
والشكر موصول لكل الذين أسهموا في إطلاق يد إيدي كوهين من داخل إسرائيل وخارجها لجمع هذه الوجوه وأعلامها المرفوعة داخل المركز الصهيوني–الأميركي في تل أبيب تحت عنوان “الأقليات في الشرق الأوسط”، في ظل “التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها هذه المكونات، من أكراد وعلويين ودروز وإيزيديين وآشوريين في دولهم الأصلية”. وبهذا تكون هذه المكونات قد أطلقت صرختها، ويكون اليمين الإسرائيلي هو من سارع للاستجابة ومد يد العون!
تطرح هذه الفعالية، بالإضافة إلى أهدافها المعلنة، العديد من التساؤلات حول دوافع إسرائيل لاستضافة المؤتمر، والأبعاد السياسية التي يمكن أن تتحرك بها هذه المبادرات، وكيف يمكن أن تؤثر على العلاقات بين الدول والأقليات وحقوقها في المنطقة ،وسبل التحرك على المستويين الوطني والإقليمي لقطع الطريق على حراك استفزازي تحريض من هذا النوع.
في ظل الاضطرابات الإقليمية المستمرة، حيث تواجه دول عدة صراعات داخلية وهشاشة مؤسساتية، تقدّم إسرائيل نفسها كـ “بديل واقعي” قادر على التواصل مع المكوّنات المحلية حين تغيب الدول المركزية. هذا الوضع يتيح لها استثمار هشاشة المجتمعات المحلية وتحويلها إلى أدوات نفوذ سياسي وأمني، ما يجعل موضوع الأقليات في المنطقة محورًا ليس فقط للسياسة الداخلية لتلك الدول، بل أيضًا للأجندات الإقليمية والدولية.
وبهذا تكون هذه المكونات قد أطلقت صرختها، ويكون اليمين الإٍسرائيلي هو من سارع إلى الاستجابة ومد يد العون! على أحدهم أن يخجل فمن سيتطوع؟
بين الأهداف المعلنة حول هذه الخطوة من قبل المنظمين، تعزيز الحوار والتعاون بين هذه الأقليات وبين إسرائيل التي ستكون كعادتها أول من يستجيب ويمد يد العون. من يعرف قيمة ثروة الأقليات عنده، عليه أن يعرف أيضا كيف يحافظ عليها ومن لا يعرف ذلك سيسلمها لكوهين ليحولها إلى ثورة ضده.
قبل التعمق في تحليل المؤتمر، لا بد من التذكير بتعريف مصطلح الأقليات والمقصود به هو المجموعات العرقية أو الدينية أو اللغوية التي تتميز بعدد محدود ضمن دولة ما، وتتمتع بهوية ثقافية أو اجتماعية خاصة. في القانون الدولي، يركز مفهوم حماية الأقليات على المواطنة المتساوية والحقوق السياسية والثقافية، وليس بالضرورة على حق الانفصال أو إقامة دول مستقلة.
القانون الدولي يؤكد أن حماية الأقليات لا تمنحها حق الانفصال التلقائي، بل يوجب على الدول ضمان المساواة والمواطنة الكاملة ضمن الدولة الأم. الشق الخارجي لتقرير المصير يتعلق بالشعوب تحت الاحتلال أو الاستعمار، في حين الشق الداخلي يتيح للأقليات المشاركة الكاملة في الحياة السياسية من دون التمييز. لكن التوصيات التي فرضتها تل أبيب على الحضور هي تذهب باتجاه واحد: الانفصال عن الوطن الأم تحت غطاء حق تقرير المصير، والانضمام الى الدولة الإسرائيلية إذا كان ذلك متاحا.
من هنا فمؤتمر الأقليات في تل أبيب لم يكن حدثًا ثقافيًا أو أكاديميًا عابرًا، بل محطة سياسية محمّلة بالرسائل. اختيار تل أبيب كمكان للانعقاد، وتبنّي منظمات يمينية إسرائيلية تنظيمه وتمويله، ثم توقيته المتزامن مع تحولات إقليمية كبرى في سوريا والعراق ولبنان وتركيا، وكلها مؤشرات على أن ما جرى أبعد من نقاشٍ حول “حقوق الأقليات”، بل هو جزء من محاولة تفكيك بنية المنطقة من الداخل
بالمناسبة في القانون الإسرائيلي، لا يوجد في الدستور نص صريح يعرّف الأقليات أو يتحدث عن ضمانة حقوقها الثقافية والسياسية بوضوح. على سبيل المثال، مادة 1 من “قانون أساس: كرامة الإنسان وحرية الفرد” (1992) تؤكد على حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، لكنها لا تتطرق مباشرة لضمان حقوق الأقليات. هذا يخلق تناقضًا صارخًا بين الخطاب الإسرائيلي حول حماية الأقليات في الخارج، وبين ممارساتها داخل إسرائيل، حيث تُمارس التمييز ضد الفلسطينيين ومكونات أخرى.
من هنا فمؤتمر الأقليات في تل أبيب لم يكن حدثًا ثقافيًا أو أكاديميًا عابرًا، بل محطة سياسية محمّلة بالرسائل. اختيار تل أبيب كمكان للانعقاد، وتبنّي منظمات يمينية إسرائيلية تنظيمه وتمويله، ثم توقيته المتزامن مع تحولات إقليمية كبرى في سوريا والعراق ولبنان وتركيا، وكلها مؤشرات على أن ما جرى أبعد من نقاشٍ حول “حقوق الأقليات”، بل هو جزء من محاولة تفكيك بنية المنطقة من الداخل، عبر توظيف هشاشة المكوّنات الاجتماعية وتحويلها إلى أوراق نفوذ سياسية وأمنية. لقد حاولت إسرائيل أن تنتقل من موقع “المتّهم” بانتهاك حقوق الشعوب إلى موقع “الوصيّ” على الأقليات في مفارقة لا تخفى على أحد. تحاول إسرائيل تقديم نفسها كـ “ملاذ آمن” للأقليات في مواجهة “التطرف”، في حين الواقع مختلف تمامًا.
القوة العسكرية لم تعد كافية لإدارة المجال الإقليمي، والسيطرة الحديثة تمر عبر هندسة الولاءات وبناء شبكات تمثيل بديلة. إسرائيل تستغل هشاشة المجتمعات المحلية، وتحوّل هذه الورقة إلى أداة ضغط سياسية وأمنية تحت شعار حماية الأقليات، في حين الواقع غير ذلك تماما.
المنظم الرسمي هو الباحث اليهودي اللبناني المولد إيدي كوهين، لكن الشبكات السياسية والإعلامية ومؤسسات التمويل هي من تقف وراء هذه المؤتمرات، لتحويل الفكرة إلى واقع عملي على الأرض. هناك تداخل بين أجندات إسرائيلية وغربية: يمين إسرائيلي يبحث عن أدوات نفوذ جديدة، منظمات حقوقية تتبنى خطابًا تجميليًا لخدمة مصالح سياسية، ونخب محلية تبحث عن موقع أو اعتراف في عالم مضطرب.
اختيار إسرائيل مكانًا للاجتماع يعني نقل ملف الأقليات من فضائه الغربي إلى فضاء محكوم بمعايير القوة الإسرائيلية. هي محاولة لتحويل إسرائيل من دولة متهمة إلى دولة تدّعي الحماية، ومن طرف في الصراع إلى حكم يدّعي حماية الأقليات من أنظمتها.
الاستثمار طويل الأمد في هشاشة المجتمعات يتحول إلى أوراق ضغط سياسية وأمنية ودستورية، تحت شعار تفكيك الهوية الوطنية للأطراف الأخرى وإعادة تركيبها وفق المصالح الإسرائيلية.
الرد المطلوب هنا لا يكون فقط بنفي الوقائع، بل بخلق سردية موازية مقنعة توثّق خلفيات المؤتمر وأهدافه، وتُظهر تناقضه مع واقع الممارسات الإسرائيلية في المناطق التي تحتلها ، حيث تُنتهك كل مبادئ حماية الأقليات وحقوق الإنسان.
المتوقع الآن هو بناء مناعة وطنية داخلية تُعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة المتساوية وتغلق أبواب التدخل الخارجي. حين تشعر الأقليات في أوطانها بالأمان والعدالة، تسقط الحاجة لأي “ملاذ” خارجي مزعوم.
لذلك، الدرس الأهم المستفاد ينبغي أن يكون في إطار التحرك السريع على كل المستويات: سياسياً، لتقوية مؤسسات الدولة وحماية السيادة؛ اجتماعيًا، لتعزيز الحوار والمواطنة المتساوية؛ وحقوقيًا، لضمان أن أي معالجة لقضية الأقليات تتم ضمن إطار القانون والحصانة الدستورية.
المصدر: تلفزيون سوريا






