ترامب يُنقذ إسرائيل من نفسها… بفرض نفسه عليها

دلال البزري

مبعوثون بالجملة يرسلهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إسرائيل: جاريد كوشنر، ستيف ويتكوف، جي دي فانس، ماركو روبيو، وليس أخيراً ربما: مورغان أورتاغوس. غرضهم كلهم منع نتنياهو من العودة إلى الحرب في غزّة، رغم خسارته لها. رغم أنه لم يقض على “حماس”، بدا وكأنه وافق على مبادرة ترامب “للسلام الخالد” (كما يصفه ترامب)، فقط ليحرّر المحتجزين الإسرائيليين الذين كانوا في قبضة “حماس”. وقبل أن يحقق كامل هذا الهدف، ويحرّر الجثث المتبقية… بدأ يعامل القطاع كما يعامل لبنان؛ أي تحت عنوان وقف إطلاق النار، يصول ويجول بنيرانه في غزّة.

عشية وقف إطلاق النار هذا، بدت إسرائيل منتشيةً بقوتها، متفاخرة بـ”الجبهات الست”، منفلتةً من عقالها… تكسب عسكرياً بالقتل والتوغّل والتدمير والتجويع من دون حساب. وكلما شعرت بقوتها هذه، ضعف قدرُها في العالم، انعزلت، أسقطت عن وجهها قناع “ضحية المحرقة”، وتعرّض مواطنوها في الخارج لأصناف من التأنيب والاستنكار… هذا غير الذي بات معروفا بأن مصالح أميركا وتحالفاتها بات يهدّدها جنون العظمة الإسرائيلي.

… وبلغ الخطر مصالح ترامب نفسه، فلجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، وهي أقوى لوبي داخل أميركا، وأكثره ثراء، يضخ ملايين الدولارات على الانتخابات الرئاسية، وفي جميع الانتخابات السياسية الأخرى، يخشاه كل طامح إلى رئاسة ما، وإلى البقاء فيها. علاقتها مع ترامب الأقوى من بين الرؤساء الأميركيين. يقول الخبر الأشبه بالشائعة إن “إيباك” هذه ألهمت ترامب بخطّته “للسلام”، أثرّت عليه بتوجّهه الإسرائيلي الجديد. وهذه مجرّد شائعة، غير موثّقة. لكن المؤكد أن “إيباك” أصدرت بياناً رسمياً “تشكر” فيه ترامب على خطّته “للسلام” في غزّة. وهي تعتبر هذه الخطة “إنجازاً رائعاً”، و”فرصة عظيمة” للتأسيس لـ”مستقبل أفضل لأبناء المنطقة”.

في عهده الثاني، ترك ترامب إسرائيل تفتك بغزّة وتكمل استيطانها الضفة الغربية، رغم أن الأخيرة كانت الصرخة الأولى لإطلاق مشروعه “للسلام

حشد المبعوثين، كلماتهم، إصرارهم، اختراعهم “مركز التعاون المدني العسكري”، الذي يراقب نيران القطاع بقيادة أميركية ومشاركات أخرى تأتي تباعا… ثم الكتابات الأميركية نفسها، الموالية لترامب، والتي تنتقد إسرائيل ونتنياهو. وأشهر أمثلتها ستيف بانون، منظّر اليمين المتطرف، الشريك الندّي لترامب، وقد عادت كتاباته إلى الصدارة. وفكرته التي يردّدها: “إسرائيل دولة تابعة للولايات المتحدة”. وتصف هذه الفكرة الطبيعة “الحقيقية” للعلاقة بين أميركا وإسرائيل. يهاجم نتنياهو بعنف؛ مرّة لأنه خاض حرب الأيام الاثني عشر ضد إيران، و”أرغم” ترامب على مساعدته، ومرّة لأنه يأمر بمهاجمة قطر، والآن، لأنه “يعرقل” وقف إطلاق النار.

والاميركيون، هذه المرّة، أوجدوا مناخاً جديداً في إسرائيل، لم تعرفه منذ تأسيسها. يدافع نتنياهو مثلا عن نفسه أمام دي جي فانس، يقول له: “نحن لسنا محمية أميركية… لا نريد ذلك (…). هذه ليست إسرائيل”، فيطلق بذلك العنان لنوع الإحباط الإسرائيلي، بعد جنون العظمة، وصناعته “شرقاً أوسط جديداً”، وكل الترهات التي رافقت “انتصاراته الشاملة” عل الجبهات.

فتنهال الشكاوى، وتكتب صحيفة يديعوت أحرونوت في افتتاحيتها: “إسرائيل أصبحت الولاية الواحدة والخمسين للولايات المتحدة (…). إسرائيل أصبحت تهيمن عليها الولايات المتحدة أكثر من أي يوم مضى”.

كلما شعرت إسرائيل بقوتها، ضعف قدرُها في العالم، انعزلت، أسقطت عن وجهها قناع “ضحية المحرقة

الشكوى نفسها تجدها في الصحافة الإسرائيلية اليسارية. في “هآرتس”، تكتب كارولين لاندسمان بحسرة: “إسرائيل باتت اليوم ملكا لأميركا. والحق بتقرير المصير تحوّل إلى كلمات فارغة. من الآن فصاعدا، كلنا ملك ترامب – ويا لها من لذّة جَماعية! (…). كان عليكَ النظر إلى وجوه الائتلاف الحاكم والمعارضين والوزراء والنواب. جميعهم يشعرون بالفرح بوجود ترامب بينهم! (…) إنها فرحة من تخلص من وزْر السيادة، من ثقل المسؤولية، من ضرورة اتخاذ قرار (…) مثل المرأة التي تسلم نفسها لعشيقها، تخلّصت إسرائيل من كورسيه (مشدّ) السيادة الذي كان يخنقها. فخضعت لترامب خضوعاً لذيذاً”. وتنهي الكاتبة مقالها بالتساؤل: “هل كنّا حقاً نريد بناء دولة مثل الدول الأخرى؟ أم كنا نريد بناء غيتو حديث، بوابة تغلَق من الداخل، مفاعل نووي، سوق حرّة وشبكة إنترنت؟ (…). ما أردناه حقا شخص أكبر منا وأقوى يقول لنا: “هيا، يا حبيبتي، كل شيء على ما يرام. دعيني أهتم بكل شيء. استريحي” (…). وهكذا تحرّرنا وعُدنا إلى وضعنا الطبيعي، أي ذُمِيّين”.

مع أن ترامب سلّفهم كثيرا. في عهده الأول، حقّق اتفاقية أبراهام، وتطبيعاً بين إسرائيل وعدة دول، اعترف بضم القدس الشرقية إلى إسرائيل. وفي عهده الثاني، ترك إسرائيل تفتك بغزّة وتكمل استيطانها الضفة الغربية، رغم أن الأخيرة كانت الصرخة الأولى لإطلاق مشروعه “للسلام”. وتركها طبعا تفلح جنوب لبنان بنيرانها، وتُكمل على الحوثيين… وهو كافأ نتنياهو على قبوله هذه الخطّة بأن طلب من رئيس الجمهورية إعفاءه من المحاكمة بتهم الفساد.

نقاط الخطة الترامبية “للسلام الخالد” تزداد تفاصيلها وتأويلاتها كلما احتكّت بالميدان، كلما مرّ الوقت

ومع أن أحداً من الزوار الأميركيين لم يتكلم إلا وكانت اللازمة الواحدة تختم هذا الكلام “ليس الآن…”، “نفعل ذلك لصالح إسرائيل…”. أي أن كل ما تفعله أميركا الآن هو الحفاظ على مصالح إسرائيل، التي لم يعرف أبناؤها كيف يحافظون عليها. حول الضفة الغربية، مثلا، يرفع روبيو الحرج عن نفسه، يطالب بعدم مناقشة ضمّها في الكنيست “الآن، في هذه اللحظة… ونعتقد أن المناقشة تهدد اتفاقية السلام”. يريد السترة الآن. أي أن تستمرّ الاعتداءات اليومية على الضفة الغربية وأهلها، ولكن من دون إعلانات وقرارات رسمية… ومثل آخر مع فانس الذي يفتتح “مركز التعاون المدني العسكري”، ويتجنّب التلاسن مع نتنياهو حول “إسرائيل محمية”، ينهي كلامه “من أجل ضمان أمن إسرائيل”… هذه اللازمة رافقت أيضاً جاريد كوشنر وستيف ويتكوف في جولاتهما الإعلامية.

حصلت خلافات كثيرة بين إسرائيل وأميركا على مدى ثلاثة أرباع القرن الماضي. كانت كلمات لا تليها أفعال. فقط في العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا)، وقفت أميركا بحسم ضد إسرائيل: رئيسها آنذاك دوايت أيزنهاور أمر بانسحاب إسرائيلي مباشر من سيناء، وهدّد إسرائيل بعقوبات اقتصادية قاسية في حال لم تستجب.

ولكن حدّة تعارض المصالح مع ترامب ترتفع. إنها المرّة الأولى التي يعترض فيها رئيس من الحزب الجمهوري على إسرائيل، هو من أشد المؤيدين لها بين الجمهوريين. الآن، تترسّخ أكثر فأكثر نقاط التعارض بين ترامب وإسرائيل. وهي نقاط باردة، مبنية على مصلحة أميركا.

ربما نصل إلى يوم يلتحق فيه الإسرائيليون بالفلسطينيين لـ”طرد المحتل الأميركي من الشرق الأوسط“…

ونقاط الخطة الترامبية “للسلام الخالد” تزداد تفاصيلها وتأويلاتها كلما احتكّت بالميدان، كلما مرّ الوقت. اليد الأميركية العليا سوف تشتدّ على إسرائيل. وندخل في نوع من شدّ الحبال، يشبه حبالنا، نحن أبناء المشرق. وقد تتحوّل إسرائيل في هذه الحالة إلى ما هي عليه منذ بدايتها: أي محمية أميركية، تسلحها أميركا. وكلما اشتد الخناق الأميركي عليها، انقضّ حكامها على محكوميها. دولة شرق أوسطية “عادية”، بعدما كانت “طروادة الشرق”.

من يعلم؟ عملية “السلام” هذه مكتوبٌ لها الكثير من الشدّ والجذب الدوليين والإقليميين. وقد يتخلّلها خرقٌ لوقف إطلاق النار. سوف نتابع عن كثب كيف تركب “خطّة السلام الخالدة” الأميركية في غزّة، بكل تفرّعاتها، الفلسطينية اللبنانية السورية، وعلى الإرادة الإسرائيلية مكبوحة الجماح. أي صراع؟ أي تعارض جذري، أو جزئي، أو مؤقت للمصالح، بين إسرائيل وأميركا بشركائها الكاملين أو الجزئيين؟ ربما نصل إلى يوم يلتحق فيه الإسرائيليون بالفلسطينيين لـ”طرد المحتل الأميركي من الشرق الأوسط”… ربما، بعد عقود من خطّة ترامب “للسلام الخالد”.

(ملاحظة: أخطأتُ التقدير في مقالي السابق، إذ كتبتُ أن ترامب سيتلهى عن غزّة بالسلام بين روسيا وأوكرانيا. والحقيقة أن وساطته بين الدولتين راوحت بين المراوغة والمزاجية. وترامب الآن في مرحلة “اليأس” من صديقه بوتين. وفرض العقوبات على روسيا لأنه ضحك عليه، بأن جعله يرفض مساعدة الأوكرانيين بصواريخ “توماهوك”… والآن، خلافاً لتوقّعي، ينكبّ اهتمامه على خطّته “للسلام الخالد” في غزّة. وإن زاغ عنها قليلاً بـ”السلام الذي أنجزه” بين كمبوديا وتايلند…).

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى