
كان العمل المشترك لقوى العولمة المادية الرأسمالية وحليفاتها – أدواتها – المحلية لتفريغ الدولة ووظيفتها من المضمون الحقيقي وإبقائها كشكل مظهري لا بد منه لإعطاء الشرعية للتنازلات المشبوهة والصفقات الجائرة واتفاقيات التنازل عن السيادة والأرض والامتيازات؛ قد أنتج ظاهرة ” اضمحلال الدولة ” دون سقوطها بالكامل..
وهو الوضع الذي فتح أبواب التناحر الاجتماعي وتحول العلاقات الاجتماعية من مرحلة الأمان وما يرافقه من استقرار وتضامن وتفاعل إيجابي؛ إلى مرحلة الصراع المفتوح بين أبناء المجتمع الواحد بعد أن أجبرهم غياب سلطة القانون على التحول إلى أفراد كل فرد يسعى لتحصيل حقوقه – كما يتصورها ويحددها هو – والدفاع عنها بإمكانياته الذاتية؛ كما تتيح له مواصفاته الشخصية وقدراته وليس كما هو متوجب عليه أو ما يفرضه القانون من حدود للنزوع الشخصي حماية للحرية العامة وضبطا للسلوك الفردي بالحقوق العامة الملزمة للجميع..
وحينما يضطر الإنسان الفرد إلى الاعتماد على وسائله الخاصة ؛ يكون قد دخل – مجبرا – على التصادم مع باقي أفراد المجتمع ؛ نظرا لتضارب الطبائع الشخصية وتنافر المصالح الفردية وغياب القانون كفيصل وسيد فوق جميع الاهواء والطبائع والمصالح ؛ يضبط إيقاعها وينظم تضاربها ويبقيها في حدود الإلتزام بالصالح العام المشترك..
وهكذا يكون الركن الأول والأساسي في تفكك المجتمع قد أصبح واقعا مفروضا على الناس..إن الإنسان ميال بطبعه وفطرته الإنسانية إلى الاستئناس بالجماعة والاحتماء بالروابط الإجتماعية ..إلا أن نزوعه الفردي يدفعه للإستفادة من الجماعة أو استغلالها ؛ إن لم يكن منضبطا بسيادة القانون ورسوخ القيم الإجتماعية – الأخلاقية..
إن ما يفعله الفكر الرأسمالي المادي الإستهلاكي النفعي الفردي ؛ أنه يزرع في العقول فكرة وهمية نابعة من أسسه الفكرية الليبرالية ومفادها : إن سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة هو سبيل لصناعة التقدم في الجماعة..وهذا وهم قاتل مؤداه إباحة كل أنواع النوازع الفردية وما يصاحبها من جشع وإستغلال وإحتكار..فضلا عن تغييب القيم الأخلاقية والدوافع الإيمانية الإنسانية ..
## تعليم الفردية وتعميمها :
بالإضافة إلى تأسيس ” إضمحلال الدولة ” على أسس المحاصصة والتبعية والفساد ؛ لم تكتف قوى العولمة الرأسمالية بتلك الظاهرة الخبيثة وما تتركه من آثار تخريبية مدمرة على بنية المجتمعات الإنسانية ؛ بل سخرت كل إمكانياتها ونفوذها وأدواتها لتصنيع أنظمة للتعليم تنشئ الإنسان الفرد على الفردية الذاتية ومؤداها إعتبار الذات محور التفكير والعمل ..وحينما تكون الذات معيارا للفهم والعلاقات التبادلية ؛ يتأسس عليها وعي قاصر وفهم مشوه مما يؤدي إلى نفعية التفكير والاهتمام والعمل..
إن أنظمة التعليم المسماة ” حديثة “والتي روجت لها وفرضتها قوى العولمة الرأسمالية ؛ ساهمت بشكل أساسي وفعال في تنشئة الإنسان الفردي الذي ينطلق من ذاته وحدودها ومصالحها وإهتماماتها ؛ ليرى العالم من خلالها متخذا إياها معيارا وحيدا لكل شيء..ولما كانت الذات البشرية تختلف من شخص لآخر ؛ تبعا لعوامل تكوينية وبنيوية مختلفة ؛
ولما كانت تتعد المصالح الفردية وتتضارب تبعا لتعدد الأفراد في المجتمع الواحد ؛
يؤدي العقل الفردي أو التفكير الفردي دورا أساسيا في ابتعاد الإنسان الفرد عن الإنسان الآخر وتتضاءل الروابط الإجتماعية – الإنسانية تدريجيا لتحل محلها الفردية الواقعية المنفصلة عن كل إرتباط إجتماعي إلا بقدر ما يحقق لها مصلحة مادية أو يوفر لها منفعة خاصة..وهكذا تصبح الإنتهازية قيمة بحد ذاتها تبرر كل فعل نفعي مصلحي بالمصلحة الفردية..وهكذا تتوالى سلسلة مترابطة من تفكك الجماعة وتراجع قيم الجماعة والعدل وأخلاق التعاون والتكافل لصالح هيمنة الفردية الأنانية والمنفعة الذاتية فيدخل الجميع في دوامة لا واعية من التفكك والإبتعاد والتناحر مما يعني تفكيك المجتمع وسيادة النوازع الفردية النفعية..
إن أنظمة التعليم في ظل العولمة تكرس وعيا مشوها على أساس الفردية الذاتية حتى لا تترك فرصة لأي تبدل في الظروف المجتمعية أن يعيد التضييق على النزعة الفردية ؛ فتعود الروابط التضامنية أساسا ومعيارا وضابطا ؛ بل جعلته – أي وعيه – ينبع من ذات الفرد وعقله ليبقى تبنيه للفردية جزءا مكونا من تفكيره وشخصيته ومنطلقاته..
إستطاع التحالف المشؤوم بين قوى العولمة الرأسمالية مع قوى الإستبداد والتبعية المحلية ؛ أن يعيد صياغة كل أنظمة التعليم لتخدم ذلك الهدف المدمر : الفردية الذاتية..وتجسد ما إتبعته في سلسلة إجراءات تنظيمية وتشريعية تولت تنفيذها أجهزة النظام الإقليمي الحاكم بتوجيه وأمر من قوى العولمة الخارجية :
أ – تهميش التعليم الرسمي الذي يتضمن برنامجا تعليميا موحدا بحكم تبعيته إلى مرجعية رسمية واحدة..وبعد أن كانت المؤسسة التعليمية الرسمية هي الأقوى والأهم ؛ تم تهميشها وإضعافها حتى وصلت إلى مستوى هزيل فإنفض الناس عنها ولجأوا إلى التعليم الخاص الذي توفرت له كل الرعاية الرسمية والدعم والتمويل والتعظيم..
ب – فماذا يعني الإقبال على التعليم الخاص ؟؟
لا يلتزم التعليم الخاص بأية معايير وطنية مشتركة وجامعة..فيغلب عليه :
1 – الطابع التجاري غالبا حيث يشكل إستثمارا وظيفيا مربحا..
2 – التبعية التامة لتوجهات الجهة المنشئة والممولة والمشرفة..وهي في أغلب الأحيان جهات خارجية ذات أهداف سياسية وفكرية خاصة ، أو جهات محلية مرتبطة بتوجهات أجنبية خارجية..
وعليه تكون كل مؤسسة تعليمية خاصة بمثابة توجه ثقافي – فكري – إجتماعي خاص بها ومنفصل عن غيرها من المؤسسات التعليمية..فلا تعود هناك توجهات مشتركة جامعة فتنشأ أجيال ذات مشارب وتوجهات متضاربة يجمع بينها الولاء للفكر الأجنبي وتوجهات المنشىء الممول المشرف..
وبدلا من أن تكون الوظيفة الأساسية لنظم التعليم ؛ هي تنشئة أجيال على أسس موحدة جامعة لتكون قاعدة لوحدة الرؤية والوعي وفهم الهوية والإنتماء ؛ تصبح أداة راسخة في شرذمة عقول وتوجهات وتطلعات ووعي تلك الأجيال..يمثل هذا خطوة بالغة الخطورة على مستقبل الوطن كجماعة مشتركة ذات مصير واحد..وما تشهده الساحات العربية من تصاعد وتيرة المطالبة بإستقلالية تقسيمية إنفصالية لدى كثيرين من أبناء المجتمع تحت مسميات حقوق وحماية ” الأقليات ” ؛ إلا إحدى نتائج تلك الولاءات المتضاربة التي يصنعها التعليم الخاص..
ج – إلغاء مادة التربية الوطنية والمدنية من التعليمين الرسمي والخاص ..فتترك الأجيال تحت تأثير كل غزو فكري مخرب وما يعنيه من إنتفاء الفكر المشترك الجامع ؛ وسيادة الولاءات المتعددة المتضاربة..فضياع الهوية وتشوه الإنتماء والولاء له..
وهكذا تفتقد الأجيال لمصدر موضوعي واحد لفهم الواقع ووعي الحقيقة وإدراك الذات الجماعية وخصائصها ومتطلباتها كوحدة ذات مستقبل واحد موحد..
فيكون هذا سببا أساسيا في تفكيك البناء الفكري – الثقافي للأجيال الشابة بما يعنيه من تكريس لتفكك للجماعة ليس فقط في الواقع الراهن وإنما في المستقبل أيضا..
فحينما يكون التفكك وعيا وفكرا ومعتقدا ؛ يصبح تفكك المجتمع أمرا بديهيا نابعا من الداخل وليس مفروضا من الخارج بالقوة أو بالإغراء المصلحي ..فهذا يمكن التراجع عنه أذا حصلت تغيرات مهمة تؤثر في وقائع الوضع الراهن ؛ أما التفكك النابع من الوعي الذاتي المشوه فلا إنفكاك منه إلا بصناعة عقول جديدة ووعي مشترك جديد وأنظمة تعليمية جديدة..
د – تهميش اللغة العربية :
يستكمل هذا النهج بسياسة منسقة تستهدف اللغة العربية لإضعافها وتهميشها في تعليم الأجيال بوسائل متنوعة :
1 – تصويرها بأنها لغة صعبة والمبالغة في إظهار صعوبتها وتدريسها بأسلوب تعقيدي منفر..
2 – الإدعاء بأنها غير مناسبة لتكون لغة للعلوم الحديثة..
3 – إرغام الطلاب بالتحدث باللغة الأجنبية حتى في خارج أوقات الدرس بحجة تقوية فهمها وإستخدامها..وتدريسها بأسلوب ممتع جذاب..
وحينما يتحقق إضعاف اللغة العربية في عقل وثقافة الطالب العربي ؛ وتزدهر صناعة التعبير باللغة الأجنبية ؛ يتحقق أمران في منتهى الخطورة على الهوية والانتماء :
1 – يفقد الطالب سهولة التعبير عن ذاته ومشاعره وتعاملاته اليومية باللغة العربية ليصبح التعبير باللغة الأجنبية هو الأسهل والأيسر والذي يلبي فيه سرعة التعبير وعفويته..يصبح التعبير بالعربية صعبا مضنيا يحتاج إلى البحث عن الكلمات..فيما التعبير باللغة الأجنبية وكأنه التعبير الحقيقي العفوي السلس المحبب ..وهكذا تتضاءل تدريجيا صلة الطالب بلغته القومية الأم..وتلك هي مقدمة لفقدان الهوية وتبدد الإنتماء..
2 – تضعف صلة الطالب بتراث مجتمعه وأمته وتضعف صلته بتاريخه حينما لا يعود يقوى أو يستسهل اكتساب المعرفة باللغة الأم فيتحول وعيه وفكره عن طريق اللغة الميسرة إلى الإرتباط بهويات غريبة وثقافات دخيلة تبعده عن أصالته وتفقده إنتماءه ..
وهكذا تنشأ أجيال مقطوعة الصلة بواقعها وبثقافتها وتراثها ومعارفها ؛ لترتمي في براثن ثقافات ترتبط بهويات مغايرة..ولما كانت الثقافة تحمل معها قيمها ومنطلقاتها ومعاييرها الإجتماعية الخاصة ؛ تصبح مدخلا لتخلي الطالب عن قيم مجتمعه واقترابه من قيم الثقافة الأخرى التي إقترن بها ..وهكذا يتعمق إغترابه وتتراجع هويته ويتعثر انتماؤه إلى أن يصبح تابعا أو لا منتميا حيال الجماعة التي ينتمي وجوديا إليها..
وفي المحصلة فقد إستطاعت قوى العولمة إختطاف الأجيال الجديدة ورهنها بما تشتمل عليه من قيم فردية ومادية وإستهلاكية بعد أن إستطاعت تحجيم – ثم إلغاء – دور المجتمع في صياغة الوعي وغرس القيم وتعميق مفاهيم ومقومات الهوية والانتماء.. هذا التحجيم والإلغاء اللذين تحققا لها بتفكيك المجتمع عن طريق اضمحلال الدولة وتقويض سلطة القانون وتهميش التعليم العام وتهميش اللغة العربية..
كانت هذه خطوات أفقدت المجتمع قدرته على توجيه العقول وضبط السلوك وحماية القيم العامة المشتركة..
لم تكتف قوى العولمة بهذا ولم تقف عند هذا الحد. فراحت تعمل على تفكيك الأسرة ثم إلغاء دورها في صياغة الوعي وتشكيل الهوية وتعزيز الانتماء. فماذا فعلت وهل تحقق لها ذلك؟


