تمسّ كل تفاصيل الوجود الإنساني. ونعني بالثورة الرقمية التطوّر الهائل في تقنيات الاتصال ومعالجة المعلومات والنفاذ إليها، وإدارة البيانات، وتبادل الأفكار بالاعتماد على الوسائط الرقمية والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء، والروبوتات، وقواعد المعطيات الضخمة، والانتقال من اقتصادٍ رعويٍّ أو زراعيٍّ أو صناعيٍّ إلى ما يسمّيه مانويل كاستليس اقتصاد المعلومات، القائم على الاستثمار في تصنيع المعلومات ورقمنتها وتوليدها، وتيسير نفاذ المستخدمين إليها، وتأمين وصولهم إلى المنتَجات والخدمات بسهولة، وتحقيق التواصل بين الأفراد والجماعات والمؤسّسات بسرعة فائقة، تختزل الزمان والمكان والكُلفة.
وليست الثورة الرقمية مجرّد مسار تقني، بل ظاهرة حضارية شاملة أعادت تشكيل مفاهيم القوة والمعرفة والثقافة في العالم، وغيّرت طرائق الإنتاج والتواصل، وأنماط الاستهلاك والإبداع، بل غيّرت حتى مفهوم العمل نفسه. وفي خضمّ هذا التحوّل الكوني، يُواجه العالم العربي تحدّيات مركّبة شتّى، تتعلّق بمدى قدرته على التكيّف مع الواقع الرقمي الجديد، والانتقال من موقع المستهلك إلى موقع المنتج في فضاء الثورة الرقمية. والثابت أنّ البنى الاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية للاجتماع العربي، لا تزال بعيدةً عن مشروع الرقمنة الشاملة. ولذلك تجلّيات عدّة، وخلفيات وتداعيات جمّة.
غياب بيئة تشريعية مرنة وبنية مالية محفّزة يعرقل نشوء منظومة رقمية عربية متكاملة
رغم الانتشار الواسع لاستخدام الإنترنت في معظم الدول العربية في العقدَين الماضيَّين، يُلاحظ الدارس ضعف المساهمة العربية في الإنتاج الرقمي العالمي. فالمحتوى العربي في الشبكة لا يزال محدوداً كمّاً وكيفاً، يشكّل نحو 3% من إجمالي المحتوى العالمي. وهي نسبة منخفضة مقارنة بعدد السكّان الناطقين بالعربية، وبعدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي. ويشير ذلك إلى وجود فجوة بين حجم المحتوى الرقمي باللغة العربية وحجم مجتمع مستخدمي لغة الضاد. في المقابل، تزيد نسبة المحتوى باللغة الإنكليزية عن 58% من المحتوى العالمي. وأشارت بعض الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من المحتوى الرقمي العربي (نحو 80%) عبارة عن تكرار ونسخ ولصق، ممّا يُخبر بضعف فادح في إنتاج محتوى عربي مكثّف وأصيل ومتفرّد. ومعلوم أنّ الاعتماد على منصّات أجنبية في التواصل واجتناء المعلومات يرسّخ التبعية الرقمية للآخر.
كما تُظهر تقارير منظّمات دولية أنّ أغلب الاقتصادات العربية لم تُدرج بعد التحوّل الرقمي ضمن أولوياتها التنموية الاستراتيجية، بل ظلّت تتعامل مع التكنولوجيا باعتبارها أداةً مساعدة، وليست محرّكاً للنمو. والواقع أنّ الاقتصاد الرقمي بات حالياً أحد أهمّ مؤشّرات القوة في العلاقات الدولية، فالدول التي تستثمر في الابتكار والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، تمتلك أدوات النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري. في المقابل، لا تزال مُعظم الدول العربية تعاني من ضعف في البحث والتطوير، ومن محدودية الاستثمارات في الشركات الناشئة ذات الطابع التكنولوجي. كما أن غياب بيئة تشريعية مرنة وبنية مالية محفّزة يعرقل نشوء منظومة رقمية عربية متكاملة. تُضاف إلى ذلك مشكلات بنيوية كالبيروقراطية والفساد الإداري وضعف الشفافية، وهي جميعها عوامل تحدّ من فعالية التحوّل الرقمي في المجالين العام والخاص.
وتطرح الثورة الرقمية، على المستوى الثقافي، تحدّياً مضاعفاً على المجتمعات العربية يتمثّل في ضرورة الاندماج في الفضاء الرقمي من دون الذوبان فيه. فالعالم الرقمي الذي تقوده الشركات الكبرى والمنصّات العالمية يعيد إنتاج الهيمنة الثقافية الغربية بأساليب ناعمة، من خلال تصدير رموز وقيم ونماذج حضارية غربية في السلوك واللباس واللسان. ويترتّب من ذلك احتمال استلاب مكوّنات الهُويَّة الثقافية العربية، وفي مقدّمتها تهميش اللغة العربية في الفضاء الإلكتروني. لذلك، فإنّ بناء سياسات لغوية ورقمية عربية مشتركة لتوطين اللغة العربية في التطبيقات البرمجية والذكاء الاصطناعي، يُعدّ شرطاً أساسياً للحفاظ على خصوصيات الذات الحضارية العربية في عصر العولمة الرقمية.
على صعيد آخر، يمثّل التعليم إحدى أهمّ الساحات التي تتجلّى فيها الفجوة الرقمية. فالنظم التربوية العربية ما تزال في أغلبها تعتمد التلقين والحفظ، بينما تتطلّب الثورة الرقمية نموذجاً تعليمياً تفاعلياً، ينبني على التفكير النقدي والإبداع والتعلّم الذاتي والمهارات الرقمية المتقدّمة. فمحدودية المناهج العلمية، وقلّة الاستثمار في تكوين المعلّمين، وغياب المختبرات الرقمية في المدارس والجامعات في بعض البلدان العربية… كلّها عوامل تؤدّي إلى تأخّر الأجيال الجديدة عن مواكبة إحداثيات العصر الرقمي. كما أنّ عدم الانسجام بين مُخرجات الجامعات واحتياجات سوق العمل يحدّ من قدرة التعليم العالي على إنتاج رأسمال بشري مؤهّل لقيادة التحوّل الرقمي العربي.
التكنولوجيا وحدها لا تبني دولة تقدّمية إذا لم ترافقها إصلاحات مؤسّسية عميقة وديمقراطية فاعلة
ويواجه العرب تحدّياتٍ قانونيةً وسياديةً في المجال الرقمي، فالمجتمع الشبكي الجديد يطرح قضايا معقّدة تتعلّق بحماية الخصوصية والبيانات الشخصية، وبمكافحة الجرائم الإلكترونية، وبأمن المعلومات. وقد بدأت دولٌ عربيةٌ بالفعل في وضع أطر تشريعية وتنظيمية للأمن السيبراني، لكنّ هذه الجهود ما تزال مشتّتة وغير منسّقة على المستوى الإقليمي. كما أنّ الاعتماد المفرط على الشركات الأجنبية في مجالات البرمجة والحوسبة السحابية يجعل السيادة الرقمية العربية هشّة، ويجعل البيانات الوطنية عرضة للانتهاك أو السيطرة الخارجية. وقد كشفت الحرب الإسرائيلية أخيراً ضد بعض دول المنطقة قدرةَ جيش الاحتلال على اختراق أجهزة تقنية واتصالية عربية (حادثة تفجيرات البيجر في لبنان مثالاً). كما وظّف مسيّراته النفاثة لمسح مناطق القتال، وجمع المعلومات، واستهداف قيادات في المقاومتين الفلسطينية واللبنانية. ودلّ ذلك على هشاشة الحصانة الرقمية العربية من ناحية، وعن استثمار إسرائيلي واضح في الذكاء الاصطناعي، والرقمنة الموجّهة لأغراض استخبارية وعسكرية، من ناحية أخرى. ومعلوم أنّ تحقيق السيادة الرقمية عربياً، يقتضي إقامة بنية تحتية رقمية، مستقلّة ومُحصنة، وتطوير برمجيات محلّية، وتشجيع البحث العلمي العربي في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتات وإنترنت الأشياء.
ويبقى العامل السياسي من بين المحدّدات الأساسية في مسار الرقمنة العربية. فنجاح التحوّل الرقمي لا يتحقّق في غياب مؤسّسات ديمقراطية فاعلة وإدارة عمومية شفّافة. فالتكنولوجيا وحدها لا تكفي لبناء دولة تقدّمية أو لتقليص الفساد، إذا لم ترافقها إصلاحات مؤسّسية عميقة. لذلك، فإنّ إحداث ما يُعرف بالحكومة الإلكترونية في عدد من الدول العربية، رغم أهمّيته، ظلّ في حدود الخدمات الجزئية، ولم يتحوّل إلى مشروع شامل لإعادة بناء علاقة جديدة بين الدولة والمواطن على أساس المشاركة والمساءلة. كما أنّ ضعف الوعي المجتمعي بالحقوق الرقمية يجعل المواطن العربي متلقّياً، غير واعٍ بما تتيحه الرقمنة من فرص لمساءلة المسؤولين، والمشاركة في صنع القرار.
ومن المُفيد الإشارة إلى أنّ الشباب العربي أكثر الفئات انخراطاً في العالم الرقمي، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال التعليم والعمل عبر الإنترنت. إلا أنّ هذا الانخراط يبقى غالباً ذا طابع استهلاكي، إذ يندر أن يتحوّل الشباب إلى منتجين للتكنولوجيا أو مطوّرين لتطبيقات أو فاعلين في الاقتصاد الإبداعي. ومع ذلك، توجد مبادرات شبابية واعدة في مجالات البرمجة وصناعة المحتوى، وريادة الأعمال الرقمية في بعض الدول العربية، غير أنّها تظلّ محدودة الانتشار بسبب ضعف التمويل وغياب البيئة التشريعية الحاضنة، وعدم وجود إرادة سياسية داعمة. والمؤكّد أنّ الاستثمار في الطاقات الشبابية مدخل أساسي لأيّ مشروع نهضوي رقمي عربي.
يتطلّب تجاوز هذه التحدّيات المتشابكة صياغة مشروع عربي جماعي للتحوّل الرقمي، يقوم على رؤية شاملة تتعدّى الجهود الوطنية المتفرّقة. هذا المشروع ينبغي أن يستند إلى مجموعة من المبادئ منها تطوير التعليم وربطه بسوق العمل الرقمي، وتحفيز الابتكار المحلّي في مجالات الذكاء الاصطناعي والبيانات المفتوحة، وتوحيد السياسات العربية في مجال الأمن السيبراني، وتأسيس منصّات رقمية عربية مستقلّة قادرة على إنتاج المعرفة، وتوزيعها وفق معايير الجودة والحرية الفكرية. كما يجب تعزيز التعاون بين الجامعات ومراكز البحوث والمؤسّسات الاقتصادية العربية من أجل بناء منظومة رقمية متكاملة، تستثمر الثروة البشرية الهائلة التي تمتلكها المنطقة.
الانتقال من التبعية إلى الفاعلية الرقمية يستلزم إرادة سياسية حقيقية واستثمارًا في الإنسان العربي
ختاماً، يمكن القول إنّ الثورة الرقمية تمثّل فرصة تاريخية للعرب من أجل إعادة تموقعهم ضِمن المشهد العالمي، وتعزيز فعلهم فيه. لكنّها في الوقت ذاته، تمثّل تحدّياً وجودياً إذا لم تُستثمر بشكل واعٍ واستراتيجي. فالانتقال من التبعية إلى الفاعلية الرقمية يستلزم إرادة سياسية حقيقية، واستثماراً في الإنسان العربي باعتباره محور التنمية وأداتها. وإذا نجح العرب في تحويل الرقمنة من أداة استهلاك إلى أداة إنتاج، فإنّهم قادرون على بناء نموذج تنموي جديد يزاوج بين الأصالة والانفتاح، وبين الخصوصية الثقافية والحداثة التقنية. أمّا إذا ظلّوا أسرى البنى التقليدية في التعليم والاقتصاد والأمن والسياسة، فإنّهم سيواجهون خطر التهميش الكامل في عالم يُعاد تشكيله على أسس رقمية ومعرفية جديدة. وبناء عليه، فالانخراط الفاعل في الثورة الرقمية، ليس ترفاً أو خياراً تكميلياً في سياق عربي. بل هو مسار مصيري نحو البقاء في قلب التاريخ أو الانزلاق إلى هامشه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى