
كأنّنا نكتشف السودان أول مرّة، والحال أنه بلد يعاني منذ عقود. كان ميلاد السودان الحديث قيصرياً ومؤلماً، حتّى استوت منذ عقود دولة وطنية مترامية الأطراف، متعدّدة الأعراق والقوميات والأديان، هي الأكثر اختلافاً وتعدّداً من بين الدول العربية. ألوان وألسن ولهجات وتضاريس ومناخات، حتى إنّها جمعت فأوعت… ومع ذلك كلّه، هي في تعدّدها سودان واحد.
ثمّة منا من اكتشف السودان من نافذة رواية “الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح. وثمّة من اكتشفها من نافذة شعر محمد الفيتوري وقصائده الخالدة على غرار “عرس السودان”، و”تحت المطر”، و”أنا زنجي”. وثمّة من اكتشفها من خلال حبل المشيمة الذي وصلها بمصر فترة من الزمن الحديث، حتى إنّ بعضهم يتخيّلها شقيقتها وتوأم روحها، ولم يكن بتر حبل الصرّة مريحاً. وثمّة من أطلّ عليها حين اجتُزّ منها شطرها الجنوبي بقطع النظر عن المساحة والحجم. ونتذكّر تلك الحرب المدمّرة التعيسة التي استمرّت سنواتٍ. وثمّة من اكتشفها أخيراً مع ما سمّي “ثورتها ” في إبريل/ نيسان 2019، وما أكثر الثورات الكاذبة العديدة التي شهدها السودان، حتى إن الناس هناك كرهوا الثورات عموماً، وغدت موضع نقمتهم. وثمّة من اكتشفها من خلال ساستها وقادتها، فيتذكّر جعفر النميري وحسن الترابي وعمر البشير والصادق المهدي… إلخ. ولن ننسى في ذلك كلّه عبد الرحمن سوار الذهب، الحاكم العسكري الوحيد في العالم العربي الذي غادر السلطة إثر انقلاب قاده، وسلّمها بكل بساطة (وسذاجة؟) للمدنيّين. وقد يطلّ عليها بعض نفّاذ الفكر، فيذكر مفكّرين أفذاذاً مثل محمود محمّد طه، ومحمد أبو القاسم حاج حمد.
كأنّنا نكتشف السودان أول مرة، والحال أنه بلد يعاني منذ عقود، لكنه في تعدّده يبقى سوداناً واحداً
لا يمكن لهذه الملامح المُشتَّتة أن تفلح في رسم وجه السودان، فهو أكثر عمقاً وثراء. يقال إنّ الشعب السوداني طيّب، وهذا ما يتأكّد لنا، نحن أشقاءه العرب، حين نعاشر أبناء السودان، سواء في بلداننا أو في المهجر. وهي صورة حقيقية تطلق على شعوب عربية أخرى كاليمن وليبيا. ولكن ها هي طيبة هذه البلدان تنقلب فجأةً بطشاً وقسوةً فيما يشبه صورة دموية، فمن يصدّق أن حرباً عبثيةً تطحن عظام اليمنيين لأكثر من عقد، ومن يصدّق أن الحرب ذاتها تطحن السودان.
لا أطيق رؤيةَ مشاهد القتل، وأتجنب تماماً تصفّح تلك الصفحات خشية أن أُطبّع مع جبال المشاهد والصور الوحشية، ولكن تصل إليّ أصداء ذلك فيما يكتب المدوّنون في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة العالمية. ما يحدث هناك أفظع أحياناً ممّا ارتكبته جيوش النازية. وقد تكون أسباب ذلك واضحةً، فيعتقد بعض المتحاربين في السودان أن العالم منشغل عنهم. وهذه حقيقة مرّة جعلت جرائمهم الشنيعة غير مرئية، فهم فوق المحاسبة متمتّعون بحصانة. جرائمهم مطموسة لا تُرى، أو هكذا يخيّل إليهم، وأنهم في مأمن من المساءلة. لذلك ذهبوا في غيّهم بعيداً فقتلوا “خصومهم” بأشنع الأساليب، حتى اشترى بعض ضحاياهم طرق موتهم “المفضّلة”: القتل بالرصاص، تماماً كما حدث في رواندا، حين كانت الضحية تشتري طرق القتل الرحيم.
صفّق بعضهم لـ”الثورة السودانية”، وقد يكون ذلك شماتةً، ونكايةً، في الإخوان المسلمين، كما يقال في أدبياتنا السياسية السطحية، ولم يكن ذلك مجرّد هبّة شعبية داخلية، بل وفق إرادات إقليمية حرصت على وضع قوسين لكل التجارب المنسوبة إلى هؤلاء… لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرّتين، ولكن لأننا غير مؤمنين بالحرية والديمقراطية، فإننا لا نتّعظ من اللدغ، بل نطلب مزيداً منه، حتى لو كان سمّاً قاتلاً. لن تعاد تجربة سوار الذهب، لذا جاء العسكر مرّة أخرى في تحالف مع اليسار السوداني الذي وجد في زواجه مع أصحاب البدلات العسكرية متعةً، وقد خلصوهم من عمر البشير والصراعات المريرة بين شقَّي “الإخوان”، وبقية عشرات القبائل الأخرى المتنازعة هناك، التي لم تنتبه إلى أن السقف سقط على الجميع بمن فيهم الوطن.
الوطن للجميع شعارٌ ما زال يثير السخرية، لكن هذه السخرية هي التي تقودنا إلى القتل على الهوية
ثمّة خيارات عمدت إليها النخب تحت ضغط مشاعر الشماتة والتشفّي، مثلما حدث معنا نحن أيضاً في تونس، لا يمكن تداركها إلّا بعد دفع أثمان باهظة. ها هي السودان تدفع بعض تلك الخيارات الخاطئة، ومشكلاتها أكثر تعقيداً من حالات عربية تبدو أكثر تجانساً وأقلّ انقساماً، ولكن ثمّة قواعد مشتركة رغم تلك الاختلافات. لم تكن الدولة، هذا الاختراع الحديث، وعاءً يحتوي الجميع، ولربّما لم تكن أصلاً هي القالب الأنسب لانتظام اجتماعنا السياسي. القراءات الديكولونيالية تذهب بعيداً حين تتهم الدولة الوطنية الحديثة في العالمَين العربي والأفريقي بأنها آلة ضخمة غير مناسبة لنا، وأنها مُنتِجةٌ لجلّ أزماتنا. القاعدة الثانية أننا نخب لم نبحث عن المشترك، وذهبنا إلى بناء تراتبيات جديدة في استعراض ما نعتبرها جواهر نفيسة عليها أن تحتل الصدارة في تصنيفنا: عرقنا، ديننا، طائفتنا، مذهبنا، والحال أن المواطنة هي الجامع لنا. الوطن للجميع شعار لا يزال يثير سخرية بعضهم، ولكن هذه السخرية هي التي تقودنا إلى الاقتتال الفظيع: القتل على الهُويَّة.
كيف يمكن أن نوقف شهوة القتل ومشاعر السادية الكريهة التي تنتشر في السودان، وليس الفاشر سوى ما انفضح. ربّما شغلتنا غزّة عن السودان. ربّما شغلتنا سورية عن السودان. ربّما شغلنا لبنان… ولكن لا شيء يبرّر مزيداً من الصمت والتجاهل. لم يعد السودان يحتمل صمتنا لأنه خُذلان. يجب فضح الممارسات، والمطالبة بمحاسبة من أجرم في حقّ الشعب السوداني الشقيق، الطيّب كما وصفه الطيب صالح الذي لم يقرأه أحد من مليشيا الدعم السريع.
المصدر: العربي الجديد
				





